إثم المنكر بين التقنين ولوم الفاعل

قالوا إن الحاكم المسلم مضطر للإبقاء على قوانين الكفر؛ فليست لديه القدرة على تغييرها، ولم يجعلوه آثمًا في ذلك، بل مدحوه وقالوا إنه لما اعتلى منصب الحكم كانت قوانين الكفر موجودة وليس هو من أوجدها، فجعلوا بذلك الحكم بغير ما أنزل أمرًا أباحه الله، قولهم يشبه قول الكفار للرسل «وَإِذَا فَعَلُوا فَاحِشَةً قَالُوا وَجَدْنَا عَلَيْهَا آبَاءَنَا وَاللَّهُ أَمَرَنَا بِهَا قُلْ إِنَّ اللَّهَ لَا يَأْمُرُ بِالْفَحْشَاءِ أَتَقُولُونَ عَلَى اللَّهِ مَا لَا تَعْلَمُونَ».

قُلتُ: حسنًا، الحاكم المسلم الذي لا يلغي قوانين الكفر التي سنَّها من قبله فهو منفذ لها على كل حال وحاميها، ومُقِرٌّ لها إذن، فهل الإثم يكون على من سنَّ قانونًا مخالفًا للشرع فحسب، أم على المنفذ له والمُقِرِّ له أيضًا، والمساند له، والمُبقي عليه، وحاميه؟
فمثلًا، الله لم يلعن صانع الخمر فقط، ولا شاربها فحسب، بل كل من له علاقة بها، حتى حاملها. قال رسول الله: “لَعَنَ اللَّهُ الْخَمْرَ، وَشَارِبَهَا، وَسَاقِيَهَا، وَبَائِعَهَا، وَمُبْتَاعَهَا، وَعَاصِرَهَا، وَمُعْتَصِرَهَا، وَحَامِلَهَا، وَالْمَحْمُولَةَ إِلَيْهِ” (سنن أبي داود).

ولم يلعن الله آكل الربا فقط، ولا مُؤكله فحسب، بل حتى من كتب عقد الربا ومن شهد على العقد. عن جَابِر بن عبد الله قال: “لَعَنَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ آكِلَ الرِّبَا، وَمُؤْكِلَهُ، وَكَاتِبَهُ، وَشَاهِدَيْهِ، وَقَالَ هُمْ سَوَاءٌ” (صحيح مسلم).

وقلتُ: إذا كان لا إثم على حاكم أقر قوانين تحرم ما أحل الله وتحل ما حرم الله، فما الحكم الشرعي على محكوم عمل بمقتضى تلك القوانين، فارتكب أفعالًا حرمها الله؛ استنادًا لقوانين أقرها الحاكم؟

مثلًا، ما حكم امرأة اشتغلت بالدعارة لأن الحاكم قنَّن الدعارة وأباحها وجعلها عملًا مباحًا ومحميًا تكسب منه المرأة رزقها، بل وتساهم في خدمة مادية للمجتمع بدفعها ضرائب للدولة؟ فهل الحاكم الذي أقر الدعارة وقنَّنها مضطرًا غير آثم، لكن المرأة البسيطة الممارِسة للدعارة آثمة وفاسقة وفاسدة وعاصية ومرتكبة لكبيرة، رغم أنها تمارس الدعارة لأن الحاكم رخَّص لها ذلك؟ وبالإضافة إلى ذلك، ربما تكون مضطرة لممارسة الدعارة لتغطي نفقتها ونفقة أهلها؟!

ومثلًا، ما حكم رجل وامرأة اتفقا على ممارسة علاقة جنسية بدون عقد زواج (الزنا) لأن الحاكم أباح الممارسات الجنسية خارج إطار الزوجية، وجعلها من الحقوق الشخصية المقدَّسة التي يُقاس على أساسها مدى تحضر الدولة والمجتمع وتُفتح بها الأبواب تجاه الغرب، وليرضى الغرب عن الحاكم ويقبل بالدولة عضوة فيه؟ فهل الحاكم الذي أقر الزنا بقوة القانون وقنَّنه مضطرًا غير آثم، لكن المرأة والرجل البسيطين الممارِسين للزنا آثمان وفاسقان وفاسدان وعاصيان ومرتكبان لكبيرة، رغم أنهما يمارسان الزنا لأن الحاكم رخَّص لهما ذلك؟ وبالإضافة إلى ذلك، ربما يكونا مضطرين لممارسة الزنا لعدم مقدرتهما المادية على الزواج؟

ومثلًا، ما حُكم رجلين اتفقا على ممارسة علاقة جنسية (فعل قوم لوط) لأن الحاكم أباح الممارسات الجنسية بين الذكرين وجعلها من الحقوق الشخصية المقدَّسة التي يُقاس على أساسها مدى تحضر الدولة والمجتمع وتُفتح بها الأبواب تجاه الغرب، وليرضى الغرب عن الحاكم ويقبل بالدولة عضوة فيه؟ فهل الحاكم الذي أقر فعل قوم لوط بقوة القانون وقنَّنه مضطرًا غير آثم، لكن الرجلين البسيطين الممارسين لفعل قوم لوط آثمان وفاسقان وفاسدان وعاصيان ومرتكبان لكبيرة، رغم أنهما يفعلان فعلتهما لأن الحاكم رخَّص لهما ذلك؟ وبالإضافة إلى ذلك، ربما يكونا مضطرين لممارسة فعل قوم لوط لأنهما لا يستطيعان التغلب على ميولاتهما الجنسية؟

ومثلًا، ما حكم المسلم الذي يشرب الخمر أو يصنعه أو يبيعه لأن الحاكم أباح ذلك؟ فهل الحاكم الذي أقر وقنَّنَ صناعة الخمر والتجارة بها وشربها مضطرًا غير آثم، لكن المسلم البسيط الذي يصنع الخمر أو يبيعها أو يشربها آثم وفاسق وفاسد ومُفسد وعاصٍ ومرتكب لكبيرة، رغم أنه ما فعل ذلك إلا لأن الحاكم رخَّصه له؟ وبالإضافة إلى ذلك، ربما يكون مضطرًا لشرب الخمر لنسيان ضغوطات الحياة ومشاكلها، أو مضطرًا للتجارة بالخمر لأنها مصدره الوحيد لكسب المال؟

ومثال آخر، ما حكم مسلم يشتغل في قاعدة عسكرية للكفار في بلاد المسلمين، يزود مثلًا طائرات الكفار بالكيروسين وينظفها ويساعد على حمل الصواريخ على أجنحة الطائرات العسكرية ويسهر على راحة الطيارين الكفار بخدمتهم؛ ليتمكنوا من الإقلاع وإصابة “أهداف” في بلد مسلم، ضد مسلمين؟ ويفعل هذا المسلم كل ذلك لأن الحاكم أباح إنشاء الكفار لتلك القاعدة العسكرية في البلد الإسلامي، واعتبر المعاهدات العسكرية مع الكفار ومنحهم قواعد عسكرية من الضرورات التي تُفتح بها الأبواب تجاه الغرب، وليرضى الغرب عن الحاكم ويقبل بالدولة عضوة في هيئاته، فهل الحاكم الذي أقر المعاهدات العسكرية مع الكفار وقواعدهم العسكرية في بلاد المسلمين مضطرًا غير آثم، لكن المسلم البسيط الذي يشتغل عند جنود الكفار في تلك القواعد العسكرية آثم وخائن وعميل ومرتكب لكبيرة، رغم أن عمله لدى جيوش الكفار لم يكن ممكنًا إلا لأن الحاكم رخَّص للكفار إنشاء قواعد عسكرية في بلاد المسلمين؟ وبالإضافة إلى ذلك، ربما يكون المسلم مضطرًا للعمل عند جيش الكفار لأنه ليس لديه عمل بديل يكتسب منه قوته وقوت أهله؟

وقس على ذلك أمثلة لا تحصى بين فاعل المنكر، ومُقنِّن المنكر، ومُقِرِّ المنكر!، فمن الآثم يا أهل الإسلام؟ هل فاعل المنكر وحده هو الآثم، لكن مُقنِّن المنكر ومُقِرّه ومنفذه وحاميه كلهم معذورون مضطرون غير آثمين؟

فاروق الدويس

مسلم مُتابع للأحداث في البلدان الإسلامية خاصة، يحاول المساهمة في معركة الأمة المصيرية بأبحاث ومقالات… More »

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى