بين الدين والعلم؛ تناغُمٌ أم تنازع؟

الكنيسة والعلم، أوروبا

في ليلةٍ مدلهمة من ليالي العصور المظلمة من سنة 1623م، وقف عالم فلورنسا غاليليو غاليلي أمام القاضي في محكمة من محاكم التفتيش الكنسية الإيطالية، وأعلن هناك تبرّئه من اختراع التلسكوب، مُقرًّا أن ما جاء في الكتاب المقدس من أقاويل علمية هي الحق بعينه، وكل ما قيل غيرها مجرد كذبٍ وضلالٍ من وحي الشيطان، وقال غاليليو لقاضي المحكمة بالحرف الواحد: “أنا غاليليو وقد بلغت السبعين من عمري، سجينٌ راكعٌ أمام فخامتك، والكتاب المقدس بين يدي ألمسه بيدي، أرفض وألعن وأحتقر القول الخاطئ الإلحاديّ بدوران الأرض، وأتعهد مع هذا بتبليغ محكمة التفتيش عن كل ملحدٍ يوسوس له شيطانه بتأييد هذا الزعم الباطل المضلل”، فلم يجد القاضي إلا أن يقول له: أنت في أمانٍ أيها الرجل الطيب. براءة.

لقد أظلمت هذه العصور بظلام عقول أهلها، وإن انغلاقهم على مصدرٍ واحدٍ للمعرفة – الكتاب المقدس – قد زاد من ظلامها ألَقَا، وقد بلغ بهم هذا الانغلاق كل مبلغٍ، وأخذ بمذاهبهم كل مأخذٍ، فقد جاء في كتب التاريخ أن مجموعة من القساوسة أرادوا معرفة كم سِنًّا في فمِ الحمار، فأحضروا كُتبهم المقدسة، وكُتب علمائهم واعتكفوا في الكنيسة أربعة عشر يومًا يبحثون عن الإجابة في هذه الكتب، ولم يجدوها. حتى إذا تكلم راهبٌ شابٌّ منهم وقال لهم: لمَ لا نفتح فم الحمار ونعد أسنانه؟، اتهموه بالزندقة ورموْه خارج الكنيسة؛ لأنهم لم يحتملوا حقيقة أن المعرفة قد يكون لها مصدر آخر غير كتبهم.

وقد مثّلت مُحاكمة غاليليو سطوة الكنيسة وجبروتها الذي جعل أحد أعظم جبابرة العقول في أوروبا يتوسل من أجل الرحمة، كما مثّلت هذه المحاكمة الفصل الذي أجهزت فيه الكنيسة على العلم في فصول الصراع المتواصل بينهما في أوروبا.

لوحة للرسام كريستيانو بانتي تُمثِّل مُحاكمة جاليليو
لوحة للرسام كريستيانو بانتي تُمثِّل مُحاكمة جاليليو

إن الشجاعة التي تحلى بها غاليليو وأظهر بها للعامة اختراعه للتلسكوب الفضائي الذي كشف به أقمار المشتري عام 1610م، وإن الشجاعة التي تحلى بها نيوتن فقام بأبحاثه حتى توصل إلى حساب مدارات الكواكب والتعرف على قوانين الحركة، كانت نتاجًا للثورة الكوبرنيكية، التي أشعل فتيلها العالم البولنديُّ نيكولاس كوبرنيكوس في أواسط القرن السادس عشر، وسُميت باسمه، والتي تحدّت ما كانت تقرره الكنيسة ورجالها من أن الأرض هي مركز الكون وأن الشمس تدور حولها، قائلةً إن الأرض كغيرها من الأجرام السماوية تدور حول الشمس في فلكٍ لا تحيد عنه ولا تزيغ.

وقد أعلنت هذه الاكتشافات ظهور النزعة العلموية، التي تُقرر أن العلم هو السبيل الوحيد لمعرفة الحقيقة المطلقة، مع أن مضمار العلم مقتصرٌ في البحث في الكيفيات، كيف يسير هذا العالم؟ على غرار السببيات، لماذا يوجد هذا العالم؟ فاعتبرت الكنيسة هذا تدخّلًا في شؤونها، فهي الوحيدة التي لها المعرفة بعلوم السماء، وهي الوحيدة التي لها أن تجيب على الأسئلة الوجودية الكبرى، وإنّه لا توجد حركةٌ هزّت كيان الكنيسة كما هزّته هذه النزعة، فكيانها القائم على الاستئثار بالسلطة قد هُدد بالسقوط لأن لا شيء أخطر على الكنيسة من تقديم بديلٍ عنها، وهكذا بدأت الحرب الدامية بين رجال الكنيسة ورجال العلم.

وينبغي هنا أن ننوه بأن شهوة الحكم والاستئثار بالسلطة قد لعبت دورًا كبيرًا في اشتعال هذه الحرب القذرة، وإن الصراع لم يكن أبدًا بين العلم لذاته وبين الدين لذاته، وكيف يكون بين العلم لذاته وبين الدين لذاته ومن العلماء رجالٌ غُمِرت نفوسهم بالإيمان، بل ومن العلماء من يدعو إلى الأخذ بأساليب وطرق أخرى للمعرفة قد تكون للدين أقرب، ومن رجال الدين عُلماءُ في الطبيعة آخذين بأساليب العلم داعين إليه من غير أن يطعن هذا في دينهم أو عقيدتهم.

وما يزيد دلالةً على أن الصراع كان من أجل الاستئثار بالسلطة هو الخلاف بين المتدينين أو رجال الدين أنفسهم حين انقسموا إلى مذاهب وطوائف شتى، وكلمة هنري الرابع: “باريس تُساوي قداسًا” خيرُ دليلٍ على هذا، فقد عنى بكلامه أن حُكم باريس يستحق انتقاله من البروستانتية إلى الكاثوليكية، فقد غيّر مذهبه حتى يقبل به الشعب الباريسي الذي كان كاثوليكيّ المذهب، وحتى تقبل به الكنيسة الكاثوليكية.

إن العلاقة بين الكنيسة والعلم تعد من أكثر العلاقات تقلُّبًّا. بدايةً، قهقه فلاسفة أثينا عندما كلمهم بولس عن البعث بعد الموت وعن الحساب وعن الجنة والنار. ثم بعدها بقرونٍ قليلةٍ، خضع العلماء والفلاسفة لجبروت الكنيسة، ثم وصولًا إلى القرن التاسع عشر، وتزامنًا مع ظهور نظرية التطور، خضعت الكنيسة للعلم خُضوعًا لم يسبق له مثيل؛ فإن الداروينية قد قدمت بديلًا عن أصل الإنسان والأنواع، تبناه جزءٌ كبيرٌ من الجمهور ورأوا فيه العقل والرشاد، ولم يتبنَ الجمهور رواية داروين لأنها من العقل أقرب من رواية الكنيسة بقدر ما تبناها لأنه كان مُتعطشًا إلى التغيير وإلى التحرر من النظام الكنسي. وهكذا، صارت الكنيسة مجتهدةً في تطويع النصوص المقدسة لجعلها متوافقة مع العلم الحديث، متماشية مع عصر الثورة الصناعية إلى ما بعده، ومحاولِةً طمس قرونٍ من الحرب السافرة بينها وبين العلماء.

ولقد كان للفلاسفة دورٌ في الإجهاز على الكنيسة، والفلاسفة المؤمنون أمثال ديكارت وروسو كانوا أخطر على الكنيسة من الفلاسفة الملاحدة؛ فهؤلاء يهدمون دين الكنيسة وينتهي عملهم، وأولائك –الفلاسفة المؤمنون– يهدمون دين الكنيسة ثم يطرحون البديل. ولم يتوقف الأمر عند هذا الحد، بل لقد عمل هؤلاء الفلاسفة على ضرب مصداقية القساوسة بفضحهم للعامة وإظهار مخازيهم وباطنهم القذر بتبيان أنهم يتظاهرون بالزهد والورع والتقوى ويُخفون شرههم للمال والنساء والسلطة، وأكدوا للعامة أن القلنسوة والطيلسان لا يستران إلا نِفاقًا وكذِبًا وفُحشًا منقطع النظير، وما هؤلاء القساوسة الذين يتظاهرون بالطهارة والعفة إلا وحوشٌ بشريةٌ لا تشبع من متاع الدنيا وزخرفها، وهكذا قضت هذه الظروف أن يكون صاحب إنجيل الثورة الفرنسية هو جان جاك روسو.

إن هذه العلاقة المتقلبة، كانت خاضعة بدورها لتقلّبات الجمهور، التي كانت ناتجةً بدورها عن تقلّب الأزمان والفترات وتغير متطلبات وحاجيات كل زمن، فلمّا كان الجمهور آمنًا تحت ظل الكنسية، منبهرًا برجالها وقساوسها، مؤمنًا بهم وبفكرهم، مُقتنعًا بما يُقدّمونه تلبيةً لحوائجه المادية والروحية، ويرى فيهم الخير والصلاح كله، سلّم أمره لهم، وسلّم بأن كل فكرةٍ تخالف أفكارهم ليست إلا ضلالًا وهرطقة، وهكذا وجدت الكنيسة قوتها، وسيطرت على الفكر والفعل، وخضع لها رجال العلم. ثم تزامنًا مع عصر الثورة الصناعية وظهور الداروينية، وتزامنًا مع انبهار الجمهور بما قدمه العلم وبما يمكن له أن يقدمه أمام عجز الكنيسة، سلّم الجمهور أمره للعلم والعلماء، مبتعدًا تدريجيًا عن الكنيسة وأفكارها، مُقوّضًا بهذا دعائمَ حضارةٍ بأكملها، وأخذت المرجعية العلمية مكان المرجعية الدينية لاحتياج الجمهور لِمذهبٍ جديدٍ يملأ الفراغ الذي عجزت عن ملئه الكنيسة، فقد بلت أفكارها بِلىً وضعها في قبور أهلها، وأهال عليها التراب.

وهكذا في عام 1822، أصدر البابا بيوس السابع تصريحًا رسميًّا يسمح بطباعة كتابٍ عن النظام الشمسيّ لكوبرنيكوس، مُعترفًا أنه يمثل الواقع الطبيعي. وقبل هذا التاريخ بعقودٍ قليلةٍ، في عام 1741، كان البابا بنديكيت الرابع عشر قد سمح رسميًا بطباعة كل كتب غاليليو.

وفي سبيل المصالحة الكبرى، اعتذر الفاتيكان رسمًيا في خطبةٍ ألقاها البابا يوحنا بولس الثاني عن محاكمة الكنيسة لغاليليو.

وقد اضطرّت الكنيسة لهذه المداهنة، فمع كل هذه الاكتشافات العلمية القائمة، والقفزات المذهلة نحو المستقبل البعيد، نحو المجهول، اللامرئي، ونحو ما لم يكن معقولًا قبل سنواتٍ قليلةٍ مضت: البُحوثِ في صميم المادة، دراسةِ الطيف الضوئي، المادة السوداء والانفجار الكبير فالتلسكوب الفضائي، الذي أثبت عالم فلورنسا من خلاله أنه لم ينتهِ من أخذ ثأره بعد، لو تبقى الكنيسة غريبةً عن كل هذا فسيعني هذا بلا شكٍّ نهايتها، وستُقذَف مباشرةً في مزبلة التاريخ، المزبلة التي قُذفَت في أعماقِ أعماقها العصور المظلمة بخرافاتها وهرطقاتها.

من الآمن إذن أن نقول إن العصور الأخيرة في أوروبا قد قضت أن يظفر رجال العلم بثقة الجمهور، وهكذا وُلّووا زمام الحكم، بل لقد وصل الأمر إلى فصل الكنيسة عن الدولة، وصار رجل الدين هو الزاهد عن الدنيا وزخرفها مُنصرِفًا إلى التقرّب من الرب والتعبد إليه. ومع أن موقف إسلامنا من العلم والمعرفة مختلفٌ عن موقف الكنيسة كليًا وجزئيًا فقد وقد وصل هذا الفكر إلى العالم الإسلاميّ، مُستقلًا أمواج الغزو الثقافي التي تبعت الغزو العسكري والاستكلاب الغربي على الشرق الأوسط وشمال إفريقيا.

الدين والعلم، في الإسلام والعالم الإسلاميّ

أما في العالم الإسلامي، فقد كان المسلمون في معزلٍ عن كل هذه المعارك التي اضطرّ لخوضها العلماء ورجال الدين في أوروبا، لأنها حربٌ ضد الفطرة، والإسلام دين الفطرة. فمنذ القِدم، والإنسان يعيش في رُحى علاقةٍ متناغمةٍ بين الدين والعلم، يشد أحدهما عضُد أخيه؛ العلم هو الوقائع التي يُدركها الحس وتُحيط بها الملاحظة، فيدرُسها الإنسان ويفكُّ ألغازها فيُخضعها لإرادته، ويتحول بهذا من محكومٍ بقوانينها إلى حاكمٍ بمعرفته. أما الدين، فجانبٌ منه هو الإيمان الذي ينبعث في صدر المؤمن من دراسة هذه الوقائع، ثم من إدراكه لعظمتها وعظمة الكون، ليصل إلى إدراك شيءٍ من عظمةِ خالقه، فيخضع قلبه لهذا الخالق العظيم، ولهذا قال الله عز وجل: “إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَاخْتِلَافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ لَآيَاتٍ لِّأُولِي الْأَلْبَابِ (190) الَّذِينَ يَذْكُرُونَ اللَّهَ قِيَامًا وَقُعُودًا وَعَلَىٰ جُنُوبِهِمْ وَيَتَفَكَّرُونَ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ رَبَّنَا مَا خَلَقْتَ هَٰذَا بَاطِلًا سُبْحَانَكَ فَقِنَا عَذَابَ النَّارِ (191)“سورة آل عمران. وقال تعالى في سورة البقرة: “إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَاخْتِلَافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ وَالْفُلْكِ الَّتِي تَجْرِي فِي الْبَحْرِ بِمَا يَنفَعُ النَّاسَ وَمَا أَنزَلَ اللَّهُ مِنَ السَّمَاءِ مِن مَّاءٍ فَأَحْيَا بِهِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا وَبَثَّ فِيهَا مِن كُلِّ دَابَّةٍ وَتَصْرِيفِ الرِّيَاحِ وَالسَّحَابِ الْمُسَخَّرِ بَيْنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ لَآيَاتٍ لِّقَوْمٍ يَعْقِلُونَ (164).” وكثيرةٌ هي الآيات التي تدعو لتدبر الوقائع المحيطة بالإنسان. فهي البديع، والبديع يُقرّبنا من الله ويُعرّفنا بقدره ومنزلته. وهكذا تطوف نفس المؤمن في تناغمٍ بين الروح والعقل، وهكذا يخضع العبد لسلطان الخالق العظيم ويُسلّم لأمره، والله يقول: “إِنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاءُ (28)” سورة فاطر.

إن حقيقة الإسلام حالتْ دون نُشوب هذه الحرب بين العلم والدين، بين العقل والقلب، أو بين العقل والروح، وكيف يمكن أن تقع حربٌ كهذه والإسلام نفسه يدعو لتدبر خلق السماوات والأرض؟! وكيف يمكن أن تقع حربٌ كهذه والإسلام يرى العلم وسيلة تُقرّب من الله وتخدم الغاية التي خُلِقنا من أجلها؛ عبادةَ الله؟! ولا يُمكن عقلًا ومنطقًا وفطرةً أن تنشب حربٌ بين وسيلةٍ وغاية، وأي وسيلة؟ وسيلة كالعلم تخدم غاية العبادة!

إن فضل العلم والعُلماء في الإسلام منشودٌ، ومن العلم الشرعيّ المقدس والعلم الدنيويّ المادي لدينا قسمان:

أولًا: العلم الشرعيّ المقدس

إن العلم الشرعيّ في الإسلام ليس حكرًا على طبقةٍ من الناس أو على جنسٍ من الجنسين، فقد قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: “طلبُ العلم فريضةٌ على كل مسلمٍ”. وليس لأحدٍ أن يكتم علمًا علّمه الله له، وإلّا جاء يوم القيامة مُلجمًا بلجامٍ من نار كما جاء في الحديث الشريف. 

إن فضل العلم والعلماء له شواهدُ كثيرةٌ من القرآن والسنة، نذكر منها:

من القرآن الكريم:

يقول الله عز وجل: “شَهِدَ اللَّهُ أَنَّهُ لَا إِلَٰهَ إِلَّا هُوَ وَالْمَلَائِكَةُ وَأُولُو الْعِلْمِ قَائِمًا بِالْقِسْطِ ۚ لَا إِلَٰهَ إِلَّا هُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ، فانظر كيف بدأ الله تعالى بنفسه، وثنّى بالملائكة، وثلّث بأهل العلم، وكفى بهذا شرفًا وفضلًا ونُبلًا. ويقول الله تعالى: “يَرْفَعِ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنكُمْ وَالَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ دَرَجَاتٍـــ قال ابن عباسٍ رضي الله عنهما: العلماء درجاتٌ فوق المؤمنين بسبعمائة درجة، بين كل درجةٍ ودرجة مسيرة خمسمائة عام. وقال الله عز وجل: “قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَالَّذِينَ لَا يَعْلَمُونَ، كلا والله لا يستوون؛ لا يستوون في حياتهم ولا يستوون في مماتهم، لا يستوون في الأولى ولا يستوون في الآخرة، لا يستوون في الأرض ولا يستوون في السماء. وقال الله عز وجل: “إِنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاءُ؛ أي يخشاه حق خشيته العلماءُ العارفون به، فكلما كانت معرفة الإنسان بالله أتم وأعظم وأكمل كلما كان مُقدّرًا لعظمة الله، مُبجّلًا له وموقّرًا. وقال الله عز وجل: “وَقُلْ كَفَى بالله شَهِيدًا بَيْنِي وَبَيْنَكُم وَمَنْ عِنْدَهُ عِلْمُ الكِتَاب“. وقال تعالى: “قَالَ الَّذِي عِندَهُ عِلْمٌ مِّنَ الْكِتَابِ أَنَا آتِيكَ بِهِ قَبْلَ أَن يَرْتَدَّ إِلَيْكَ طَرْفُكَ، تنبيهًا أنه اقتدر على ذلك بقوة العلم. وقال تعالى: “وَقَالَ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ وَيْلَكُمْ ثَوَابُ اللَّهِ خَيْرٌتبيانًا أن قدر الآخرة يُدرك ويُعرف بالعلم. وقال الله تعالى: “وَتِلْكَ الْأَمْثَالُ نَضْرِبُهَا لِلنَّاسِ ۖ وَمَا يَعْقِلُهَا إِلَّا الْعَالِمُونَ“. وقال الله تعالى: “يَا بَنِي آدَمَ قَدْ أَنزَلْنَا عَلَيْكُمْ لِبَاسًا يُوَارِي سَوْآتِكُم ـــ يعني العلم ـــ وَرِيشًا ۖـــ يعني اليقين ـــ وَلِبَاسُ التَّقْوَىٰ” ـــ يعني الحياء ـــ. وقال عزّ وجل: “وَلَقَد جِئْنَاهُم بِكِتَابٍ فَصّلْنَاهُ عَلَى عِلْم“. وقال عزّ وجل: “بَلْ هُوَ آيَاتٌ بَيّنَاتٌ فِي صُدُورِ الذِينَ أُوتُوا العِلْم”. وقال تعالى: “خَلَقَ الإنْسَانَ * عَلّمَهُ البَيان“.

من السنة النبوية الشريفة

قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: “طلب العلم فريضةٌ على كل مسلمٍ“. وقال صلى الله عليه وسلم: “من يرد الله به خيرًا يُفقهْه في الدين ويلهمه رشده“. وقال صلى الله عليه وسلم: “العلماء ورثة الأنبياءومعلومٌ أنه لا رتبة فوق النبوّة ولا شرف فوق شرف الوراثة لتلك الرتبة. وقال صلى الله عليه وسلم: “يستغفِر للعالم من في السماوات والأرض، وأي نعمة أكبر من أن يشتغل من في السماوات والأرض بالاستغفار له؟ وقال صلى الله عليه وسلم: “إن الحكمة تزيد الشريف شرفًا، وترفع المملوك حتى يُدرِك مدارك المُلوك، وقد نبّه نبينا في هذا الحديث على ثمرات العلم في الدنيا، فما بالك بثمراته في الآخرة التي هي خيرٌ وأبقى؟ وقال عليه الصلاة والسلام: “خصلتان لا يكونان في منافقٍ: حُسْنُ سمتٍ وفِقْهٌ في الدين، ولا تشكَنَّ في الحديث لنفاق بعض فقهاء الزمان، فإنه ما أراد به الفقه الذي ظننته، بل للفقه درجاتٌ وأدناها أن يعلم المرء أن الآخرة خيرٌ من الدنيا، وهذه المعرفة إذا صدقت وغلبت عليه برِئَ بها من النفاق والرياء. وقال صلى الله عليه وسلم: “أفضل الناس المؤمن العالم الذي إن احتيج له نفع، وإن استُغني عنه أغنى نفسه“. وقال صلى الله عليه وسلم: “الإيمان عريانٌ ولباسه التقوى وزينته الحياء وثمرته العلم، فالإيمان في القلب من ثمراته العلم في العقل، والعلم في العقل يُعزّز الإيمان في القلب، والعكس. وقال صلى الله عليه وسلم: “أقرب الناس من درجة النبوة أهل العلم والجهاد، أما أهل العلم فدلوا الناس على ما جاءت به الرسل، وأما أهل الجهاد فجاهدوا بأسيافهم على ما جاءت به الرسل“. وقال صلى الله عليه وسلم: “لموتُ قبيلةٍ أيسرُ من موتِ عالِمٍ“. وقال صلى الله عليه وسلم: “يُوزن يوم القيامة مِداد العلماء بدم الشهداء“. وقال صلى الله عليه وسلم: “أوحى الله عز وجل إلى إبراهيم عليه السلام يا إبراهيم إني عليمٌ أحب كل عليم“. وقال صلى الله عليه وسلم: “إذا أتى عليَّ يومٌ لا أزداد فيه علمًا يُقرّبني إلى الله عز وجل فلا بورك لي في طلوع شمس ذلك اليوم“.

ثانيًا: العلم الدنيوي الماديّ

نتعلم من كتاب “إحياء علوم الدين” للإمام أبي حامد الغزالي عليه رحمة الله أن “العلم إذا كان أفضل الأمور كان تعلمه طلبًا للأفضل، فكان تعليمه إفادةً للأفضل. وبيانه أن مقاصد الخلق مجموعة في الدين والدنيا، ولا نظام للدين إلا بنظام الدنيا، فإن الدنيا مزرعةٌ للآخرة، وهي الآلة الموصلة إلى الله عزّ وجل لمن اتخذها آلةً ومنزلًا، لا لمن يتخذها مستقرًّا ووطنًا، وليس ينتظم أمر الدنيا إلا بأعمال الآدميين”.

 والعُلوم الدنيوية في شرعنا كالطب والرياضيات والهندسة والسياسة هي من فروض الكفاية التي يجب على المسلمين القيام بها، والتميز فيها، وإذا أهملوها أثموا جميعًا، ووجب على المسلمين التفوّق فيها، فالله عزّ وجل يقول: “وَأَعِدُّوا لَهُم مَّا اسْتَطَعْتُم مِّن قُوَّةٍ وَمِن رِّبَاطِ الْخَيْلِ تُرْهِبُونَ بِهِ عَدُوَّ اللَّهِ وَعَدُوَّكُمْ”. والأكمل للمسلم أن يحذو حذوَ الأئمة السابقين، فيأخذ نصيبه من عُلوم الدين، ولا يُهمل عُلوم الدنيا، ويعدل في طلبه لعلوم الأرض كما لعلوم السماء. وتأمل حديث النبي عليه الصلاة والسلام: “اللَّهُمَّ أصلِحْ لي ديني الَّذي هو عِصْمة أمري، وأصلِحْ لي دنياي التي فيها معاشي»؛ رواه مسلم

العلم في الحضارة الإسلامية

لقد كانت دمشق وحلب والكوفة وبغداد والقيروان وقرطبة والقاهرة ومراكش وفاس هي المراكز العلمية في العالم ما بين القرن السابع الميلادي ونهاية القرن السادس عشر، بجامعاتٍ مزدهرة وانصرافٍ إلى طلب العلم لم يسبق له مثيل، وتأسس في هذه الفترة ما يُعرف بالعلم التجريبيّ. كان للعلماء شأنٌ عظيمٌ في البلاد، يحترمهم العامة ويوقرهم الحُكام، ويؤكد المؤرّخون أنه لا يوجد مجالٌ في العلم مما نعرفه اليوم إلا وقد أسسه المسلمون.

كانت حضارة الأندلس أعجوبة العصر ومنارة أوروبا والعالم، وكانت بغداد عاصمة العلم والمعرفة، فكان يرتحل إليها طُلّاب العلم من كل حدبٍ وصوب. كانت بيت الحكمة، المكتبة التي أقامها هارون الرشيد في بغداد، مقر الدارسين والباحثين من حول العالم. كان الخليفة أبو جعفر المنصور مهتمًا بعلوم الحكمة، فجُمعت له كتبٌ في الطب والنجوم والهندسة والآداب، وكانت تُحفظ بين أسوار قصر الخلافة، وكثُرت الكتب حتى ضاق القصر عنها. ولما تولى هارون الرشيد الحكم أمر بإخراجها من القصر وجعلها مكتبةً عامة وسماها بيت الحكمة. وفي عهد الخليفة المأمون عاش بيت الحكمة عصره الذهبيّ، ففيها تُرجمت أُمهات الكتب اليونانية وبرز في عهده جبابرة العقول الذي أسسوا للنهضة العلمية في الفلك والطب والفلسفة، وكان العالم الفلكيُّ يحيى بن أبي منصور والعالم المشهور محمد بن موسى الخوارزمي، أب الرياضيات ومُخترع علم الجبر، مشرفين عليها. كما أسس المأمون جامعة بيت الحكمة، فكانت أيقونة العصر ووجهة العلماء والباحثين، وبرزت في عهده مريم الاسطرلابي، التي اخترعت الاسطرلاب الفضائيّ، الذي هو آلة فلكية تُظهر كيف تبدو السماء في مكانٍ محدد عند وقتٍ محدد.

العلم في الإسلام لا يعني فقط الفقه في الدين، بل يدخل فيه العلم الكوني أو العلم المادي، ذلك أن الإسلام جاء شاملًا ومُحيطًا بكل نواحي الحياة، وقد أُمر الإنسان بالتعمير والبناء ليتسفيد المجتمع وتستفيد الأجيال القادمة، فقد قال رسول الله صلى عليه وسلم: “من سن في الإسلام سنةً حسنةً كان له أجرها وأجر من عمل بها من بعده لا ينقص ذلك من أجورهم شيئًا”، ولقد اهتم المسلمون الأوائل بالبناء والتعمير، فكانوا حجة الزمان والمكان في هذا. وغير ما بناه المأمون، هناك جامعة القرويين التي أسستها وقامت ببنائها فاطمة بنت محمد الفهري عام 245 هـ/859م، والتي تُعد أول جامعة في العالم، ولا زالت تعمل إلى الآن بدون انقطاع؛ ما جعلها أقدم جامعةٍ في العالم حسب اليونسكو وموسوعة غينيس للأرقام القياسية.

ولا ننسى ابن الهيثم الذي يُعد أول عالمٍ في تاريخ البشرية، فهو من قدّم للبشر ما يُعرف الآن بالمنهجية العلمية، وهو عالمٌ موسوعيٌّ مسلمٌ، له إسهاماتٌ كبيرة في الرياضيات والبصريات والفيزياء وعلم الفلك والهندسة وطب العيون، له العديد من المؤلفات والمكتشفات العلمية التي أكدها اليوم العلم الحديث. في البصريات، أثبت ابن الهيثم حقيقة أن الضوء يأتي من الأجسام إلى العين، وليس العكس كما ساد الاعتقاد آنذاك، وإليه تُنسب مبادئ اختراع الكاميرا، وهو أول من شرّح العين تشريحًا كامِلًا (شرّح بدايةً عين ثور) ووضّح وظائفها وأعضائها. كما أورد كتابه المناظرمعادلة من الدرجة الرابعة حول انعكاس الضوء على المرايا الكروية، مازالت تُعرف باسم مسألة ابن الهيثم“.

كما لا يجب أن ننسى الزهراوي، الذي يُعدّ أب الجراحة الحديثة، وأعظم إسهاماته في الطب هو كتاب التصريف لمن عجز عن التأليف، الذي يُعدّ موسوعةً طبية من ثلاثين مجلدًا، وبعضٌ من اختراعاته كأدوات الجراحة مازالت تُستخدمُ إلى اليوم.

لقد ابتكر المسلمون عُلومًا جديدةً لم تكن معروفة قبلهم وسموها بأسمائها العربية، كعلم الحديث، علم الكيمياء، علم الجبر وعلم المثلثات، وهم من ابتكروا المنهج العلمي في البحث والكتابة، وهم من أدخلوا الرسوم التوضيحية في الكتب العلمية، وهم من رسموا الخرائط الجغرافية والفلكية المفصلة، وهم من ابتدعوا الموسوعات والقواميس العلمية حسب الحروف الأبجدية. وكانت الجامعات والمساجد الكبرى لها النصيب الأوفر من المكتبات، في دمشق وبغداد وفي القاهرة وفي جامعة القيروان وقرطبة، كانت المخطوطات في هذه المكاتب بالآلاف في كل علمٍ وفرعٍ من فروع العلم، وكانت كلها ميسرة للاطلاع أو الاستعارة، فكان يحق للقارئ أن يستعير أي كتابٍ مهما كانت قيمته وبدون رهنٍ، وكان تعلم القرآن إلزاميًا، لهذا كانت نسبة الأمية في ذلك الوقت تكاد تكون معدومة، بينما كانت نسبة الأمية في أوروبا أكثر من 95%. ويقول المستشرق آدم متز في كتابه الحضارة الإسلام في القرن الرابع الهجري: “لا يعرف التاريخُ أمةً اهتمت باقتناء الكتب والاعتزاز بها كما فعل المسلمون في عصور نهضتهم وازدهارهم“.

الصراع في مجتمعاتنا؛ صراعٌ مستورد

إن من ظواهر الانهيار الثقافيّ لحضارةٍ فقدت مكانتها أن ينبهر بعضٌ من أهل هذه الحضارة بمن غلب، لقد رأينا في مجتمعاتنا الإسلامية من ضِعاف النفوس من يرى في الحضارة الغربية الغالبة الخير والرشاد كله، لا لشيءٍ إلا لأنها الغالبة، وظنوا أن مشاكل العالم الإسلامي التي أحاطت به وبرزت جرّاء سقوط الدولة المركزية (الخلافة) –سواء بطريقةٍ مباشرةٍ أو غير مباشرة– ستُحلُّ بمجرّد استيراد هذه الثقافة الغالبة جُملةً؛ بكل مقوماتها ومؤسساتها ومساوئها وسلبياتها القاتلة الآخذة بيد العالم نحو قعر الهاوية، وغاب عنهم أنها حضارةٌ صُقلت في بيئةٍ غير بيئتنا، وبين أفكار ومبادئ ومعالم غير أفكارنا ومبادئنا ومعالمنا، كما غاب عنهم أن الحضارة تُبنى ولا تُستورد كما تستورد السلع من دولةٍ إلى دولةٍ أخرى. إن الحضارة تُبنى بأيدي رجالها الذين تُميزهم عن باقي الأقوام قيمٌ ومبادئُ، وهذا هو الاختلاف الطيب الأصيل الذين يُميز المجتمع البشريّ، ولكنهم يتجاهلون هذا الاختلاف ويرفضونه تمامًا، ويدعون للامتزاج والذوبان فيما ليس لهم أو منهم. وإن ما نراه اليوم من بوادرِ صراعٍ بين العلماء المسلمين ورجال الدين المسلمين ما هو إلا نتيجةٌ للاستيراد الأعمى الذي استنزف فيه هؤلاء المرجفون للثقافة الغالبة –سواء العلمانيين أو الليبروإسلاميين– كل طاقتهم.

لقد غاب عن هؤلاء – أو تجاهلوا – حقيقة الإسلام وتاريخ المسلمين المزهر مع العلم والمعرفة، فغاب عنهم أن هذه الحرب لا يُمكن استيرادها، لأن وجهات النظر نحو العلم ونحو الدين تختلف من أمةٍ إلى أخرى، ومن ملةٍ إلى أخرى، ومن ثقافةٍ إلى أخرى، وحتى من حقبةٍ تاريخية إلى أخرى، وأن ما سُمّي صراعًا بين العلم والدين في عصور الظلمات في أوروبا لم يكن له وجودٌ في العالم الإسلاميّ، ولن يكون له وجود. وقد حال وسيحول دون وقوعه الأحاديث والآيات القرآنية التي تُشيد بمكانة العلم والعلماء، وتضع لهم مكانةً لم يضعها لهم أي دينٍ أو مذهب اجتماعيّ قبل الإسلام.

إن هؤلاء المذبذَبين لا إلى هؤلاء ولا إلى هؤلاء وُجِدوا وسيُوجدون في كل عصر، ولو بُعثوا في أوروبا في العصور الوسطى بجلدٍ أوروبيٍّ لدعوا للانسلاخ منه ولاستيراد الثقافة الإسلامية، لا لشيءٍ إلا لأنها كانت الغالبة، ولو غلبت ثقافتنا الإسلامية اليوم لوجدت هؤلاء أنفسهم، الذين يدعون لفصل الدين عن العلم وعن الحياة، شيوخًا يعتلون المنابر، لأنهم بكل بساطةٍ مع من غلب؛ كالعاهرة مع من دفع.

إن من تهكم الحياة بأولي الألباب وأولي النهى أنها أخرجت لهم هذا النوع من البشر، تارةً بثوب المفكرين وتارةً بثوب الكُتّاب والأدباء، وتارةً بثوب الفلاسفة المحلّقين، والحقيقةُ أنهم لم يُسموا هكذا جراء فكرهم الذي لا يُجارى، أو عبقريتهم الفذة واللامتناهية، بل سُموا هكذا ليس لشيءٍ إلا لأن الحياة تحتاج لهم اسمًا لتصنفهم به، وإن كانوا لا يستحقون التواجد في الصنف الذي وُضِعوا فيه. إنهم يقلّدون جبابرة العقول في أوروبا، كذبابةٍ أُعجبت بريش طاووس فهي عبثًا تحاول أن تُحسب في صنفه، وقد يحسب الناس الذبابة طاووسًا قبل أن يحسبوا صِغار العقول هنا في صنف جبابرة العقول هناك.

ختام

وفي الختام وجب أن نقول إن على المسلمين أن يعيدوا الاعتبار لأنفسهم في مضمار العلم خاصة، فالعلم هو سلاح الحاضر الذي لا يُصدّ والحاضر لا يرحم، وإن على المسلمين أن يعلموا أن أمجاد الأجداد منذ ألفٍ وأربعمائة سنةٍ قد أجهز عليها تخاذلنا بألف وأربعمائة طعنة، وإنا إذ لم نُكمل المسيرة وبتضييعنا للشعلة التي استلمناها منهم قد دفنّا جهودهم، ودفناهم هم في أعماق قبور النسيان أسفل بألفٍ وأربعمائة قدم، وقد هُمّشوا في التاريخ من قِبلنا قبل أن يُهمشوا من قبل غُزاة التاريخ الغربيين أنفسهم، وإنا بهذا قد قُهِرنا. والمسلم إذا قُهر لا يستكين، وإذا نحن استكنّا فسنكون من بين الأجيال أكثر من سيندم، وسنخضع لعدالة الواقع التي لا تُرد، وسلطة الثقافة الغالبة التي لا تُدافع، وألسنة التاريخ التي لا ترحم، وعجلة المستقبل التي لا تنعرج ولا تنتظر. فلا يغفلنّ الواحدُ منّا عن هذا لأنها القاصمة.

المصادر

كودري محمد رفيق

من الجزائر، أكتب في الدين والفكر والتاريخ، أرجو أن أكون مِن الذين تُسدُّ بهم الثغور.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى