علمنة رمضان: كيف ينتهك الإعلام العربي قدسية الشهر الكريم

شهر رمضان هو أطول مواسم الطاعة عند المسلمين، وهو برغم هذا أيامٌ معدودة، وساعاتٌ سريعة المرور، ولحظاتٌ وجيزة يتعرض خلالها المسلم لنفحات رحمة المولى منذ بداية الشهر الفضيل، ومن خصائصه أنه محدود زمنيًا وغنيّ بجواهر الغفران التي تتفتح السماء عليها لمن يقتطفها في الأيام والليالي، من ثم تعمل وسائل الإعلام على استنزاف وقت المتابع وشده إليها وشَغله المتواصل حتى تتمكن من سحب بساط الوقت منه.

في سباقٍ متصاعدٍ يبدأ حتى قبل رمضان بالدعاية والترغيب، حيث تُسخِّر في ذلك الأموال الطائلة، فقد بلغت تكلفة الإعلانات لشركات الاتصالات لرمضان في مصر مثلًا 290 مليون جنيه لسنة 2019، بينما جمعت 10 قنوات فضائية مصرية نحو 1.5 مليار جنيه إيرادات في أسبوعين من رمضان 2016، في حين تجاوز أجر أحد الممثلين المصريين الـ45 مليون جنيه في رمضان 2018، وهكذا في بقية البلاد العربية؛ ما يعكس التوجه الخاص للمؤسسات الإعلامية في هذا الشهر الكريم.

قيمة رمضان المركزية في واقع الأمة

من رحمة الله بهذه الأمة أن جعل لها مصادر إحياء داخلي تتجدد فيها الحياة ذاتيًا، كمواسم الطاعات التي تتوزع على زمنٍ متكرر في عمر كل مسلم، منها الحج مرةً واحدةً في العمر لمن أمكنه، ومنها ما يتكرر كل سنة كرمضان، ومنها ما يتكرر كل أسبوع كصلاة الجمعة، ومنها ما يتكرر كل يوم كالصلوات الخمس المكتوبة.

كما اختصت هذه المواسم بهباتٍ من المغفرة التي تطلق الجوارح في الحركة من جديد، وعطايا من الأجور العظيمة، وتنوعت لتشمل كل المقبلين فكانت كنداء للملمة شتات المسلمين وإيقاظ الغافلين وتذكيرٍ بالطريق الذي اختاره رب العباد لهذه الأمة وميزها به عن سائر الأمم. بهذا يصبح شهر رمضان شهرًا مصيريًا في حياة الفرد وفي حياة الجماهير، ففيه يرتفع المسلم عن التصاقه بقبضة الطين، ويرتفع بروحه إلى إشراقها.

وتتفتح البصائر على معاني العطاء والبذل، ويسمو المسلم فوق أوحال المادة الضيقة إلى آفاقٍ رحبةٍ تنكشف فيها القيمة الحقة للذات الإنسانية، وتُضاعَف فيه الأجور أضعافًا كثيرة، كما تصبح حياة الشعوب المؤمنة أكثر تماسكًا وترابطًا ووحدة، وحدة تزول معها الخصومات، وتتصاغر في سبيلها الخلافات، كما يتهيأ كل ما سبق بتصفيدٍ لشياطين الجن، وبهذه المعاني يتحول رمضان إلى موسمٍ إحيائيٍّ تُصنع فيه الأمة وتتجدد.

عقيدة المؤسسة الإعلامية العربية

مرت الأمة الإسلامية بعدد من المراحل أسهمت في تكوين ملامح المؤسسات الموجودة حاضرًا فيها، فقد زرع الاستعمار بذور التغريب خلال الاحتلال المباشر عبر صناعة النخب الفكرية التي ستنوب عنه في حكم البلاد بالتمكين لها، بحيث تصبح قابضةً على زمام الأمور في جميع المؤسسات السياسية والاقتصادية والاجتماعية والتعليمية والفكرية والثقافية، وتصدر سياساتها عن تصورها العلماني.

بذلك يمكننا القول بأن العَلمانية هي عقيدة المؤسسة الإعلامية في بلداننا العربية، ولهذا من الطبيعي أن تتبنى الجامعات في تدريس الإعلام المنهج الأمريكي في بلدان المشرق، والمنهج الفرنسي في بلدان المغرب.

الواقع من خلال المؤسسة الإعلامية العربية

تنقل المؤسسات الإعلامية العربية الصراع الذي عاشته العلمانية الغربية مع الكنيسة في أوروبا إلى واقع المسلم، بحيث يصبح الدين أهم مستهدَف لهذه الأجهزة، وباتخاذها للدين كهدفٍ تمتهن الشاشات كل ما يمكن أن يقوضه ويقوض عرى الهوية في البرامج والمواد المقدمة للمتابع العربي، من ثم تسعى إلى فصل الفرد عن جذوره وترويضه فكريًا لقبول العقائد والتوجهات المعادية، وهذا الأمر الذي يهيئ أرضية التوسع أمام قوى العولمة بعد إخماد نزعة التحرر الكامنة في الجماهير.

كما تقوي المؤسسات الإعلامية النزعة الاستهلاكية خدمةً للفلسفة المادية وتكرسيًا لها حتى تصبح هي القيمة التي يتفاضل من خلالها أفراد المجتمع، ملغيةً بذلك البعد الأخلاقي في التعامل الاجتماعي معوضةً إياه بعقلية السوق المبنية على النفعية والاستهلاك.

كما تسعى وسائل الإعلام العربية إلى التزييف الممنهج للواقع عبر هندسة المعلومة المعروضة، بحيث يجري توظيفها لتخدير المتابع وتوجيه رأيه، والتركيز على استثارة الشهوات مقابل تغييب التفكير السليم، وتغليف الأفكار المستهدفة ثم تقديمها بحيث تغتال الشاشات العقول وتتلاعب بالمشاعر بطريقةٍ مدروسة. والأمر الأكثر خطورة أنه يُعاد تعريف الأمة الإسلامية وتربية أجيالها من خلال هذه المؤسسة الإعلامية.

تبعية المؤسسة الإعلامية العربية

تعيش الأمة الإسلامية اليوم تحت الهيمنة الاقتصادية والعسكرية والسياسية والإعلامية التي تفرضها أمريكا والمركز الغربي، وبذلك تتعدد القيود المستعملة حتى لا تستطيع الأمة التحرر واستئناف جماهيرها للحياة وفق رسالتها الحضارية الخاصة والمميزة. وباعتبارها إحدى أهم وسائل الهيمنة، تعمل المؤسسات الإعلامية وفق سير محدد ترسمه لها تقارير مراكز البحوث العالمية، تقوم دور الإعلام بترجمة هذه التقارير إلى برامج ومسلسلات وأفلام ومواد ترفيهية تحمل الأفكار المراد نشرها في مجتمعاتنا.

يترتب على هذا صعود وجوه إعلامية وتصديرها كقدوةٍ، أو توفير المنابر الدعوية لمن يحملون في ثنايا أطروحاتهم نشر الشبهات بين شباب المسلمين تحت شعار التجديد والعقلانية، وتصنع قدوات على المتابعين تقليدها، بينما تسعى البرامج الرمضانية إلى تهوين قضية التطبيع مع الكيان الصهيوني، كما يجري تلميع أفكار الزنادقة الذين تستجلبهم سيناريوهات المسلسلات من مزابل التاريخ ليقع تلميعهم وإعادة إخراجهم وفق رؤية البرنامج الثقافي الأمريكي في المنطقة.

كما تعمل القوى الأجنبية على إنشاء وتمويل المحطات العربية ورعايتها حتى تتواصل الحرب الفكرية الغازية لعالمنا الإسلامي، هذا فضلًا عن الجهود المبذولة لابتلاع الثورات العربية وتشويه محاولات التحرر وإخفاء الحقائق الصادمة عن عمليات النهب الذي تمارسه الشركات الغربية من مال المسلمين مقابل نشر المخدرات الفكرية.

تصعيد القوى العلمانية للإغواء في رمضان

مع إدراك قيمة هذا الشهر الفضيل ومركزيته في حياة المسلم وحياة أمته، تتكالب أجهزة الإعلام في تصعيد مستوى الإغواء، فيتدفق سيل الملهيات عبر الشاشات العربية تدفقًا مفزعًا لعرض كل ما يصادم الدين ويطعن في المعتقد، وعلى طيلة الشهر تتنوع المواد التي تستنزف انتباه مختلف الشرائح العمرية، وتتوزع الرسائل المقدمة من زرعٍ للشبهات إلى إثارةٍ للشهوات وتهوينٍ للمحرمات، مع استغلال الدراما واستمالة العاطفة لتمرير الأفكار دون وعي المتابع.

فبين ثنايا تلك المشاهد تُصنع نفسية القبول، وينخفض الحس النقدي، وتتكون فكرة الاستهانة، مع تركيز العروض على العلاقات المحرمة والمشاهد الخمرية وقصص الخيانات الزوجية، إلى الإدمان والشذوذ وكل ما تستقذره الأذواق السليمة. يُقدَّم هذا بدعوى نقل الواقع، بينما هو صناعة وتشجيع على واقع يراد تعميمه، حتى تبلغ إباحية بعض البرامج حدًا فجًا يُجاوِز كل حدود.

الدفع الحاد نحو الاستهلاكية في شهر الصيام

وفي شهر الصيام تدفع الشاشات العربية المتابع دفعًا إلى النَّهَم في الاستهلاك، عبر الإشهار المركَّز على تنمية شهوة الاقتناء، لإلغاء الجوهر الروحاني الرمضاني المبني على عدم الإسراف واستبداله بصناعة الشهوانية. كما يجري توجيه المرأة العربية إلى الانشغال بأصناف المأكولات الخاصة برمضان التي يُستجلَب لعرضها الخبراء في برامج الطهو،.

كما تركز الإذاعة والتليفزيون على نقل عقلية السوق بالتداول اليومي لأسعار المأكولات، ويفسر هذا التصاعد الاستهلاكي الذي يحدث في شهرٍ رسالتُه الصيام وكبح جماح الشهوات، كما تتَّبع وسائل الإعلام العربية هذه السياسة التسويقية استجابةً للفلسفة الغربية، التي ترى من الكائن البشري مجرد مستهلكٍ لمنتجاتها مقيدًا بإغراءاتها، تسحبه إعلانات السلع سحبًا إلى أي طريقٍ شاءت.

رسالة المؤسسة الإعلامية العربية

في عصرٍ أصبحت فيه إدارة المعلومة من أبرز الأسلحة لكسب جمهورٍ من المؤيدين وصناعة الولاء أو تحييد المخاطبين عن حقيقة الصراع ببث الشبهات وإرباك القناعات لإشاعة حالةٍ من التيه، تحولت المؤسسات الإعلامية إلى مراكز قوى استراتيجية تعمل لصناعة مناخ إعلامي يقيد العقول ويستلب الأفكار ويستميل العواطف.

حيث تخوض هذه الأجهزة معركة موجَهة يقوم عليها المنتفعون بتجارة المعلومة عبر تسويق الانحلال وتزييف الوعي، وإن كانت هذه الحرب متواصلة خلال كامل السنة إلا أن سعارها يلتهب في شهر رمضان بالذات، معلنةً الاستنفار التام لكل أساليب بث الفجور وتقويض أواصر الديانة.

الصناعة الإعلامية والقضايا الإسلامية

تصدر عن المؤسسات البحثية الأمريكية، مثل مركز راند، تقارير تبحث في كيفية صناعة توجهات فكرية موالية تعمل من داخل الأمة، هدف هذه التقارير هو إمداد المسؤولين عن القرار الأمريكي بكامل المعلومات والتوصيات التي ستتحول فيما بعد لسياسات يعملون وفقها لصناعة قيم استعمارية داخل المجتمعات.

ولا تغيب التوصيات الأمريكية على شاشات الإعلام العربي، بصناعة قولبة للشخصية المسلمة الملتزمة، وربط المظهر الإسلامي كاللحية بكل العادات والصفات المستقذرة والمنفرة، ثم يحدث تعميم هذه الصورة النمطية وتضخيمها والمبالغة فيها وتكرارها، وطبعها في ذهن المتابع كحكم عام على كل ما يرتبط بهذه الشخصية، مع مرور الوقت تترسخ هذه الصورة أكثر في عقول المتابعين خاصةً مع تنوع وسائل عرضها.

هذا القالب الجامد الذي تصنعه الآلة الإعلامية لشخصية حامل قضية الإسلام يجري استخدامه لتكوين رأي عام معادٍ لكل فكرة ترتبط بالمتدين، وهذا ما يجعل العدوان عليه مبررًا ومشروعًا، ويجعل معاناتهم في السجون والطغيان المسلط عليهم في طي النسيان، يحدث هذا خاصةً في رمضان مع كثرة المنتجات الإعلامية، لصناعة توجه فكري له تأثيره البارز في تفاعل المجتمعات مع قضاياها الحاسمة، في حين يجري تغييب الوعي الحق وراء جدران الكتمان.

حتى لا يسرقوا منا رمضان

من الأساليب المتكررة قديمًا وحديثًا للصد عن سبيل الله والتلاعب بالجماهير أن الصادين كانوا يرفعون أصواتهم ويُحدِثون جلبةً للتشويش على دعوة النبي -صلى الله عليه وسلم-. وفي ذلك يقول -تعالى-:﴿وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لَا تَسْمَعُوا لِهَذَا الْقُرْآنِ وَالْغَوْا فِيهِ لَعَلَّكُمْ تَغْلِبُونَ﴾ [فصلت: 26]، فكانوا يفتعلون هذا اللغو حتى يعطلوا وصول الحق إلى الناس.

قال ابن كثير: “كانوا إذا تُلِيَ عليهم القرآن، أكثروا اللَّغَط والكلام في غيره؛ حتى لا يسمعوه”، وقال الشوكاني: “أي: عارِضوه باللَّغْو والباطل، أو: ارفعوا أصواتكم؛ ليَتَشَوَّشَ القارئُ له”، وهذا ما تفتعله وسائل الإعلام لتصد عن فكرة الحق في كل زمن، على اختلاف الوسائل المتاحة. فها هم يصعِّدون اللغو في موسم تلاوة القرآن وتدبره حتى يصدوا عنه ما استطاعوا، ويبثوا التشويش عبر الملهيات وإثارة الجدل في المسلَّمات كي لا تصفو النفوس.

كما تتشابه أساليب الغواية والإلهاء، منها ما كانت قريش تستخدمه في حربها النفسية بتحديد الوقت والحدث المناسبين، أو استمالة الجماهير من طريق الشهوة، وهي حربٌ متواصلة، على المسلم أن يدركها كي لا يقع فريسة الإعلام المضلل، وكي لا يُحرم في هذا الشهر الكريم من التزود لعامٍ مقبل، وهو أمرٌ يستوجب أن نقوم بتصفيد هذه الشياطين حتى لا تسرق منا رمضان، ولأن رمضان مفترق طرق:

ﻭَﺍﻟﻠَّﻪُ ﻳُﺮِﻳﺪُ ﺃَﻥْ ﻳَﺘُﻮﺏَ ﻋَﻠَﻴْﻜُﻢْ ﻭَﻳُﺮِﻳﺪُ ﺍﻟَّﺬِﻳﻦَ ﻳَﺘَّﺒِﻌُﻮﻥَ ﺍﻟﺸَّﻬَﻮَﺍﺕِ ﺃَﻥْ ﺗَﻤِﻴﻠُﻮﺍ ﻣَﻴْﻠًﺎ ﻋَﻈِﻴﻤًﺎ

المصادر

مؤمن سحنون

أرجو أن أكون من الساعين لأن ننال يوما الحرية، الحرية بمعناها الشامل لأمة تعرف رسالتها.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى