قراءة في كتاب رام الله العثمانية: لماذا نقرأ التاريخ العثماني؟

لسنا مختلفين عن الآخرين الذين يدرسون تواريخهم

كثيراً ما نسمع في بلادنا اعتراضات على البحث التاريخي والمناقشة في الماضي: ماذا نستفيد من النقاش عن أحوال العثمانيين؟ وماذا يفيدنا معرفة تاريخ ولاية ما؟ وما هي فائدة البحث في دولة فرضت منهاج التخلف وامتازت بالانحطاط؟ وماذا؟ وماذا؟،  لنتطلع إلى المستقبل، الغرب يصنع طائرات ويصل إلى الفضاء ونحن مشغولون بما فات.

نحن نقرأ التاريخ لنطلع على تياراته العامة وتوجهاته الرئيسة ولا نغرق في لحظات البؤس العابرة أو الأفراح الموهومة.

فكتابة التاريخ جزء من تشكيل وتكوين الهوية لأن الإنسان عندما يعرف تاريخه يعرف ذاته، الحاضر مرتبط بالماضي وهما قاعدة لاستشراف المستقبل، الإنسان حينما يدرس تاريخه يدرك مكامن القوة والضعف، يعرف من هو العدو، والأساليب التي أتبعها ولا يزال يتبعها العدو ليتعامل معها ، فالتاريخ حقل مهم جداً من حقول المعرفة فتجد الولايات المتحدة، تولي الاهتمامات التاريخية التفاتاً عظيماً، بل نجدها لافتقادها البعد الزمني في تاريخها القصير، تحاول نحت تاريخ بأي شكل من الأشكال يصل حد الهوس بتفاصيل غريبة: أين الورقة التي كتب عليها إبراهام لنكولن خطابه؟، وما هي النكت التي كان يتداولها؟، ومن هم أبناء جيفرسون غير الشرعيين؟، وأين قضى تقاعده؟، وما هي آخر الأبحاث والحفريات في عظام المشاركين في معركة أو ضحايا مجزرة؟، وكيف تطورت أطلال معركة ما منذ وقوعها قبل 150 عاماً؟ وهكذا، لكن نحن وللأسف في عالمنا العربي وفي فلسطين لا نولي أهمية كبيرة للتاريخ بدليل ذلك ضياع العديد من وثائقنا ومصادرنا.

يقدم الكاتب رواية حول حقبة قرية صغيرة وهي قرية رام الله التي تتمدد الآن لتتحول في عهد السلطة الفلسطينية إلى عاصمة لها، ويشكل الكتاب بشكل عملي حديث أوسع من الحديث فقط عن تاريخ رام الله، عن ذاتنا وعن هويتنا وعن أنفسنا، اعتمد الكاتب فيها على  وثائق وسجلات المحاكم الشرعية المدونة في المحاكم العثمانية وهي وثائق لغوية كانت تدون يومياً في القدس، تتعلق كل منها بواقع الخلافات والميراث والزواج والطلاق وحالات القتل وتعليمات الحكومة وأوامرها وكلها مسجلة بهذا الديوان.

وهي عبارة عن وثائق محفوظة ومسجلة بشكل مايكروفيلم تكمن أهميتها في إنها تسجيل طبيعي للحياة الاجتماعية في عهد السلطنة العثمانية، حيث لا تجد فيها تكلف ولا تصنع، ولا يجول في خاطرك أن من كتبها كان يتنبأ أن هناك من سيقرئها بعد خمسمئة عام وبهذا لم يفكروا بأنه يجب أن نغير بها أو يجب أن نبيض صفحة المجتمع بتحريف الوقائع، بل هي على طبيعتها ولا تجد بها ذلك النوع من التحريف أو التكلف، وعلى هذا نحن نكتشف الحقيقة من هذه السجلات.

ففي تاريخنا الفلسطيني كثيراً ما نتحدث عن شخصيات قومية عاشت في فترة الانتداب نجدها في الرواية المثالية إنهم كانوا أبطال واجهوا الاستعمار وواجهوا الصهيونية وصنعوا المجد لكننا سرعان ما نذهب للرواية الواقعية نجد أن هناك من الشعب الفلسطيني من سمسر وباع الأراضي ومنهم من كان يعمل واشياً عند الوكالة اليهودية والمخابرات الإنجليزية، ومن الشعب الفلسطيني من كان يبث الفساد بين المواطنين حتى يضطر الناس لبيع أراضيهم وبهذا نسعى لمعرفة الحقيقة بكافة أشكالها.

والسبب الذي يكمن وراء معرفتنا بها أن الآفات الاجتماعية إذا لم تعالج على حقيقتها وتوصف وصفاً دقيقاً، فلن نستطيع التخلص منها ومن نتائجها، فمثله مثل الطبيب الذي يأتيه مريض ولا يحسن تشخيص المرض فلا هو واصف علاج لحله ولا هو قادر على شفاءه، فإن ما يدعيه حسب وصف الأستاذ سميح حمودة أن هذا الكتاب يقدم نموذجاً ليس في تمجيد الذات وليس أيضاً في جلد الذات بمعنى أن نرمي على أنفسنا فقط المشاكل والتخلف، وإنما هو نموذج في كشف الحقيقة وتقديس الحقيقة واعتبار الحقيقة هي الأساس في أي بحث علمي.

الآن إحدى المشاكل التي نواجهها في الواقع المعاصر أن أغلب الكتاب العرب ينطلقون في تقييم الدولة العثمانية باعتبارها احتلال أو استعمار ينظر إلى هذه الدولة على إنها فترة استعمار لا تختلف عن غيرها من الدول المستعمرة والبلاد العربية كانت خاضعة للاستعمار لمدة 400 عام وهلم جر من الوصوفات التي تقال، طبعاً هذا الكلام غير صحيح بتاتاً لأن الحياة والمصادر والكتب تعكس جانباً مختلفاً تماماً غير الذي يصوره هؤلاء المثقفين الذين يقصفوننا في مصطلحات عريضة دون التعمق بفهمها، بحيث تبين المصادر طبيعة هذه الحياة والتي امتازت بنوع من الانسجام بين الشعوب العربية والدولة العثمانية وخاصة في جميع أنحاء الدول العربية التي حكمتها الدولة العثمانية بحيث كثيراً ما كانوا يعتبرون أنفسهم رعايا للدولة خاضعين لقوانينها متعاونين معها ولأحكامها، لم يخطر ببالهم أن يطلقوا يوماً ولم يطلقوا على هذه الدولة كلمة “الاحتلال” أو “الاستعمار”.

وهكذا كانت تتمثل طبيعة العلاقة بين المركز والشعوب بهذا الشكل في عهد السلطنة وهي عادة مما لا يلتفت الباحث العربي له، فمما يجب التركيز عليه هو فهم  طبيعة هذه العلاقة وإعادة اكتشافها ودراستها دراسة عميقة تبين العلاقات العضوية التي كانت سائدة مثلما بينها المستشرق أبراهام ماركسون في كتابه الشرق الأوسط عشية الحداثة –حلب القرن الثامن عشر، ومن الطبيعي أن لا تكون هذه العلاقة بصورة وردية أو تاريخ من الملائكة فليس مطلوب من تاريخنا أن يكون كذلك ولا يخلوا من وجود توترات ، ولكن هذه التوترات لا يصلح اقتطاعها دون فهم أسباب نشؤوها ومجرى الأحداث التي حصلت بها وعليه إسقاط تعميمات مخلة دون فهم سائر الإحداث.

فأول فكرة يدحضها الكتاب ألا وهي وسم تاريخ 400 عام من عمر دولة بسمة “الاستعمار” ، هذه فكرة مرفوضة، هناك تعقيدات كبيرة ومختلفة في علاقة الدولة العثمانية بالولايات العثمانية العربية التي كانت تحكمها ولا يصح إطلاق هذا التعميم على وجه الإطلاق دون التعمق في فهم طبيعة العلاقة السائدة.

فمثلاً مراجعة سجل الأوامر السلطانية التي صدرت من السلطنة العثمانية للولاة في فلسطين، نجد أن الدولة كانت حريصة على السكان، حريصة كل الحرص على رفاههم وعلى الأمن والاستقرار ومنع القتل والسرقات ومنع الاعتداء، حريصة على أن يعيش الناس بود وأن يجد الطعام والراحة في التنقل والحركة دون وجود عراقيل، فهذا لا ينطبق على وصف هذه الدولة بالاستعمارية!، فالبلد التي تحرص على تقدم السكان ومعاملتهم بهذه المعاملة الحسنة لا يمكن أن نعتبرها استعمارية ولا بأي شكل من الأشكال.

وطبعاً هذا لا يعني أن تخلوا الصورة من وجود مشاكل وهذه سمة جميع المجتمعات لكن يجب أن نكتشف هذه المشاكل من خلال السجلات وندرس الواقع كما كان وليس كما صوره المستشرقون والمؤرخون الغربيون الذين أرادو تحقيق مأرب سياسية في عالمنا العربي اقتضت التفتيت والتقسيم حتى تسهل السيطرة عليهم، فيجب أن لا نقع فريسة لأطروحات الاستشراق والغربيين والذين كان هدفهم الأول والأخير تجزئة البلدان العربية والسيطرة عليها كما هو حاصل الآن.

ماذا عن العلاقات الإسلامية النصرانية؟

يتناول الكتاب بشكل مكثف مسألة العلاقة الإسلامية النصرانية وهي مسألة مهمة جداً، لأن الغرب حينما تدخل في بلادنا إتخذ من مسألة الأقليات حجة، فحينما تدخل الغربي في لبنان انحازت فرنسا للمارونية وبريطانيا انحازت للدروز، فأصبح ما لدينا من مجازر في عام 1860م بين الدروز والموارنة لأن فرنسا وبريطانيا كان بينهما تنافس فسعتا لبث هذا الخلاف، فعملياً مسألة الأقليات مسألة مهمة ونجد في التاريخ العثماني وكما يكشف الكتاب أن العلاقة كانت صحيحة بين الفئات المختلفة في المجتمع، بمعنى أن المسلمون لم يكونوا ينظرون للنصارى على أنهم أقلية بل كانوا يعتبرونهم جزءاً لا يتجزأ من الشعب، فالعلاقات كانت ودية علاقات تحالف علاقات طبيعية وزيارات وتجارة حيث يعرض الكتاب العلاقة بين أهل البيرة وهم مسلمون وأهل رام الله وهم نصارى وتبين وجود تحالف بين حمولة أهل البيرة وأهل رام الله، بحيث يصل هذا التحالف إلى درجة التضحية بالدم إذا ما أحتاج طرف ليدافع عن الآخر.

ولطالما كان شباب البيرة مسؤولين عن تنظيم أفراح أهل رام الله بحيث هم من يعملون الدبكة والسحجة (رقصات شعبية يؤديها الرجال في الأعراس) والتي تتمثل في ثلاثة أيام وتمتد لأسبوع بشكل يمثل علاقة وطيدة جداً، لكن الغرب كما نجد حتى اليوم في الأعلام الغربي يصور كأن وما يعيش في هذا الشرق وحوش، وحوش تنتظر الفرصة لتنقض على بعضها البعض، لكن التاريخ الحقيقي والذي يمثله السجلات يعكس الصورة تماماً، فمسألة تحكيم الشريعة، نجد اليوم اعتراض كبير على تحكيم الشريعة بسبب اعتبارها أنها تفضل المسلمين على المسيحيين، وتقوم باضطهاد المسيحيين ولكن الحقيقة إذا ما رجعنا للسجلات لا نجد إلا عكس ذلك تماماً فلا يوجد أي تفضيل من المحكمة للمسلمين على المسيحيين، وهنا أذكر قصص كثيرة تناولها الكتاب، حيث كان القاضي الشرعي ملجأ للمظلومين سواء كانوا من النساء أو من أصحاب الديانات الأخرى أو الفقراء بمعنى أن حكم الشريعة في تاريخنا العربي والفلسطيني كان حكم العدالة وإعطاء الناس حقها، ويذكر المؤرخ المسيحي وائل حلاق في كتابه ما هي الشريعة ص 55-56 بشيء مشابه للذي يذكره الأستاذ سميح حمودة قائلاً:

 كان كل شخص على يقين من أن أي ظلم يقع على الضعيف سوف يتم تعويضه وأن تعديات الأقوياء سوف تُكبح، والحال أن ذلك كان أمراً متوقعاً أكدته قرون من الممارسة، حيث كان الفلاحون ينجحون دوما في الاقتصاص من أسيادهم الجائرين، وحيث كان اليهود والنصارى لا يُنصفون أمام قرنائهم المسلمين رفقائهم في العمل وجيرانهم فقط وإنما أيضا أمام أشخاص لا يقلون نفوذاً عن حاكم أو والي منطقة ما.

وفرت المحكمة الإسلامية – أو مجلس الحكم الشرعي إذاً نوعاً من الساحة العمومية المتاحة لأي شخص يريد أن يستخدم هذه الساحة وفقهها في الدفاع عن حقه، لقد كان مسار عمل المحكمة الحديثة بالغ الرسمية، وبنية التمثيل القانوني فيها -المكلف مادياً-، والذي ينزع إلى كبت أصوات المتقاضين ناهيك عن كبت حسهم الأخلاقي أمورا لم يعرفها قط القضاء الشرعي، وبالتالي لم يكن يعرف أيضا المحامين ولا تكاليف التقاضي الباهظة الكفيلة بتثبيط عزم الضعفاء والفقراء عن المطالبة بحقوقهم، لقد نجحت المحكمة المسلمة إذاً في ما فشلت فيه المحكمة الغربية الحديثة.

وعودة سريعة للأمثلة التي يوردها كتاب رام الله العثمانية، فحينما كان يأتي النصراني في المحكمة الشرعية للشهادة لكي يشهد، والإشاعة تقول أن الشهادة الخاصة بالنصراني لم يكن القاضي يقبلها، وهذا غير صحيح، السجلات تثبت أن شهادة النصراني كانت مقبولة عند القاضي ولكن بدلاً من القسم على القرآن كان يقسم على الإنجيل الذي أُنزل على عيسى ابن مريم.

وتشير إحدى القصص إلى وجود أحد الأشخاص من قرية رام الله كان له بقرة حمراء اللون هذه البقرة قام إثنين بدو بسرقتها وقاما ببيعها للحام في القدس، فقام اللحام بذبحها وجلس يبيع بلحمها، تتبع صاحب البقرة أطراف الخيط حول سرقة بقرته حتى وصل للحام، فوجد رأسها وجلدها عند اللحام أخذها وذهب للقاضي وقدم شكوى ضد اللحام كان مفاد الشكوى بأن هذا اللحام ذبح البقرة وقام ببيعها، وعمل القاضي يقضي بالفصل بهذه المنازعة والنظر بها، فأحضر صاحب البقرة شهود بأن هذه البقرة كانت له وأكدوا أنها تعود له من رأسها وجلدها، فحكم له القاضي وطلب من اللحام بدفع حق البقرة للرجل وتعويضها عن ثمنها، وحقه الذي دفعه للسارق هو يقوم بتحصيله ولا علاقة للرجل به وفعلاً قام اللحام بالدفع كما تشير سجلات المحاكم، وقضايا كثيرة تثبت أن حكم الشريعة لا يعني ظلم أحد بل على العكس منه نجد أنها دائماً تعطي الحق للآخرين.

والكتاب يسرد عدة قضايا للنساء من رام الله أيضاً في قضايا التوريث وذلك لأن العرف كان يقضي من حرمانها من حقها وهذا عرف وليس حكم الشريعة وذلك لأن المرأة تتزوج من أسرة أخرى فتصبح ملكية الأسرة ملك لعائلة أخرى وهذا لم يكن مقبولاً، فعدة قضايا قدمت للمحكمة من نساء نصرانيات في الميراث في استيلاء أخوها أو عمها أو أحد أقاربها وقيامه بحرمانها من الميراث والاستيلاء عليه وكان دوماً القاضي ما يحكم لها ويسعى إلى إنصافها بما تمليه عليه أحكام الشريعة الإسلامية.

المسألة الأساسية التي يرسخها الكتاب أننّا أحق الناس في رواية تاريخنا والحديث عن هويتنا وعن علاقاتنا، ويجب أن نمنع التدخل الغربي الذي يستخدم قضايا مزيفة وقضايا أسطورية، فيقوم بإطلاق الإشاعة ويشيعها بين الناس والناس تقوم بتصديقها فوراً ويقوم بالتطبيق إثناء إطلاق هذه الإشاعة، وهذه من السياسة التي حصلت في التاريخ المعاصر فما حصل في العراق دليل على هذه السياسة المزيفة والتي قامت على إطلاق كذبة والتي تلخصت بوجود أسلحة دمار شامل والتي أطلقها بوش وتوني بلير، فكانت كفيلة بالتدخل وإحداث كل هذا الخراب فماذا حصل ويحصل نتيجة هذه الإشاعة ؟ وكم من الدمار حصدنا بفعل هذه السياسة في أوطاننا العربية؟.

“هذا الكتاب هو نموذج لكل إنسان فلسطيني وعربي يهمه الواقع، يهمه شعبه وتهمه قضاياه بحيث  برواية التاريخ وأن نستند إلى مصادرنا ولا نتفاخر بالنقل عن المستشرق فلان والمستشرق علان القائل ، فيعلمنا هذا الكتاب أن نعتمد على هذه المصادر التي تشكل تاريخنا وأن نعتمدها في كتاباتنا التاريخية”.

أنس سلامة

طالب إدارة عامة، قارئ مهتم بالعهد العثماني والبحث التاريخي في العهد الإسلامي وخاصة بتتبع سير… More »

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى