رمضان فرصتك لإنقاذ قلبك… فكيف نتهيّأ لموسم الأجر والخيرات؟

أيامٌ ويُقبِل رمضان والقلب مشتت والنفس متهالكة والهِمم مبعثرة، والشواغل تغطي القلب والعقل، فلا حال الأمّة يُريح، ولا التغاضي ينفع، ولا الملهيات تنتهي، ولا المتطلبات تتوقف… عالمٌ من الشتات نعيش فيه، وقليلٌ من يأخذ نفسه بالعزم والجِدّ، فأصبح أفضلنا حالًا هو من يُأمِّل نفسه براحة رمضان، وسكينة التراويح، وخشوع القرآن.

كيف وهذه هي الحال والروح مُثقلةٌ أن يُتنَفَّس عبير رمضان، كيف لقلبٍ ما عاد فيه موضع أن يلين ويُخبت ويتدبر كلام ربّه، كيف لعقل أهلكته الشواغل أن يتفكَّر ويتدبّر؟! أمَّلت نفسي أنّ ساعات من التدريب على القيام والحفاظ على وِردٍ يزداد يومًا بعد يوم، سيَفِيانِ بالغرض!

ولكن ما تفيد أعمالُ الجوارح والقلب في واديه، يسارع انتهاء الوِرْد لينقلب إلى مشاغله، ما يكاد يسكن من الانشغال، كيف لوعاء امتلأ أن تضع فيه المزيد؟!  كيف لقلب يحتاج لإنعاشة أن تطلب منه الركض؟! إنه حال المُنبتّ–أي المنقطع-الذي اشتدّ على راحلته في طلب هدفه، والراحلة ما تدرَّبت تدربّ صاحبها، فهلكت منه في منتصف الطريق، فلا هو بلغ مراده، ولا أبقى راحلته.

فإن المُنْبَتَّ لا أرضًا قطع، ولا ظهرًا أبقى.

فكان عِماد الأمر ومُبتَدَأهُ: إنقاذَ القلب الذي سيحملك في رمضان، لتنعم بدويّ القرآن والمساجد تصدح بآيات القرآن في القيام، لتغتنم عبادة رمضان، لتنقطع عن شواغلك وتوكلها لله، وأنت تسعى وتأخذ بالأسباب فقط دون أن تشغل قلبك بالتدبير، فالله يُدبِّر لك. فإنه إذا نقص مخزون القلب وقلَّت لياقته فلن تستطيع احتمال العبادة الرمضانية وما بعدها. يقول رسولنا الكريم الذي ما ينطق عن الهوى:

«ألا وإن في الجسد مضغة: إذا صلحت صلح الجسد كله، وإذا فسدت فسد الجسد كله، ألا وهي القلب»

فيقول شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله: «الأعمال الظاهرة لا تكون صالحة مقبولة إلا بتوسط عمل القلب.» ويرسم ابن القيم-رحمه الله-العلاقة ما بين الجوارح والقلب، وأيهما يُقدّم وينال الحُظوة عند ربه: «فواجبات القلوب أشد وجوبًا من واجبات الأبدان وآكد منها، وكأنها ليست من واجبات الدين عند كثير من الناس، بل هي من باب الفضائل والمستحبات، فتراه يتحرَّج من تركِ واجب من واجبات الأبدان، وقد ترك ما هو أهمّ واجبات القلوب وأفْرُضها، ويتحرج من فعل أدنى المحرمات، وقد ارتكب من محرمات القلوب ما هو أشد تحريماً وأعظم إثمًا»

لِمَ الإعداد والتجهيز؟

ولقد يتراءى للذهن أنّ الأمر ما دام ارتكازه على القلب، فلِمَ الاستعداد لرمضان؟ ولِمَ التجهُّز؟ والجواب يسير: لأن الحال لا يستقيم بعمل قلب دون عمل جوارح، ولأن رمضان شهر الفرص والمنح «مَنْ قَامَ رَمَضَانَ إِيمَانًا وَاحْتِسَابًا، غُفِرَ لَهُ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِهِ». فبعد عرض الأعمال على الله في شعبان، وكلٌ منّا أدرى بحاله مع الله، وكيف كان عمله في السنة الماضية، فكان لا بدّ من استغلال فرصة رمضان وما تنعّم الله به علينا من مغفرة ما تقدّم من الذنب.

ولأنّ الإعداد المُبكِّر علامة صدق الإيمان، يقول تعالى: “وَلَوْ أَرَادُوا الْخُرُوجَ لأَعَدُّوا لَهُ عُدَّةً” فكانت تلك الأيام التي تسبق رمضان هي فرصة إظهار الصدق وشدّ المئزر والتشمير عن ساعد الجِدّ، فتلك أيامٌ من شعبان، ذاك الشهر الذي تُرفع فيه الأعمال إلى الله، والذي يغفل عنه كثير من الناس، كما قال نبينا صلى الله عليه وسلّم موضحًا سبب إكثاره من العبادة في شعبان: «ذَلِكَ شَهْرٌ يَغْفُلُ النَّاسُ عَنْهُ بَيْنَ رَجَبٍ وَرَمَضَانَ، وَهُوَ شَهْرٌ تُرْفَعُ فِيهِ الْأَعْمَالُ إِلَى رَبِّ الْعَالَمِينَ، فَأُحِبُّ أَنْ يُرْفَعَ عَمَلِي وَأَنَا صَائِمٌ»

منهج عملي لاستقبال رمضان

كثيرًا ما يتكرر هذا المشهد كل عام، عندما يتفاجأ الناس بتهيّأ المساجد لاستقبال المعتكفين، ترى بعض المسلمين وكأنّه لم يعلم أن ثلثي الشهر قد انقضى، وأنّه ما فعل في رمضان شيئًا غير الصيام، ومع عِظم أجر الصائم إلا أنه قد ضاع عليه الكثير من الفضل وأكثر من عشرين فرصة للمغفرة والعتق من النيران، غير ما لا يُحصى من أجر قراءة القرآن وعمارة النفوس بالقرب من ربها في السَحَر.

اقرأ أيضًا: كيف تستفيد بما بقي من رمضان ؟

وحقيقة المشهد أنّه نقص استعداد وإيهام نفسي بمشقة الصيام التي يصعب معها العمل، فكان يقضي يومه نائمًا أو يُحاول تضييع ما بقي من ساعات حتى يأتي أذان المغرب، فتمر الساعة بعد الساعة ويمر اليوم بعد اليوم، وهو بلا هدف سوى الوصول لأذان المغرب يوميًا، فلا ينتبه لعدم استغلال هذا الموسم؛ لذا كان لا بدّ لنا من رسم منهج عملي، يضبط لنا خطوات السير، حتى نُحسن استغلال رمضان، ونتهيَّأ لاستقباله.

معالجة القلب وتهيئته وتنقيته من الشواغل

وينبه شيخ الإسلام ابن تيمية-رحمه الله-إلى حقيقة السبق، ومدار الأمر؛ فيقول: «فإن الأعمال تتفاضل بتفاضل ما في القلوب من الإيمان والإخلاص، وإن الرجلين ليكون مقامهما في الصف واحداً، وبين صلاتيهما كما بين السماء والأرض». فكان لا بد من الاهتمام بتهيئة القلب، ولمن أعظم الأسباب المُعينة على تهيئة القلوب زيارة المقابر والاتعاظ بحال الأموات الذين لا يستطيعون دفع دواب الأرض عن أجسادهم، فضلًا عن العودة واكتساب حسنة واحدة قد تعدل لهم الموازين أو تغير الدرجات.

وكذلك زيارة المستشفيات وما فيها من تغير وتبدل الأحوال، فهؤلاء الذين لا يستطيعون تحريك ساكنٍ، كانوا يملؤون الأرض سعيًا، فمنهم من كان مقيمًا على عبادات والآن لا يستطيع حتى الجلوس للصلاة، ومنهم من كان يسعى وألْهتْه الدنيا، ومنهم من كان يظلم ويظن أنّ قوَّته وطاغوته سيدومان.

التعرف على الله بصفاته

ولمِن أرجى ما يقوم به العبد أن يتعرَّف على ربه بصفاته، ويتعبّد له بمقتضى تلك الصفات، فيعلم لمَن يتعبّد، ويستحضر أنّ الأعمال تُعرض على الله، فيكون حاله بين خوف من عقاب الله له على تقصيره ورجاء أن يبلغه الله رمضان فيحسُن عمله، ويرجو رحمة ربّه ومغفرته وعفوه.

التخلص من المشاحنات

يقول النبي صلى الله عليه وسلم: «يطلع الله إلى خلقه في ليلة النصف من شعبان فيغفر لجميع خلقه إلا لمشرك أو مشاحن» فالمشاحِن ممنوع من المغفرة وما أحوجنا لعفو الله ومغفرته، فنصفح ونعفو رجاء أن يغفر الله لنا.

صلة الرحم

وإنه لمن أعظم وسائل القرب من الله أو البُعد عنه هي الأرحام، يقول النبي صلى الله عليه وسلم: «إن الله خلق الخلق حتى إذا فرغ من خلقه قالت: الرحم هذا مقام العائذ بك من القطيعة قال: نعم، أما ترضين أن أصل من وصلك وأقطع من قطعك؟ قالت: بلى يا رب، قال فهو لك» فانظر كيف وعد الله بأن يصل من وصل رحمه، ويقطع من قطعها!

ولقد وعد الله باللعن لقاطع الرحم، يقول تعالى: «فَهَلْ عَسَيْتُمْ إِنْ تَوَلَّيْتُمْ أَنْ تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ وَتُقَطِّعُوا أَرْحَامَكُمْ * أُولَئِكَ الَّذِينَ لَعَنَهُمُ اللَّهُ فَأَصَمَّهُمْ وَأَعْمَى أَبْصَارَهُمْ» ويقول السعدي في تفسير قوله تعالى: «وَالَّذِينَ يَصِلُونَ مَا أَمَرَ اللَّهُ بِهِ أَنْ يُوصَلَ وَيَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ وَيَخَافُونَ سُوءَ الْحِسَابِ» “… ويَصِلُونَ آباءهم وأمَّهاتهم ببرِّهم بالقول والفعل وعدم عقوقهم، ويصِلون الأقاربَ والأرحام بالإحسان إليهم قولًا وفعلًا، ويصِلون ما بينهم وبين الأزواج والأصحاب والمماليك بأداء حقهم كاملًا موفرًا من الحقوق الدينية والدنيوية، والسبب الذي يجعل العبد واصلًا ما أمر الله تعالى به أن يوصَل خشية الله تعالى وخوف يوم الحساب؛ ولهذا قال الله سبحانه: {وَيَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ}؛ أي: يخافونه، فيمنعهم خوفهم منه ومن القدوم عليه يوم الحساب، أن يتجرَّؤوا على معاصي الله تعالى، أو يقصِّروا في شيء مما أمر الله سبحانه به؛ خوفًا من العقاب، ورجاء للثواب”

معايشة أنباء الآخرة

يقول الله تعالى في معرض الامتنان على أنبيائه إبراهيم وإسحاق ويعقوب بأنه أخلصهم بذكرهم للدار الآخرة “إِنَّا أَخْلَصْنَاهُم بِخَالِصَةٍ ذِكْرَى الدَّارِ” . إذْ هي من أعظم أسباب رقة القلب وإنابته وإخباته.

الذِكر

يقول الله تعالى: «الَّذِينَ آمَنُوا وَتَطْمَئِنُّ قُلُوبُهُم بِذِكْرِ اللَّهِ ۗ أَلَا بِذِكْرِ اللَّهِ تَطْمَئِنُّ الْقُلُوبُ» وإن كان مدار العمل في هذه الأيام على تزكية القلوب وتهيئتها، فليس أفضل من “ذكر الله” مُعينًا على ذلك، فبه تأنس القلوب وتسكن وتطمئن.

الفرح بالعبادة

ولكم نسينا وجهلنا عبادة الفرح بفضل الله علينا وتوفيق الله لنا للطاعات، فتلك عبادة منفردة هي من أجلِّ العبادات، يقول تعالى: «قُلْ بِفَضْلِ اللَّهِ وَبِرَحْمَتِهِ فَبِذَلِكَ فَلْيَفْرَحُوا هُوَ خَيْرٌ مِمَّا يَجْمَعُونَ» يقول ابن القيم في مدارج السالكين: (فالفرح بالله، وبرسوله، وبالإيمان، وبالسنة، وبالعلم، وبالقرآن؛ من أعلى مقامات العارفين).

معايشة أخبار الصالحين

ولمن أفضل أنواع التربية هي التربية بالقدوة، فمعايشة أنباء وأخبار الصالحين وكيف كانوا يعيشون تلك الأيام وكيفية استعدادهم لرمضان وتهيئة قلوبهم وأنفسهم لاستقباله، معايشة تلك الأحوال ترفع الهمم، وتزيد من الإصرار على الطاعات اقتداءً بهؤلاء الأخيار، كذلك الاستفادة بهديهم وطرقهم في حسن الاستغلال لهذا الموسم المبارك.

معرفة معاني كتاب الله

ولنعود إلى كتاب الله لننظر كيف رسم الله لنا هويّة رمضان، وكيف رسمه لنا نبينا، فلقد كان ذكر رمضان مقترنًا دائمًا بالقرآن يقول تعالى: “شَهْرُ رَمَضَانَ الَّذِي أُنْزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ” كذلك: (إِنَّا أَنْزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةِ الْقَدْرِ). بل قد اختار اللهُ لنبيه شهر رمضان لمدارسة القرآن، كما جاء في صحيح البخاري: «كان رسول الله صلى الله عليه وسلم أجود الناس، وكان أجود ما يكون في رمضان حين يلقاه جبريل، وكان جبريل يلقاه في كل ليلة من شهر رمضان فيدارسه القرآن»

فإذا كان اللهُ اختار لنبيه مدارسة القرآن في رمضان فمن حُسنِ الاقتداء مدارسة القرآن في رمضان وللاستعداد لذلك، وللاستفادة من تلك المدارسة علينا أن نتهيّأ بقراءة في كتاب مختصر للتفسير ومعرفة معاني ألفاظ القرآن.

بيئة رمضانية في الأُسرة

وإن كان هذا المجهود في الإعداد لرمضان، إلا أنه يصعب جدًا أن تستفيد منه بدون أن يكون الجوّ العام لبيئتك التي تعيش فيها يشجِّع على هذه الخطة والاستعداد. وإلا فحتمًا ولا بد أن يُخرجوك لبيئتهم ويشغلونك عن خطتك ويعيدون إليك ما تحاول تفريغ نفسك منه من مشاغل الدنيا وملهياتها. هذا بالإضافة إلى مسئوليتك عن أحوال من حولك وتبليغهم الدينَ ودعوتهم للعبادة، فلا تستأثر بنفسك بعيدًا عمن غفل من حولك.

معرفة أحكام الصيام

وإنه لمن مقصود الصيام تحقيق التقوى، كما جاء في تعريف التقوى: “التقوى أن تعمل بطاعة الله على نور من الله ترجو ثواب الله، وأن تترك معصية الله على نور من الله تخاف عقاب الله” فكان لازمًا علينا معرفة الأحكام التي تتعلق بالصيام وصحته ومبطلاته لننال الأجر بصيام صحيح، ونحقق التقوى التي هي خير الزاد. وهنا أنصح بهذه السلسة التي فيها ما يحتاجه غالب الناس من أحكام الصيام: فتاوي الصيام-الشيخ الدكتور: محمد حسن عبد الغفار

رسم خطّة حتى لا يسرقك الوقت

وإن كان من سنن الله في النجاح أنّ من أراده لا بد له من تحديد هدفه، فإنك إن لم تضبط هذا سُرق منك الشهر قبل أن تستفيد منه، وتُفاجَأ بأنّك قد غُبنت ومرّ الشهر قبل أن يُغفر لك وقبل أن تغتنمه. فاستعدّ لموسم الأجر والخيرات ليبتهج قلبك بقدومه وتفرح بتوفيق الله لك وفضله عليك وتتخلص روحك من مثقلاتها وتسكن نفسك ويأنس قلبك بآيات الله تُذكر، وشعائر الله تُرفع، وتتهيّأ لأن تخرج بزاد يكفيك حتى يمنّ اللهُ عليك برمضان آخر.

مي محمد

طالبة علم، أرجو أن أكون مِن الذين تُسدُّ بهم الثغور.

مقالات ذات صلة

تعليق واحد

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى