الشاعر محمد إقبال.. شاعر الإسلام والمنافح عنه

ولد محمد إقبال في “سيالكوت ـإحدى مدن البنجاب الغربية (الهند)-” في الثالث من ذي القعدة 1294هـ الموافق 9 تشرين ثاني نوفمبر 1877م. أصل إقبال يعود إلى أسرة برهمية؛ حيث كان أسلافه ينتمون إلى جماعة من الياندبت في “كشمير”، واعتنق الإسلام أحد أجداده في عهد السلطان “زين العابدين بادشاه” (1421 ـ 1473م) قبل حكم الملك المغولي الشهير “أكبر” ونزح جد إقبال إلى سيالكوت التي نشأ فيها.

مسيرة محمد إقبال العلمية

محمد إقبال

بدأ محمد إقبال حياته بحفظ القرآن وتعلمه، وبعدها بدأ الدراسة في مدارس بلدته الابتدائية والثانوية ثم التحق بالكلية الحكومية. ولنبوغه أُرسل إلى لندن جامعة “كامبريدج” وحصل على درجة مرموقة في علم الفلسفة والاقتصاد، ثم سافر إلى جامعة “ميونخ” بألمانيا وحصل على دكتوراه في الفلسفة، وعاد إلى لندن لحضور الامتحان النهائي في الحقوق فحصل على درجة عالية في القانون، وفي لندن عمل في تدريس اللغة العربية في جامعتها، وحاضر كثيرًا عن الإسلام، ثم عاد يطوي العالم، ومر بالعالم العربي، وكان يلقى ترحيبًا واسعًا من العالم.

كان إذا هبط بلدًا سمع الناس بقدومه فخرجوا لاستقباله، فساهم بجهد كبير في نشر الدعوة، وعندما عاد إقبال إلى شبه القارة في شهر يوليو 1908م بعد أن قضى مدة في أوروبا ما بين دراسات علمية وزيارات لدول عربية وإسلامية، وأفادته هذه المدة في التدرب على منهج البحث والإلمام بالفلسفة الغربية، ومكث في “لاهور”، وقدم طلبًا لتسجيله محاميًا لدى القضاء الرئيسي، وسُجل بالفعل، ولكن في مايو 1909م عُيِّن أستاذًا في الفلسفة في كلية لاهور، ولم توافق المحكمة في أول الأمر على أن يتولى منصبين في الحكومة.

ولكنها في نوفمبر 1909م وافقت على تعيينه، وصدر قرارًا تحت عنوان: “الموافقة على تعيين محامٍ في المحكمة كأستاذ مؤقت في كلية الحكومة”، وكان ذلك استثناء لإقبال، وهذا يصور لنا مدى أهمية إقبال ومكانته في البلاد، استمرت هذه الثنائية حوالي عامين ونصف استقال بعدها من العمل بالتدريس؛ ليكون أكثر تفرغًا للمحاماة وممارسة القانون؛ وذلك نتيجة لحبه لمهنة المحاماة والحقوق، وكان يتابع المؤتمرات والاجتماعات التي كانت تعقدها الجامعة؛ حيث كان له دور واضح في إصلاح حالة التعليم في بلده في هذا الوقت.

شعره وخدمته للإسلام

محمد إقبال

ومن عادة الشعراء الإسلاميين أن يجمعوا في شعرهم فنونًا كثيرة. إلا إقبال فقد جعل أشعاره لخدمة “الإسلام”؛ بنشره والدفاع عنه ودعوة الغرب إليه، وما عرفنا شاعرًا تأثر بالقرآن كإقبال، وقد أخذ إقبال من الشعر سلاحًا يواجه به ضعف وخذلان المسلمين وهجرهم لدينهم، ويبين لهم أن الانتصار لن يتحقق إلا بالإيمان، وأن الإنسان لا يصلح إلا بالإيمان، وأن الدنيا لا تصلح إلا بالآخرة، وأن المسجد لا يصلح إلا مع المزرعة والمزرعة مع المسجد، كذلك عمل في أشعاره على بيان الفرق الجلي بين الحضارة الأوروبية والأمريكية الخاوية على عروشها من أي معنى من معاني الإيمان والروح، وبين الحضارة المسلمة التي جمعت بين الدين والدولة، بين الناحية الروحية التي يحتاج إليها الإنسان في كل يوم، وبين الناحية المادية التي تنهض بها الأرض في نطاق قضية الإعمار التي أشار إليها القرآن الكريم.. ومن الأمثلة على ما سبق:

تفجعه على المسلمين وقد زار “قرطبة“، ووقف أمام الجامع ولم يجد المسلمين، وجد المسجد قد حُول إلى حانات من الخمر، ووجد العاهرات وهن في محراب المسجد؛ فبكى، وجلس عند الباب، وأنشد قصيدته الفضفاضة الشهيرة في مسجد قرطبة وهو يقول:

أرى التفكيرَ أدركَهُ خمولِي *** ولَمْ تَبْقَ العزائم في اشتعالِ

وأصبح وعظكمْ من غير نورٍ *** ولا سحرٍ يطلُّ من المقالِ

وعند الناس فلسفةٌ وفكرٌ *** ولكن أين تَلْقِينُ الغزالِي

وجلجلة الأذان بكلِّ حيٍّ *** ولكنْ أين صَوْتٌ مِنْ بلالِ

منائركمْ عَلَتْ في كلِّ ساحٍ *** ومسجدكمْ مِنَ العُبَّادِ خالِي

استنكاره على كمال أتاتورك إسقاطه الخلافة؛ حيث رد عليه بقصيدته المشهورة “خطاب إلى مصطفى كمال باشا” في ديوانه “رسالة الشرق”، حيث عبر عن حزنه على تغريب المجتمع التركي، وتقليد أتاتورك للأفكار الغربية بما سماه الإصلاحات، ليس ذلك فحسب بـل انـتقـد عـصبة الأمـم المتحـدة في ذلك الوقـت؛ لأنها منظمة بلا حياة تعمل لصالح المستعمِر فقط:

صوَّر الغاصبُ عدلًا ظلمه *** ما هو التفسير للعدْل الجديدِ

زادَ فـي التَّحْرير معنى أنَّه *** يُحكم القيْدَ لِتَحْرِير العبيدِ

قال للطير: إذا رُمْتَ الأمان *** فاتخذْ في منزل الصَّيَّاد وَكْرَا

ليس في الأجواء للطير مكانٌ *** ولا تَأْمَنَّ في الصحراء نَسْرَا

ولأن قضيته الكبرى كانت الدعوة إلى الإسلام فأرسل رسالة إلى “لينين”، وكان محمد إقبال مشهورًا على مستوى العالم يعرفه لينين، ويعرفه أذناب الشرق والغرب، يقول: “اتَّقِ الله يا لينين، فإنك قصمت ظهر الرأسمالية فأحسنت، فألحق بقصمك للرأسمالية لا إله إلا الله”. ولينين هذا ثار على الحق الفردي في الرأسمالية، ولكنه خرب كل الخراب عليه لعنة الله، كفر بالله يقول: لا إله والحياة مادة. يقول: تعال بلا إله إلا الله. ولكن ذاك رفض.

ودخل على “نادر شاه” في كابل، ونادر شاه كان ملك أفغانستان آنذاك، وكتب رسالة إلى محمد إقبال يقول: “أقدم إلينا، أقدم إلينا”. فدخل محمد إقبال فخرج الأفغان ألوفًا مؤلَّفة في الشوارع يستقبلونه، فأخذ -قبل أن يقابل الرئيس أو الملك- نسخة من المصحف وأعطاه، وقال: “يا نادر شاه، والله لن تعلو بشعب الأفغان حتى تأخذ هذه الوثيقة، إنني أتيت بها من الله”. يعني: أن هذا القرآن من الله.

– قوله للمسلم:

أنت كنز الدّر والياقوت في *** لجَّة الدنيا وإنْ لم يعرفوكَ

محْفَلُ الأجيال محتاجٌ إلى *** صوتك العالي وإن لم يسمعوكَ

وهكذا لا يلبث إقبال ليخرج من قصيدة شعرية تقوم حكمتها على المعاني الإسلامية القائمة على الوحدة والقوة والاعتصام بالله وبرسوله، إلا ويدخل في قصيدة أخرى تقوم معانيها على التأمل في الكون المحيط بالإنسان.

العرب ومحمد إقبال.. حب متبادل

محمد إقبال

أحب إقبال كل ما هو عربي، فأحب الحجاز لأن فيها ولد الإسلام وخرج للعالم، وله قصيدة اسمها “ناقتي في الحجاز” وصف نفسه وهو يبكي ويقول: “يا ليتني أعتمر مرة ثانية”، ولم تكن متيسرة له.

ويذكر الأستاذ “أبو الحسن الندوي” أنه زار فلسطين في سنة 1931م، وكان مما قاله وهو في فلسطين:

ولما نزلنا منزلًا طله الندى *** أنيقًا وبستانًا من النور حاليا

أجد لنا طيب المكان وحسنه *** مني فتمنينا فكنت الأمانيا

نجده هنا يتمنى أن يحط الرحال ويظل في بلد القدس وأرض مهبط الرسالات، ومن أقواله في افتتاح المؤتمر الإسلامي العام عام 1931م: “على كل مسلم عندما يولد ويسمع كلمة لا إله إلا الله أن يقطع على نفسه العهد على إنقاذ الأقصى”.

أما عن العرب فقد اهتم كثير من الأدباء العرب بإبداعات محمد إقبال مثل “عبد الوهاب عزام”، والشيخ “الصاوي شعلان”، و”محمد حسن الأعظمي”، وغيرهم، فترجموا أعماله إلى اللغة العربية، ثم نظمها بعضهم على نسق شعري، فقصيدة: “ملكنا هذه الدنيا” التي نظمها الشيخ الصاوي شعلان تحمل في ثناياها أمجاد الأمة الإسلامية في صورة بيانية جميلة، فكل بيت من أبياتها لوحة فنية تعبر تعبيرًا صادقًا عما مرت به الأمة الإسلامية من أطوار حضارية ستظل خالدة في الصدور قبل الطلول، فيعبر إقبال عن هذه الحضارة الخالدة، بنظم الشيخ الصاوي شعلان:

مَلَكْنَا هذه الدنيا القرونَا *** وأخضعها جدودٌ خالدونَا

وسطَّرْنا صحائفَ من ضياء *** فما نَسِيَ الزمان ولا نسِينَا

وكنَّا حين يأخذنا قويٌّ *** بطغيان ندوسُ له الجبينَا

تفيضُ قلوبنا بالهدى بأسًا *** فما تغضي عن الظلم الجنونَا

وفاته

في 21 من إبريل 1938م فقدت الهند والأمة الإسلامية وجموع الشعراء أديبًا فاضلًا ومسلمًا واعيًا محبًا لدينه ومخلصًا له ومدافعًا عنه بكلمته وقلمه، لم يكن باليوم السهل على جموع المسلمين بالعالم بأكمله ولا على الهنود بشكل خاص؛ فقد خرجت الجموع إلى منزله للتأكد من صحة خبر وفاته.. لقد أدرك إقبال مدى تأثير القلم على الشعوب، مدى قوته في نشر الوعي والدفاع عن المعتقدات وترسيخ المبادئ السليمة.

ومما يتعجب منه بحق عند ذكر محمد إقبال أنه كان يسكن في منزل صغير وعندما يُسأل: لما تسكن في منزل صغير كهذا؟! كان يجيب: “أنا أسكن بالعالم”.. صدق حينما قال ذلك فهو حقًا يسكن دور الأدباء العالميين بأشعاره وخطبه ورسائله.. ويسكن دور المفكرين والفلاسفة بنظراته الثاقبة المتأملة في الكون وأفكاره الفلسفية النابعة من إسلامه.. ويسكن دور المسلمين بكفاحه ودفاعه عن الإسلام.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى