لتبقى قابضًا على فسيلة الأمل وإن مت دونها!

أتقلب بين عجز وقهر، أشعر أن الكلمات لا معنى لها ولا جدوى منها، كل شيء يبدو ضئيلا متهافتا إذا قسته بهذه الصورة القاتمة المخجلة التي صرنا عليها كأمة وكشعوب تلتهب بسياط حكامها ثم لا يقف الأمر عند هذا الحد، بل إنك كلما فهمت شيئا مما يجرى فهمت معه أن القادم أسوأ وأن الجمر الذي أكل الأطراف لا محالة واثب إلى القلب، فلنقل إن القلب مريض ولا شفاء له إلا بهذا، لنقل أن هذا أدعى إلى الإفاقة لكن تظل الصورة مفزعة مميتة، لا تُبقى لك عقل تتفكر به أو حلم تتسامى لتحقيقه إلا أن تتداركك رحمة من الله فتظهر لك آية أو حديث يعيد نبضك إلى الانتظام وإلى بذل الأسباب.

كان حديث الفسيلة هذه المرة من طرق قلبي، حديث طالما أحببناه، تعلمناه وعلمناه لكن العلم النظري شيء والعلم عن الواقع شيء آخر، كل هذا الفزع، الألم، القهر الذي يطالنا لا يساوى شيئا أمام زلزلة الساعة وفزع القيامة، ولكنك مأمور بأن تغرس الفسيلة حينها!!

مأمور أن تقدم ما بيديك وإن بدا لك ألا معنى له ولا جدوى منه، مأمور وأنت على حافة الآخرة تستقبل كل معاني الهول أن تبقى قابضًا على فسيلة الأمل وإن مت دونها، مأمور أن تبذل وأن تمد يديك وإن فارقك الناس جميعا أو قاربوا، إنه يجيبك حين تسأل: أنى لنا الغرس وكيف وفى أي أرض وأنت ترى كيف تُقتلع كل نبتة صالحة ويُجتث كل غرس طيب، بل إن سيف البطش متربص لقطع أي يد تمتد لغرس أو بذر!! فجوابه الواضح أن اغرسها فإن القيامة كذلك لن تبقى على نبتتك لأن الأرض نفسها لن تبقى وأنت كذلك لن تبقى، تذكر لن يبقى غير ما عملت وعملوا في كتابك وكتابهم.

دروس في الأمل واليقين

هزني الحديث، شعرت أن لطف الله ورحمته تأبى على العباد أن يصلوا إلى قاع اليأس فيقتلوا أرواحهم ويخنقوها داخل أسوار عجزهم.

أُفكر لو لم يكن مثل هذا الحديث لدينا لكان متوقعا أن تشفق الأيدي من بذل لن ترى ثمرته أو تتمتع بظله فتغادر موقعها معلنة أنه لا أمل ولا سبيل.

سعد بن الربيع

ثم ها هو أحد العلماء في إحدى دروسه يذكرني بمقالة سعد بن الربيع في غزوة أحد، هذا المجاهد الشهيد الذي وصله رسول رسول الله وهو يودع أنفاس الحياة فيجدها فرصة ليكمل جهاده في سبيل الله بوصية إلى الأنصار أن يقفوا حياتهم دون رسول الله فلا يخلص إليه أحد.

استنفد الصحابي الجليل حياته مجاهدا بنفسه في سبيل دينه وبقيت له أنفاس أبى إلا أن يستنفذها مجاهدا بقولة، يقولها في وقت بدا فيه الإسلام مطعونًا جريحًا، يكاد أعداء الله النيل من رسوله، فما أفقده ذلك عزمه ويقينه ورغبته في النصح لأمته.

أنس بن النضر

وقريب منه قول الصحابي أنس بن النضر في نفس الغزوة حين أشيع مقتل الرسول وتخاذل بعض المسلمون حزنا وغما فوجههم بدفقة إيمانه المشتعل إلى أن ينفقوا ما تبقى من حياتهم على ما مات عليه زعيمهم، فلا مجال للحزن أو اليأس بل استكمال للطريق وإن بدا أنها نهايته المقدورة!

رغم الكيد سنبقى

ثم قرأت بعد ذلك مقالًا مُترجمًا عن بعض المذابح التي قامت بها الدول الكبرى منذ صارت كبرى (في الشر والكيد) وحتى اليوم، مذابح يشيب لها الولدان؛ دول أبيدت عن بكرة أبيها وأخرى قتل نصف سكانها، آلاف أجبرت على الرحيل وتلك هُجرت بالكامل واحتُلت أراضيها، وغير ذلك من الأهوال التي لا ينساها التاريخ.

فما يمر بنا هذه الأيام وبأمتنا المراق دمها أنهارًا ليس جديدًا في هذه البشرية التي دأبت على سفك الدماء، لا يعنى ذلك الاستهانة به وبهوله وبشاعته التي تزيد منها تطور آلات الحرب وأسلحتها، وإنما يعلمنا ذلك أنه ليس النهاية التي تعقبها القيامة وأن دورنا ليس بكاء العاجز وانتظار الموت الغادر المهين، بل الدفع ما استطعنا والتشبث بالأمل واليقين مهما حاولوا اقتلاعه وقتله.

ولو نظرنا لتلك القوى التي تتحكم بنا اليوم كيف كان حالها قبل أقل من قرن وكيف طحنتها الحروب المستعرة يوما حتى كادت أن تفنيها، لازداد يقيننا بقول ربنا “وتلك الأيام نداولها بين الناس” وبأهمية أن يبقى الخير (وإن كان ضعيفا واهيًا) على بذله، حريصًا على موقعه، مصرًا على منازلة الشر كلما تحين له الفرصة.

غير أننا لن نفعل ذلك لنكف طائر الموت عنا أو لنهنأ ببعض وسائل العيش فحسب بل لأن لنا دينًا يحرضنا نربط على القروح وأن نمسح جراحاتنا ونمضى لاستكمال عدتنا ونحن نتمثل قوله تعالى:

 ولا تهنوا ولا تحزنوا وأنتم الأعلون إن كُنْتُمْ مؤمنين

بقلم: فاطمة عبد المقصود

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى