الثورة والإسلام

ندرك الآن أن تحركنا بالإسلام لا یعني إلا استهداف منظومة القیم التي یحمیها النظام الیوم وإحلال منظومة قیم الإسلام محلها، فإقامة منهاج الإسلام لا تعني أسلمة واقع فاسد الأصل ببضعة شعارات وأحكام، ولكن تعني استهداف هذا الأصل الفاسد من جذوره وتغییره، وقد بینا كیف أن الإسلام دین كامل شامل له طرحه المستقل، وكیف أن نظامه السیاسي له فلسفته الخاصة، كل ذلك یوضح مقدرته على بناء واقع جدید نابع من قیمه، هذا الاكتمال التشریعي وتلك القدرة على بناء حضارة جدیدة مستقلة تجعل الإسلام -كما بینا- مستهدفًا من أعدائنا، إلا أن ما یزید من استهدافه لیس قدرته على البناء فقط، وإنما قدرته على الهدم أیضًا، وهو ما عبرنا عنه في الفصل الماضي بهذه العبارة المختصرة:

إنهم یعلمون أنه أقوى محرك فكري وعقدي لمقاومة هیمنتهم وهدمهم أطماعهم.

حیث أن هناك بُعدًا مهمًا یربط الإسلام ربطًا وثیقًا بالثورة على هذه المنظومة، وهو أن الإسلام بالفعل في معركته للتغییر مع الجاهلیة اعتمد وسیلة التغییر الثوریة بالمعنى الذي شرحناه ولم ینتهج النهج الترقیعي، لقد كان ثورة شاملة على واقع فاسد.

المفاصلة التامة

فالإسلام منذ كان في مكة كان مفاصلًا لكل صورة الجاهلیة مباینًا لها ومواجهًا لباطلها مستهدفًا لأعمق قیمها، ورغم كونه حینها في مرحلة الدعوة وبرغم استضعاف المسلمین إلا أن الإسلام لم یأذن للمسلمین بالدخول في منظومة الجاهلیة قولًا ولا فعلًا، بل حذر الله نبیه وصحابته من مجرد المداهنة والركون فكیف بالدخول!

قال تعالى: (وَلَا تَرْكَنُوا إِلَى الَّذِینَ ظَلَمُوا فَتَمَسّكُمْ النَّار وَمَا لَكُمْ مِنْ دُون اﻟﻠﮧَّ مِنْ أَوْلِیَاء ثُمَّ لَا تُنْصَرُونَ) وقال: (وَلَوْلَا أَنْ ثَبَّتْنَاكَ لَقَدْ كِدْتَ تَرْكَنُ إِلَیْھِمْ شَیْئًا قَلِیلًا) وقال: (وَدُّوا لَوْ تُدْھِنُ فَیُدْھِنُونَ).

لقد كان الإسلام واضح المفاصلة والمباینة للجاهلیة اعتقادًا وقولًا وعملًا، واستمر هذا هو نهج الإسلام في مراحل الدین كلها ابتداء من الدعوة ثم الهجرة مرورًا بالجهاد وانتهاء بالفتح.

فأما اعتقادًا: فقد أمر الله -تعالى- بالكفر بالطاغوت (أي: هدم منظومة قیمه في القلب) قبل الإیمان باﻟﻠﻪ فقال: (فَمَنْ یَكْفُرْ بِالطَّاغُوتِ وَیُؤْمِنْ بِاﻟﻠﮧَِّ فَقَدِ اسْتَمْسَكَ بِالْعُرْوَةِ الْوُثْقَى لا انفِصَامَ لَھَا) وأما قولًا: فلا أجمع من سورة الكافرون والتي لم تجعل لذي حجة حجة في مفاصلة الجاهلیة وإعلان العداء لها، إعلان فیه تكرار وتأكید، قال تعالى: (قُلْ یَا أَیُّھَا الْكَافِرُونَ. لَا أَعْبُدُ مَا تَعْبُدُونَ. وَلَا أَنْتُمْ عَابِدُونَ مَا أَعْبُدُ. وَلَا أَنَا عَابِدٌ مَا عَبَدْتُمْ. ولا أَنْتُمْ عَابِدُونَ مَا أَعْبُدُ. لَكُمْ دِینُكُمْ وَلِيَ دِینِ) وأما عملًا: فإنه لما اشتد الأذى على المسلمین وأحكمت الجاهلیة إغلاق كل منفذ للدعوة حتى صار العمل داخل مكة من خارج منظومة الجاهلیة أشبه بالمحال بل أصبح یهدد بالقضاء التام على الطلیعة المؤمنة فحینها لم یأذن الله للمسلمین أن یعملوا من داخل المنظومة بل جاء أمر الله بالهجرة، وهكذا مفاصلة بعد مفاصلة.

إن النبي -صلى الله عليه وسلم- لم یحرك أصحابه لاختراق دار الندوة، ولم یدفعهم لمداهنة المشركین في بعض قیمهم؛ بغیة إصلاح قیم أخرى أو سلوك آخر، إن ثورة الإسلام على هذه القیم كانت دعوة في زمان ثم تحولت إلى هجرة في زمان آخر وانتهت بالجهاد والمواجهة، فلیس السلوك هو ما یدل على الثورة بقدر ما یدل علیها القیم التي خلف السلوك، وفي الإسلام القیمة الرئیسیة خلف كل هذه السلوكیات من دعوة وهجرة وجهاد كانت (مفاصلة الجاهلیة ومباینتها اعتقادًا وقولًا وعملًا) هذه المفاصلة كانت هي الحافظة لمنهج التوحید من الاختلاط والالتباس، إنها مفاصلة جعلت الإسلام إسلامًا والجاهلیة جاهلیة، معسكرین لا یختلط أمرهما على الناظر، ولذلك قال النبي -صلى الله عليه وسلم-: “قد تركتكم على البیضاء لیلها كنهارها لا یزیغ عنها بعدي إلا هالك، من یعش منكم فسیرى اختلافًا كثیرًا” نعم لیلها كنهارها لوضوحها وظهورها فهي لا تلتبس بغیرها ولا یزیغ عنها إلا هالك!

الجاهلية

وهنا نقول أن الجاهلیة لیست بالمعنى المختزل الذي یظنه البعض، فالكلمة وإن صارت تدل على قوم بعینهم وفترة زمنیة محددة إلا أن وصفها مازال ساریًا، ومعركة الإسلام معها قائمة حتى قیام الساعة، وإننا لا نجد غضاضة ولا حیاء في وصف النظام العالمي الیوم قیمًا وسلوكًا “بالجاهلیة الحدیثة”، إنها جاهلیة دین ودنیا، والجاهلیة أیضًا لیست منحصرة في جانب القیم العقدیة كما یظن البعض، بل للجاهلیة سلوك تُعرف به، وقد قال تعالى في خطابه مع أزواج النبي -صلى الله عليه وسلم-: (وَلَا تَبَرَّجْنَ تَبَرُّجَ الْجَاهِلِيَّةِ الْأُولَىٰ)، فنسب سلوكًا شخصیًا لجاهلیة كانت قائمة، وإننا الیوم ننسب قیم وسلوك النظام العالمي لجاهلیته الحدیثة، فهي رأسمالیة الجاهلیة، وإمبریالیة الجاهلیة، وهیمنة الجاهلیة، هذا إضافة لكونهم على كفر الجاهلیة!

الجماهيرية

ومن هذه النقطة في الحدیث عن الجاهلیة نتكلم عن القیمة الثالثة للثورة ونظرة الإسلام لها وهي قیمة (الجماهیریة) وعلاقة ذلك بوصفنا للمعركة بأنها معركة إسلام وجاهلیة، وهي نقطة تحتاج إلى أن نفصل القول فیها لأنني مازلت أعتبر أنها من أكبر عوائق التغییر الیوم وتطلب من القارئ الكریم تركیزًا شدیدًا. “جاهلیة العدو لا الشعوب”:

إن الجاهلیة مصطلح یعني مناقضة الإسلام، وإننا لا نصف بها الیوم إلا العدو، فالجاهلیة الكاملة تعني الكفر، إلا أننا كمسلمین قد نقع في عنصر من عناصر تلك الجاهلیة، كما قال النبي -صلى الله عليه وسلم- لأبي ذر حین قال لبلال یا ابن السوداء قال له -صلى الله عليه وسلم-: “إنك امرؤ فیك جاهلیة”، ولم یقل له: إنك امرؤ جاهلي، لأن معنى أن الشخص جاهلي هو أنه غیر مسلم ولذلك فإنني وإن كنت أصف العدو بأنه جاهلي القیم والسلوك إلا أنني لا أتفق أبدا مع من یصف مجتمعات الأمة وشعوبها بأنها مجتمعات جاهلیة أو أنها شعوب جاهلیة.

كاستعمال الكلمة الشهیرة (مجتمع جاهلي) وهي كلمة حمالة أوجه، ویمكن أن تفسر بمعانٍ مختلفة بعضها صحیح وواقعي وبعضها في غایة البطلان، تلك الأوصاف التي فتحت أبوابًا من الغلو والإقصاء كثیرة، والمجتمعات والشعوب في مجملها شعوب ومجتمعات مسلمة واقعة لا شك في عناصر من الجاهلیة كثیرة جدًا، ولیسوا وحدهم، بل كثیر من الذین یصفون الشعوب والمجتمعات بأنها جاهلیة هم كذلك واقعون في أنواع أخرى كثیرة من الجاهلیة، ومع ذلك قد تراهم یتعاملون عملیًا باعتبار أنهم وحدهم المسلمون وأن الجاهلیة هي كل من لیس في جمعهم، فأدخلوا عموم الشعوب بلسان الحال لا المقال في جاهلیة العدو الكاملة، واعتبروهم هم والعدو سواء، بل هناك من أدخلهم بلسان المقال كذلك ولیس فقط بلسان الحال كجماعات التكفیر التي أعلنت كفر المجتمعات صراحة!

وكان الأثر العملي لهذه الأفكار غیر المنضبطة كلها هو إقصاء الشعوب تمامًا عن معركة التغییر الفاصلة، وعدم السعي في تصدیر خطاب یفهمونه ویعقلونه، بل وإنزالهم منزلة العدو في العداء والاستعداء!

والعجیب أن هذا الإقصاء أیضًا قد فعله كثیر من غیر “الإسلامیین” من أصحاب الأطروحات النخبویة والذین یصرون على أن یعیشوا فوف السحاب ویعتبرون أن الشعوب لا یحق لها أن تفهم أصلًا!

لقد كان نتیجة ذلك كله استفراد الطواغیت بالشعوب حتى تمكنوا بجدارة -عبر الإعلام وما یصدرونه من خطابات- من إخراج أسوأ ما في الشعوب، بینما عجز الحاملون للواء التغییر عن إخراج أفضل ما في الشعوب، وهذا لا یعفي الشعوب من تحمل إثم جهلهم وسطحیتهم واتباعهم لهواهم، لكنهم في النهایة كالطفل بین یدي مخادعه، قد یصیبك منه أذى ولكنك لا تستطیع أن تساوي بینه وبین المخادع نفسه، خاصة إذا لم تكن قد حدثته بما یعقله ویفهمه بعد!

وقد وجدت بعض المنتسبین للعمل “الإسلامي” یفترضون أن هناك تطابقا بین وضع “الإسلامیین” الیوم في الأمة وحال النبي -صلى الله عليه وسلم- وصحابته في قریش!

ومن هذا المنطلق بدؤوا في بناء تصورهم الخاص عن التغییر باعتبار أن الجاهلیة هي كل من انفصل عن “الإسلامیین”، وهو خطأ فاحش، فإن الحقیقة أن جمیع فئات الأمة الیوم سواء كانوا عوامًا أو غیر عوام بما فیهم “الإسلامیون” أنفسهم، كلهم فیهم من عناصر الجاهلیة والإسلام، فإذا كانت الشعوب فیها من عناصر الجاهلیة الكثیر، ففي التیارات والجماعات المنتسبة للعمل الإسلامي كذلك من عناصر الجاهلیة أنواع أخرى كثیرة، هذا على المستوى الجماعي، وأما على المستوى الفردي فقد تجد بعض الأفراد ممن لا ینسبون أنفسهم للتیارات “الإسلامیة” هم أصح فطرة وأقوم دینًا وفكرًا وخلقًا وأسلم قلبًا من كثیر من الأفراد المتلقبین بلقب “إسلامیین”.

اضغط هنا لتحميل كتاب معركة الأحرار كاملًا PDF – الطبعة الثانية

أحمد سمير

ناشط ومهتم بالشأن الإسلامي والعالمي.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى