قراءة في مآلات الخطاب المدني

قراءة في “مآلات الخطاب المدني” للشيخ الدكتور إبراهيم السكران

خط الشيخ الدكتور إبراهيم السكران مناقشة رائعة لمآلات الخطاب المدني الجديد والتي سلط خلالها الضوء على أحد أهم الظواهر التي شهدتها الساحة الإسلامية بعد المنعطف التاريخي في 2001 م و تحديدا بعد 2003 م تاريخ سقوط بغداد الحزين.

توصيف أقلام الخطاب المدني

لقد تمكن الشيخ من توصيف حالة أقلام الخطاب المدني توصيفا دقيقا يؤكد بكل أسف أنها انحرفت لعلمانية صريحة  تمارس التحييد العملي لدور النص في الحياة العامة  وانهمكت في مناهضة الفتاوى الدينية والتشغيب عليها  وانجرت إلى لعب دور كتاب البلاط فأراقت كرامتها ودبجت المديح  وأصبحت تتبرم باللغة الإيمانية وتستسذجها وتتحاشى البعد الغيبي في تفسير الأحداث بل تفاقم الوضع إلى التصريح باعتراضات تعكس قلقاً عميقاً حول أسئلة وجودية كبرى.

لقد رفعت هذه الأقلام لواء التعليق خلف كل حدث أمني بلغة تحريضية ضد كل ما هو “إسلامي”، وغدت مولعة بالربط الجائر بين أحداث العنف والمؤسسات الدعوية  وبالغت في الاستخفاف بكل منجز تراثي  في حين احتفت بالأدبيات الفرانكفونية في إعادة التفسير السياسي للتراث وأنه حصيلة صراعات المصالح وتوازنات القوى وليس مدفوعاً بأية دوافع أخلاقية أو دينية. بل وتجرأ بعضهم إلى اعتياد اللمز في مرويات السنة النبوية وخصوصاً مصادرها ذات الوزن التاريخي واعتبارها مصدر التشوش الاجتماعي المعاصر.

استخدام اللغة الناعمة في التعامل مع خصوم الحل الإسلامي

وفي ذات الوقت الذي يجحف فيه هؤلاء بحق النص والتراث والمؤسسات الإسلامية، يتعاملون على النقيض تماما مع خصوم الحل الإسلامي، أين تجد اللغة الناعمة البشوشة في التعامل معهم  واعتبار حقهم في الحرية والتعبير، والتفهمَ الودود للدراسات التجديفية والروايات العبثية  والتصفيقَ المستمرَّ لكل ما هو “غربي” بطريقة لا يفعلها الغربي ذاته  وعَرْضَ الأعلام الغربية بلغة تفخيمية وَقُوْرة  وإسقاطَ التجارب العلمانية في التاريخ الأوروبي على مجتمعنا بشكل لا يليق بشاب مسلم -كصراع الكنيسة مع العلم والثورة الفرنسية وعصر الأنوار ونحوها- والتركيز على أخطاء المقاومة أكثر من أخطاء المحتل  والمطالبة المستمرة بمواجهة المشروع العسكري الغربي بورود السلام الغاندية.. إلى آخر سلسلة التطورات الموجعة .

السبب وراء التجني على أصحاب الرؤية الإسلامية

ويرى الشيخ السكران أن تضخم هذه التورمات جاء في سياق التفاعلات الحادة والاستفزاز المتبادل مع المنتديات الإنترنتية المتخصصة في الإسفاف والتجني والمتقنعة بلبوس الاحتساب الفكري، بحيث صار الخطاب المدني الجديد تدفعه مشاعر النكاية والعناد ضد البغي الإلكتروني إلى الإمعان في مناقضة الرؤية الإسلامية.
ومع الأسف فإن هذا الخطاب الجديد لا يُستهان به كونه أصبح خطابا نشطا ومتناميا في أوساط الشباب المولعين بالثقافة وذوي المنزع الفكري، ويحظى بحفاوة المؤسسات الإعلامية من صحف وفضائيات وغيرها، حيث ستظل فرص الشاشة والعمود الصحفي مشهداً خلاباً لا تقاومه غريزة تحقيق الذات المتوقدة بداية العمر فيرضخ المثقف/الشاب لشروطها ليحتفظ بها.

الانقلاب المعياري

وفي تفصيل لقسمات الإنقلاب المعياري لخص الشيخ  واقعنا اليوم كمشهد إعادة تقييم  جذرية وشاملة تمس العناصر الجوهرية لرؤيتنا الفكرية أو ما وصفه الكاتب حالة انقلاب حاد في “جدول القيم” حتى أصبح “هرم الأولويات” يقف مقلوباً على رأسه!

لقد طالت هذه الانقلابات المفاهيمية: الموقف من التراث والموقف من الغرب والموقف من المؤسسات الدعوية  والموقف من خصوم الحل الإسلامي  والموقف من واقع مجتمعنا المعاصر والموقف من الدولة العربية الحديثة…

قراءة نصوص الوحي والتراث الإسلامي قراءة مدنية

ولعل أبرز ما ينادي به منتجو هذا الخطاب هو  قراءة “نصوص الوحي” ونصوص “التراث الإسلامي” قراءة مدنية. قراءة موجهة تبحث عن أية مضامين تدعم “المدنية” ثم تؤَوِّل مايتعارض معها  فتصبح فرادة الفقيه داخل هذا الاتجاه تابعة لقدرته في توفير الغطاء الشرعي لمنتجات الحضارة وبحسب إمكانياته في تأويل ما يتعارض معها وتخريجه بشتى المخارج فينحرف بذلك عن قراءة الوحي قراءة “صادقة” تتجرد للبحث الدقيق عن المراد الإلهي!

المساهمة التي يمكن لنا تقديمها للعالم

والسؤال المؤلم الذي يطرحه الشيخ في مناقشته: ما هي المساهمة الحقيقية التي يمكن أن نقدمها للعالم إذا كان قصارى ما نقوله للغرب هو إن ممارساتكم وسلوكياتكم يمكن تخريجها على بعض الأقوال الفقهية لدينا  أو يحتمل أن تدل عليها بعض الأدلة؟ واستطرد الشيخ بعد هذا السؤال في بسط النماذج التفسيرية لهذه الظاهرة والتي يراها بعض النقاد ترجع لسبب “الانبهار بالغرب” الذي يعتبره الشيخ أحد النتائج وليس العامل الحاسم.
وأما بعض النقاد فيرجع السبب “للعقلانية”، ولكن الشيخ يرى أنها ظاهرة تفتقد للنظرية الفعلية في “مصادر المعرفة” فهي تارة مع العقل، وتارة مع النص، وتارة مع الذوق الشخصي، وتارة مع المألوف، وتارة ضد هذه كلها  فهي تدور مع المنتج الحضاري الجديد بغض النظر عن علاقته بمصادر المعرفة.
وبعض النقاد ذهب لتفسير بعيد تماما بأنها امتداد تاريخي لمدرسة “المعتزلة”، وقد أبعدوا النعجة ذلك أن مدرسة المعتزلة مدرسة دينية متزمتة، مدرسة غلو لا مدرسة تساهل،  بل إن المعتزلة أشرف بكثير من الخطاب الفرانكفوني المعاصر.

ويرى الشيخ أن النواة الخفية وراء هذه التحولات الجذرية والحادة في المواقف والرؤى هي “المغالاة في قيمة المدنية والحضارة”  بمعنى أن النموذج التفسيري الذي يقدم إجابة دقيقة حول تطبيقات هذه الظاهرة هو ما يمكن تسميته “غائية الحضارة” و “مركزية المدنية”.

ينابيع الغلو المدني

وتناول الكاتب بعد ذلك ينابيع الغلو المدني،  الذي يرى أن أربعة ظروف رئيسية كان وراء تشكيل أضلاع الوعاء الجوهري لتناميه ألا وهي:
– مناخ سبتمبر.
– والضخ الفرانكفوني.
– وحفاوة وسائل الإعلام.
– ورد الفعل تجاه البغي الإلكتروني.

العلمانية العربية قبل وبعد 1984

ويصل الكاتب إلى سؤال: ما الفرق بين العلمانية العربية ما قبل (1984م) والعلمانية العربية ما بعد (1984م)؟ [ وهو العام الذي احتضن واقعة صدور أول حلقة من سلسلة “نقد العقل العربي” للمفكر المغربي ذائع الصيت محمد عابد الجابري والذي دشن العهد الجديد لتلمود العلمانية العربية التوفيقية].
بمعنى: ما سر الجاذبية في دراسات العلمانية العربية الحديثة التي خلبت أذهان الشباب الإسلامي وجعلته يُقْبِلُ بنهم على هذا اللون من الدراسات والأبحاث؟

ويلخص الشيخ الجواب في أنه التحول من “الاستهداف المباشر للشريعة” إلى “إعادة تفسير التراث” من خلال الأدوات التي تطرحها العلوم الإنسانية الحديثة  أو بشكل آخر القفز من الإشكالية الأنطولوجية إلى الإشكالية الإبستمولوجية. والذي يعد مصدر الجاذبية والإثارة لدى القارئ الإسلامي ومع ذلك فإن لحظة انتقال هذه الشريحة الشبابية بين المدرستين لم تكن مجرد لحظة تفاعل طبيعي مع رافد ثقافي معين  بل شهدت ارتجاجات فكرية مذهلة كانت نتيجة لصدمة انقلاب السؤال المركزي بين المدرستين.

السؤال المركزي بين مدرستس الفكر الإسلامي والفرانكفونية

فالسؤال المركزي في مدرسة الفكر الإسلامي كان سؤال “انتصار الإسلام” ويدخل في ذلك سائر ما تم تطويره من “مفاهيم دعوية” تشكل نسيج هذا الفكر: كمفهوم الحل الإسلامي، وتحكيم الشريعة، والتزكية الإيمانية، والعمل الجماعي، وفقه الواقع، والتعدد التنظيمي، والعمل التربوي، وإنكار المنكرات، وتوعية الجاليات، وتفعيل المساجد، والأمن الفكري، وحراسة الفضيلة، والإعلام الإسلامي، وتضميد جراحات المسلمين، وإعداد القوة، ونحوها من المفاهيم الإسلامية وصيغ العلاقات العريقة في هذا الخطاب.

أما السؤال المركزي للمدرسة الفرانكفونية فقد كان “سؤال الحضارة” ومن ثم محاسبة التراث، والاتجاه الإسلامي، والمجتمع العربي، والدولة العربية الحديثة: على أساس الاقتراب والابتعاد عن “النموذج الغربي الحديث”، حيث كان النموذج الغربي الحديث هو المعيار الضمني غير المعلن، وإن كان النص المغاربي في كثير من الأحيان يتظاهر بخلاف ذلك.

مما جعل انتقال هذه الشريحة الشبابية –موضع الدراسة- بين المدرستين ليس انتقالاً خطياً تراكمياً من مدرسة إلى التي تليها، بقدر ما كان استقالة فكرية غير ودية من معسكر سابق وتسجيل لعضوية جديدة في المعسكر المقابل.

نزول الخطاب المدني من أعواد المنبر إلى قفص الاتهام

ويرى الشيخ أن نزول الخطاب الإسلامي من “أعواد المنبر” فترة التسعينات إلى “قفص الاتهام” بعد سبتمبر بدد شيئاً من جاذبيته الاجتماعية، وفتح المجال لتسويق خطابات أخرى لا تتكئ على نجاحها الخاص، بقدر ما تتكئ على غياب منافسها العنيد. وهذا يعني أن الخطاب الإسلامي المعاصر سيسترد عافيته وموقعه الاجتماعي الريادي بمجرد تجاوز هذه الأزمة والتخلص من الآثار الأمنية الحادة لحادثة سبتمبر.

قانون المتوالية الفكرية

تحول الشيخ بعد هذا البسط إلى مناقشة قانون المتوالية الفكرية لفهم تطورات ظاهرة الخطاب المدني وكيف بدأت بإشكاليات تجديدية اجتهادية مشكورة ثم انتهى كثير من كتابها إلى مآلات مؤلمة مذمومة وبتمايز فريقين:
فريق تيقظ لبطلان الأساس الضمني الذي انبنت عليه هذه الأبحاث وهو غائية الحضارة أو مركزية المدنية  فانبنى على ذلك بطلان أكثر النتائج التي تضمنتها هذه الأبحاث من تبخيس التراث وتوقير الغرب  ومن ثم التنبه للأداتين الأثيرتين في هذه المدرسة لتهشيم التراث وهما أداتي (التسييس والمديونية).
وفريق آخر –وهم الأكثر- فقد استسلم – لا شعورياً – للأساس الضمني في هذه الأبحاث وهو مركزية المدنية لكنه حاول –بحسن نية أيضاً- أن يذب عن دينه وتراثه وأمته بإثبات أن الوحي والتراث يتضمنان أولوية المدنية والحضارة أصلاً، ومن ثم تحول إلى هاجس التفسير المدني للتراث فأخذ يبحث داخل مضامين الوحي والتراث عن أية مشاهد تتوافق مع المدنية الحديثة, وانساق في نقد كل ما لا يتوافق معها داخل التراث.
وما زاد في تأجيج هذا الجموح الشبابي حفاوة كثير من المؤسسات الإعلامية بذلك مدفوعة بتصفية حسابات قديمة مع ما تسميه الإسلام السياسي، فالمؤسسات الإعلامية كائنات سياسية لها أجندتها الخاصة وانحيازاتها العميقة ولكن لها أدواتها الخاصة في الاستقطاب والتوظيف بما يتناغم مع بنيتها مثل: منصب كاتب عمود صحفي  أو مشرف صفحة الرأي  أو مقدم تلفزيوني  أو معد برامج  أو ضيفاً دائماً يوضع تحت اسمه خبير في الجماعات الإسلامية ونحوها من المناصب الإعلامية التي تخطف لب الشاب في عصر الشاشة.

الغايات والنتائج التي سعى لها الشيخ السكران

وإجمالا من خلال هذه المناقشة سعى الشيخ السكران إلى جملة من الغايات والنتائج نذكر منها [1]:

  • أن العبودية هي الغاية الكبرى أما العلوم المدنية فهي وسيلة تابعة لها.
  • أن التنوير الحقيقي هو الاستنارة بالعلوم الإلهية التي تضمنها الوحي وأن الظلامية والانحطاط الرئيسي هو الحرمان من أنوار الوحي مهما بلغت درجة العلوم المدنية.
  • أن أشرف مراتب العمارة هي العمارة الإيمانية وأن جوهر وظيفة الاستخلاف هو تمكين الدين.
  • أن الغلو المدني هو ينبوع الانحراف الثقافي وجذر التخبطات الفكرية المعاصرة.
  • أن الإسلاميين ليسوا ضد المثاقفة ولكن لديهم موقف تفصيلي يفرق بين الانتفاع والانبهار، ويفرق بين مستويات الإنتاج في الحضارات الأخرى.
  • أن خطاب أنسنة التراث آل إلى تغييب دور النص في تشكيل التراث ورد العلوم الإسلامية إلى عنصرين: الثقافات السابقة وصراعات المصالح، بما ترتب عليه انفصال الشاب المسلم عن نماذجه الملهمة.
  • أن المغالاة في مفهوم الإنسان آلت إلى طمس المعايير القرآنية في التمييز على أساس الهوية الدينية.
  • أن التبرم بمرجعية الوحي، والإزراء بالقرون المفضلة، واللهج بتعظيم الكفار، من أكثر شعب النفاق المعاصرة التي تستدعي التحصين الإيماني.
  • أن المغالاة في النسبية يقود إلى العدمية، بما يترتب عليه خسارة فضيلة اليقين ومنزلة الإحسان، والإغراق في الارتياب والحيرة واللاحسم.
  • أن الغضب لله ورسوله إذا انتهكت محارمهما قيمة محمودة وليس توتراً ولا نزقا ولا دوغمائية ولا وصاية ولا إقصاء .
  • أن الاستغراق في ربط الشعائر بعلل سلوكية محضة، أو ربط التشريعات بحكم اجتماعية محضة، من أعظم أسباب توهين الانقياد وذبول الدافعية.
  • أن تعظيم الكلي مع تجميد تطبيقاته يؤول إلى تعظيم شكلي نظري لا حقيقة له, لأن الجزئي معتبر في إقامة الكلي.
  • أن الاستقامة الدينية ليست لمجرد السلامة من النار، بل لها آثار دنيوية كبرى في جلب الخيرات ودفع الكوارث.
  • أن الضعف البشري في تأويل النص باتجاه رضا الناس حقيقة لا يستهان بسطوتها على العامل للإسلام الشغوف باستمالة المدعوين.
  • أن استفراغ الوسع والاستطاعة في إعداد القوة واتخاذ الإمكانيات من الواجبات الشرعية المحكمة.

وفي الختام يؤكد الشيخ السكران أن الدعوة إلى تجديد منهج قراءة النصوص بما يعارض منهج القرون المفضلة مؤداه تجهيل وتضليل تلك القرون المفضلة في أهم المطالب ومصادمة قطعيات النصوص في تقرير اهتدائهم وبصيرتهم، إذ الفضيلة ملازمة للاهتداء  ولاتكون الفضيلة مع الضلالة.

لقد برع الشيخ السكران في إيفاء هذا البحث حقه وتميّز ببناء محكم ومتين وحجج قوية وبراهين، فأضاف جهدا طيبا مباركا للمكتبة الإسلامية يحفظ الأمة من شبح الانحراف العقدي وأخطاء الجهلة وتربصات الأعداء فجزا الله الشيخ عن أمة الإسلام خير الجزاء ونفع بعلمه وعمله.


[1]  الدرر السنيّة.

د. ليلى حمدان

كاتبة وباحثة في قضايا الفكر الإسلامي، شغوفة بالإعلام وصناعة الوعي.

مقالات ذات صلة

تعليق واحد

  1. جزاك الله خيراً يادكتورة ليلى ونفع بك وبسط لك من بركاته ، وجزا الله خيراً فضيلة المؤلف ، ووفق الله أحبابنا في صحيفة تبيان على مايقدمونه من عطاء..

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى