آلية تولي السلطة في الإسلام

هذه قضیة تشغل الكثیرین، ویراها البعض معضلة لا حل لها، ویظن آخرون أن النظام الدیمقراطي الفاشل هو الذي حلها وعالجها وأتى بالخلاصة فیها! وهذا الموضوع حتى تفهمه بعمق أطلب منك أن تقرأه من بدایته حتى آخره بتركیز شدید وأن تنتبه لتسلسل الأفكار فیه جیدا : بدایة كي تفهم الأمر بعمق یجب أن تعرف أن السلطة هي واقع یحصل على الأرض، فالشخص لا یوصف بأنه حاكم أو سلطان إلا إذا كان بالفعل له سلطة وقدرة على أرض الواقع، هذا وصف مجرد لا یعني المدح ولا الذم، فنحن نصف الشخص بأنه صاحب سلطة بعیدا عن كونه صالحا أو غیر صالح، مسلما أو غیر مسلم، وبعیدا عن كوننا نعترف بشرعیة سلطته أو لا نرى له شرعیة، سواء كنا نحاربه ونواجهه أو لا، سواء تولى السلطة بالقهر أو تولاها بالرضا، كل هذا لا یؤثر في وصف الواقع بأنه سلطان أو حاكم، وهذا واضح بمدلول اللغة نفسها، فالسلطان هو من له سلطة، والحاكم هو الذي یحكم، ومجرد استحقاقك للسلطة لا یعني أنك قد أصبحت سلطانا على أرض الواقع، وإنما تصبح سلطانا إذا تملكت السلطة والقدرة فعلیا على الأرض.

كل المجتمعات البشریة لا تخلو من وجود سلطة تجمعهم في سیاق واحد وإلا لن یكونوا مجتمعا بل سیكونون أشتاتا وأفرادا، والسلطة في المجتمعات البشریة نوعان : (سلطة ثابتة – وسلطة متغیرة).

السلطة الثابتة هي ما یمكن التعبیر عنها بمراكز القوة على الأرض، وهي ما تمثل “النظام” في الشكل الحدیث للدولة، هذه السلطة سمیناها ثابتة لأنها لا تتغیر بمجرد تغییر رأس النظام، فقد یموت رأس النظام أو یُخلع أو یتنحى وتظل هذه السلطة قائمة ومتحكمة في الأوضاع، فرأس النظام هو “سلطة متغیرة” ولا یكتسب سلطته إلا من خلال اعتراف مراكز القوة به، وفي الحقیقة إذا لم تذعن مراكز القوة له ولم تعترف به فلن یتمكن من الحكم الحقیقي!

في “الجزائر” في أوائل التسعینات عندما اكتسح الإسلامیون الانتخابات البرلمانیة، قررت مراكز القوة ألا تمكن الإسلامیین من السلطة المتغیرة (البرلمان) ونجحت لأنها صاحبة السلطة الثابتة في البلاد، وفي مصر تركت مراكز القوة مرسي یتولى ظاهرا السلطة المتغیرة (الرئاسة) ولكنها لم تكن مذعنة له ولا معترفة به فأصبح رئیسا صوریا بلا قدرة ولا سلطة، إلى أن قررت هذه السلطة الثابتة عزله عن الرئاسة الصوریة فتم عزله بخطاب واحد، وأما في “الثورة” الرومانیة فقد أسقطت الجماهیر الغاضبة الدكتاتور تشاوتشیسكو رئیس الجمهوریة وزعیم الحزب الشیوعي بل وأعدمته في الشوارع، وبعدما أسقطوا ( السلطة المتغیرة ) التفوا حول (السلطة الثابتة) المتمثلة في جنرالات الجیش وبعض رجال الحزب نفسه، متناسین أن هؤلاء لیسوا سوى النظام الذي كان یعطي الشرعیة لتشاوتشیسكو!!

أجرت هذه السلطة انتخابات برلمانیة فاز فیهما رجال الحزب الشیوعي القدامى تحت اسم جدید بأغلبیة مطلقة، وأصبح رئیس الجمهوریة هو ( إیون إلیسكو ) أحد كوادر الحزب الشیوعي نفسه ! وهذا مطابق لما حدث في مصر بالضبط بعد ٢٥ ینایر عندما تنحى رأس النظام، لیلتف الناس هاتفین للنظام نفسه بهتاف ( الجیش والشعب إید واحدة ).

2000px-Flag_of_Chile.svg

وأما في تشیلي ففي عام 1970 وصل الزعیم الاشتراكي سلفادور أللیندي إلى السلطة بانتخابات دیموقراطیة ثم قامت السلطة الثابتة بزعامة بینوشیه بخلعه والانقلاب علیه عام ١٩٧٣ وتم قتله داخل قصره وتولى بینوشیه نفسه الرئاسة، وهكذا الأمثلة التاریخیة والمعاصرة لا تعد ولا تحصى، كلها تبین أن مربط الفرس كله في “السلطة الثابتة”.

بل حتى في أكثر الدول دیمقراطیة توجد (سلطة ثابتة) في ضوئها یتم اختیار الناس للسلطة المتغیرة (الرئیس والبرلمان) .. هذه السلطة الثابتة قد تأخذ شكل اللوبیات وجماعات الضغط في بعض الدول، أو تأخذ شكل الهیئات والمؤسسات ( كالجیش والقضاء والشركات) في دول أخرى، وفي أفضل الأحوال تمثل الجماهیر نسبة قلیلة من هذه السلطة الثابتة، وحتى هذه النسبة القلیلة یمكن الاستحواذ علیها بالإعلام الموجه للجماهیر!

فالجیش والقضاء والشركات الرأسمالیة والإعلام یمثلون سلطة ثابتة في هذه المجتمعات مهما تغیرت الوجوه السیاسیة، ولو افترضنا مثلا افتراضا تخیلیا أن هذه الهیئات واللوبیات اجتمعت على قلب رجل واحد وقررت علنا عدم الاعتراف بسلطة رئیس بعینه فلن یصبح رئیسا على أرض الواقع، بل حتى لو قرروا أن یعزلوه بالقوة فسیعزلونه مهما اعترض الشعب وثار واحتج، فهم محتكرو القوة، فالرؤساء یمثلون فقط السلطة المتغیرة والتي یعطى فیها للشعب مساحة أكبر لاختیارهم كنوع من التخدیر الدیمقراطي، بینما الجمیع یعلم أنه في أمریكا نفسها على سبیل المثال هناك خریطة للسلطة تتجاوز الرئیس الأمریكي بكثیر، ویكفیك أن تكتب في محركات البحث ( من یحكم أمریكا ) وستجد مئات الكتب والأبحاث التي تناقش هذه النقطة تحدیدا، ومهما اختلفت هذه النظریات فیما بینها إلا أنها كلها تتفق على حقیقة لا یمكن لأحد أن ینكرها وهي أن الرئیس الأمریكي أضعف حلقة في السیاسة الأمریكیة!

اقرأ أيضًا: الهيمنة على العقول أشد وأخطر

السلطة الثابتة هي سلطة تفرزها الأحداث والمواقف المتتالیة حتى تتحول إلى أمر واقع یعیشه الناس، فهي تتكون عبر الوقت لتصبح مراكز قوة في المجتمع ولا تأتي بالاختیار والانتخاب السریع، بل عملیة (الاختیار) أصلا لا یمكن أن تتم بدون وجود سلطة ثابتة تنظم هذا الاختیار، كما حدث في مصر بعد ٢٥ ینایر فقد تمت كل العلمیات الانتخابیة تحت مظلة السلطة الثابتة (العسكر) ، بمعاونة (القضاء) أحد أذرع هذه السلطة الثابتة في مصر، وقد قالها الجیش صراحة وعلى الملأ أنه یمثل ” الشرعیة المسلحة ” ، وفي مرة أخرى قال أنه یمثل ” شرعیة الأمر الواقع ” یقصد أنها شرعیة فوق الاختیار، وكان هذا هو الواقع الموجود فعلا!

لا یوجد أحد قرأ في كتب السیاسة الشرعیة لم یمر علیه مصطلح (أهل الحل والعقد) .. في الحقیقة ( أهل الحل والعقد ) هو مصطلح یعكس الواقع الذي شرحناه، ولیس اختراعا طرحه علماء المسلمین كما یظن البعض، أهل الحل والعقد موجودون في أي مجتمع وفي كل الأمم، وموجودون في نموذج الدولة الحدیثة، أهل الحل والعقد هم ببساطة مراكز القوة أو السلطة الثابتة في المجتمع بعض الناس یظن أن ( أهل الحل والعقد ) هو مصطلح یشیر إلى العلماء وأصحاب الدین والاستقامة والرأي حتى ولو لم یكن لهم سلطة ولا شوكة ولا قدرة، وسبب هذا الظن الخاطئ هو ما یقرأه في كتب علماء المسلمین عن شروط أهل الحل والعقد وأوصافهم.

كما قال الماوردي: والشروط التي یجب أن تتوافر فیهم ثلاثة ..

1 – العدالة الجامعة لشروطها.
2 – العلم الذي یتوصل به إلى معرفة من یستحق الإمامة على الشروط المعتبرة في الإمام.
3 -الرأي والحكمة المؤدیان إلى اختیار من هو للإمامة أصلح، وبتدبیر المصالح أقوم وأعرف.

نعم العلماء یتحدثون هنا باعتبار ما یجب أن یكون علیه الوضع، الواجب أن تكون السلطة الثابتة في ید من توفرت فیهم هذه الشروط، فلا شك أن المجتمع المستقیم هو المجتمع الذي یسود فیه (العدول العقلاء الأكفاء أصحاب الرأي والفهم) لیكونوا مراكز القوة وأصحاب السلطة الثابتة، وهذا یضمن صلاح السلطة المتغیرة، ولكن هل هذا هو الواقع دائما؟

للأسف في الواقع قد یكون العلماء والفضلاء والعقلاء وأصحاب الدین والرأي والتخصص والكفاءة ومن توفرت فیهم كل الشروط المذكورة هم أضعف من في المجتمع!!

هل حینها وهم لا یملكون ذرة من القدرة والشوكة والمنعة یمكن تسمیتهم أهل الحل والعقد؟ لا طبعا، لا واقعا ولا لغة ولا شرعا! وهذا ما شرحناه في أول الكلام، أن السلطان لقب على من له السلطة بالفعل على أرض الواقع ولیس على من یستحقها، والحاكم هو من یحكم بالفعل، وكذلك أهل الحل والعقد هم من یستطیعون بالفعل أن یحلوا ویعقدوا أي لهم السلطة والقدرة والشوكة، ولو وجد من یستحقون أن یكونوا أهلا للحل والعقد ولكنهم بلا سلطة ولا قدرة ولا شوكة على أرض الواقع فلن یكون اسمهم ” أهل حل وعقد” بل هم مجرد أشخاص فضلاء في مجتمع لا یعرف قیمتهم، أو مقهور على عدم معرفة قیمتهم!!

ولنأخذ الواقع المصري مثالا وأرجو ألا تضحك من الواقع المنحط :- ( أهل الحل والعقد ) في الواقع المصري منذ ١٩٥٢ هم بلا شك المؤسسة العسكریة ویأتي بعدهم مراكز قوى أخرى تتبادل الأدوار بحسب الظروف السیاسیة، ففي زمن مبارك صار لرجال الأعمال حظ كبیر من السلطة والتحكم فیها وهو ما كان یغضب المؤسسة العسكریة، إلا أنني أعتقد أنه بعد ٢٥ ینایر أصبحت المؤسسة العسكریة متفردة بالسلطة مرة أخرى ومعها كذلك القضاء مدعوما منها، وطبعا كلاهما تحت إشراف الخارج، لیصبح أهل الحل والعقد منذ ٢٥ ینایر ( أصحاب السلطة الثابتة ) في الواقع المصري هم : ( الجیش والقضاء بإشراف من الغرب) ، فمن اتفق الجیش والقضاء على تسمیته رئیسا صار رئیسا، ومن اتفقوا على خلعه صار مخلوعا، وما اتفقوا على حله صار منحلا، وهو ما یعلمه كل المصریین بلا خفاء ولا یستطیع أحد أن ینكره!

وهنا یجب إضافة ملاحظتین مهمتین جدا :

١ – أن السلطة الثابتة في بلادنا هم ضمانة الحفاظ على مصالح أمریكا وقواعد النظام العالمي، وهم من تسمح أمریكا ببقائهم السلطة الثابتة، وتقویهم وتمدهم بالسلاح والمعلومات وسائر الدعم السیاسي والاقتصادي، ولا یمكن للسلطة المتغیرة مادامت قد قبلت المجيء تحت سیطرتهم أن تخرج عن هذا الإطار التي ترسمه وتحمیه تلك السلطة الثابتة.

٢ – أن مقولة ( الجیش حمى الثورة ) یمكن وضعها في قائمة أغبى ١٠ جمل في التاریخ!

فالجیش ضحى بمن كانوا في السلطة المتغیرة حینها لیضمن بقاء السلطة الثابتة في یدیه، والسلطة الثابتة هي من تحمي وتحفظ مصالح أمریكا وقواعد النظام العالمي كما قلنا، فالنتیجة یمكن تلخیصها في أن الجیش حمى مصالح أمریكا والنظام العالمي في مصر ولیس الثورة، وإذا كانت الثورة عند البعض هي مجرد تغییر الأشخاص في “السلطة المتغیرة ” فما الفارق إذن بین الثورة وبین أن یموت الرئیس بقضاء لله وقدره!

والآن نجد أنفسنا أمام سؤال مهم : في حالة فساد وعمالة أهل الحل والعقد، أي في حالة وجود السلطة الثابتة في ید مراكز قوة فاسدة مفسدة مجرمة لیست منا وولاؤها لأعدائنا كما هو واقعنا الآن، ماذا نفعل في حال فساد أهل الحل والعقد؟

اضغط هنا لتحميل كتاب معركة الأحرار كاملًا PDF – الطبعة الثانية

أحمد سمير

ناشط ومهتم بالشأن الإسلامي والعالمي.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى