وقفة مع مفهوم المهاجرين والفتاوى الوطنية المبنية عليه في الشام

من المؤسف أن تجد حتى من نَفَر من المسلمين لبلاد الشام لم يتخلص بعدُ من العقلية الوطنية الوثنية التي زرعها المستخرب (المستعمر) في بلاد المسلمين؛ والذي يدَّعون أنهم يحاربون نفوذه وعملاءه في الشام، وتجدهم-أي المسلمين-يفرقون بين المسلمين في الشام حسب حدود سايكس وبيكو، فيسمون هذا أجنبيًا أو “تمويهًا”: مهاجرًا، ويسمون ذاك سوريًا أو “تمويهًا”: أنصاريًا!

ويصْدرون فتاوى مبنية على أساس هذا التقسيم الوطني الوثني؛ فيقولون مثلًا إن المسلمين الذين نفروا للجهاد في الشام -ورغم أنهم يضحون بأرواحهم، ورغم أنهم يقاتلون من أجل قضية الأمة كلها، ومن أجل التمكين لحكم الله-لا يجوز لهم التدخل في القرارات السياسية الداخلية لِـ (السوريين)، فما اتفق عليه (السوريون) يجب قبوله. ويقولون إن الفتوى تُؤخذ من المشايخ (السوريين) وليس من المشايخ “الأجانب”! كما يقولون أنه لا يجوز لِـ (المهاجرين) الانخراط في أي اقتتال (داخلي) بين الفصائل الثورية… إلخ.

تحرير مفهوم الهجرة والمهاجرين

وسأبدأ أولًا بتحرير مدى صحة مفهوم المهاجرين الذي أُلصق بالمسلمين “غير السوريين” في الشام، وبُنيت على أساسه كثير من الفتاوى.

ليس هناك في الشام “مهاجرين” و”أنصار”، ولكن مسلمين إخوة اجتمعوا للقيام بعبادة وواجب شرعي؛ يتمثل في طرد النفوذ الغربي وعملائه من الشام، وذلك بنصرة الإسلام والتمكين له؛ ليكون الحاكم الفعلي، والمهيمن في الشام، ولتكون بلاد الشام نقطة ارتكاز لكيان سياسي إسلامي يعيد جمع شمل المسلمين قاطبةً في أمة واحدة، تحت سلطان دولة واحدة.

فإن صح تشبيه المسلمين الثابتين اليوم في الشام بقرن الإسلام الأول، فالأَولى أن يوصفوا كلهم -بغض النظر عن جنسيات سايكس وبيكو- بِـ”الأنصار”؛ لأنهم اتخذوا على عاتقهم نفس المهمة التي حملها مسلمو الأوس والخزرج، والمتمثلة في نصرة الإسلام بإقامة كيان سياسي مستقل “دولة” له! فلا يصح استعمال مصطلح “مهاجرين” على من رحل من المسلمين اليوم إلى الشام؛ لنصرة الإسلام وأهله تشبيهًا بهجرة الصحابة للمدينة، فالهجرة لا تنطبق عليهم بهذا المعنى!

تحرير مصطلح الهجرة

فالهجرة مصطلح شرعي، وليس لغوي! الهجرة بمفهومها الشرعي: لا تعني تغيير “جغرافي” لمكان إقامة المسلم، وإلا لكان المسلمون الذين قدِموا إلى المدينة بعد فتح مكة مهاجرين؛ فقد تَرَكُوا بلدانهم التي وُلدوا وترعرعوا فيها؛ للحاق بالرسول والعَيش في المدينة.

لكن الرسول -صلى الله عليه وسلم- قال:” لَا هِجْرَةَ بَعْدَ الْفَتْحِ”(صحيح البخاري). ولو كان مصطلح الهجرة ومدلوله الشرعي مرتبط بالجغرافية، لما كان أجرها وثوابها يناله حتى من لم يرحل من بلده إلى بلد آخر، فقد قال الرسول -صلى الله عليه وسلم-:” العِبَادَةُ فِي الهَرْجِ كَهِجْرَةٍ إِلَيَّ”! (صحيح مسلم).

فالهجرة انتهت بفتح مكة، فليست هناك هجرة -بالمعنى الشرعي- من بلد مسلم إلى بلد مسلم آخر، إذ كلها دارٌ للمسلم وبلده يتنقل فيها كيف يشاء، ويقيم، ويعمل حيثما شاء، ولا تُغيِّر هذه الحقيقةَ الشرعية الحدودُ الترابية ووطنياتُ سايكس وبيكو التي رسمها “المستخرب” الغربي!

فعن عائشة -رضي الله عنها- قالت:” لَا هِجْرَةَ الْيَوْمَ، كَانَ الْمُؤْمِنُونَ يَفِرُّ أَحَدُهُمْ بِدِينِهِ إِلَى اللَّهِ تَعَالَى وَإِلَى رَسُولِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَخَافَةَ أَنْ يُفْتَنَ عَلَيْهِ، فَأَمَّا الْيَوْمَ فَقَدْ أَظْهَرَ اللَّهُ الْإِسْلَامَ وَالْيَوْمَ يَعْبُدُ رَبَّهُ حَيْثُ شَاءَ” (صحيح البخاري).

الهجرة الباقية هي الهجرة من دار الكفر إلى دار الإسلام

فالهجرة الوحيدة الباقية هي الهجرة من دار الكفر إلى دار الإسلام، والهجرة من بلاد لا يأمن فيها المسلم على دينه إلى بلاد إسلامية يمكنه فيها إقامة شعائر دينه، وهذا ما يشير إليه حديث الرسول -صلى الله عليه وسلم-:” لَا تَنْقَطِعُ الْهِجْرَةُ مَا قُوتِلَ الْكُفَّارُ” (سنن النسائي)، وقوله -صلى الله عليه وسلم-:” لَا تَنْقَطِعُ الْهِجْرَةُ حَتَّى تَنْقَطِعَ التَّوْبَةُ وَلَا تَنْقَطِعُ التَّوْبَةُ حَتَّى تَطْلُعَ الشَّمْسُ مِنْ مَغْرِبِهَا” (سنن أبي داود)،

وقد سرد العسقلاني أقوالًا في التوفيق بين حديث “لَا هِجْرَةَ بَعْدَ الْفَتْحِ”، وحديث “لَا تَنْقَطِعُ الْهِجْرَةُ”؛ حيث ذكر:[ قَالَ الْبَغَوِيُّ فِي (شَرْحِ السُّنَّةِ): يَحْتَمِلُ الْجَمْعُ بَيْنَهُمَا بِطَرِيقٍ أُخْرَى بِقَوْلِهِ:” لَا هِجْرَةَ بَعْدَ الْفَتْحِ” أَيْ مِنْ مَكَّةَ إِلَى الْمَدِينَةِ، وَقَوْلُهُ:” لَا تَنْقَطِعُ” أَيْ مِنْ دَارِ الْكُفْرِ فِي حَقِّ مَنْ أَسْلَمَ إِلَى دَارِ الْإِسْلَامِ.

وَقَدْ أَفْصَحَ ابْنُ عُمَرَ بِالْمُرَادِ فِيمَا أَخْرَجَهُ الْإِسْمَاعِيلِيُّ بِلَفْظِ:” انْقَطَعَتِ الْهِجْرَةُ بَعْدَ الْفَتْحِ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-، وَلَا تَنْقَطِعُ الْهِجْرَةُ مَا قُوتِلَ الْكُفَّارُ”، أَيْ: مَا دَامَ فِي الدُّنْيَا دَارُ كُفْرٍ، فَالْهِجْرَةُ وَاجِبَةٌ مِنْهَا عَلَى مَنْ أَسْلَمَ وَخَشِيَ أَنْ يُفْتَنَ عَنْ دِينِهِ؛ وَمَفْهُومُهُ أَنَّهُ لَوْ قُدِّرَ أَلَّا يَبْقَى فِي الدُّنْيَا دَارُ كُفْرٍ أَنَّ الْهِجْرَةَ تَنْقَطِعُ؛ لِانْقِطَاعِ مُوجِبِهَا وَاللَّهُ أَعْلَمُ.] (انتهى الاقتباس من فتح الباري).

وقال ابن تيمية:” وَقَدْ قَالَ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-:” لَا هِجْرَةَ بَعْدَ الْفَتْحِ وَلَكِنْ جِهَادٌ وَنِيَّةٌ، وَإِذَا اسْتَنْفَرْتُمْ فَانْفِرُوا”، وَقَالَ:” لَا تَنْقَطِعُ الْهِجْرَةُ مَا قُوتِلَ الْعَدُوُّ”، وَكِلَاهُمَا حَقٌّ. فَالْأَوَّلُ أَرَادَ بِهِ الْهِجْرَةَ الْمَعْهُودَةَ فِي زَمَانِهِ، وَهِيَ الْهِجْرَةُ إلَى الْمَدِينَةِ مِنْ مَكَّةَ، وَغَيْرِهَا مِنْ أَرْضِ الْعَرَبِ، فَإِنَّ هَذِهِ الْهِجْرَةَ كَانَتْ مَشْرُوعَةً لَمَّا كَانَتْ مَكَّةُ وَغَيْرُهَا دَارَ كُفْرٍ وَحَرْبٍ وَكَانَ الْإِيمَانُ بِالْمَدِينَةِ، فَكَانَتْ الْهِجْرَةُ مِنْ دَارِ الْكُفْرِ إلَى دَارِ الْإِسْلَامِ وَاجِبَةً لِمَنْ قَدَرَ عَلَيْهَا، فَلَمَّا فُتِحَتْ مَكَّةُ وَصَارَتْ دَارَ الْإِسْلَامِ وَدَخَلَتْ الْعَرَبُ فِي الْإِسْلَامِ صَارَتْ هَذِهِ الْأَرْضُ كُلُّهَا دَارَ الْإِسْلَامِ فَقَالَ:” لَا هِجْرَةَ بَعْدَ الْفَتْحِ”. وَكَوْنُ الْأَرْضِ دَارَ كُفْرٍ وَدَارَ إيمَانٍ أَوْ دَارَ فَاسِقِينَ لَيْسَتْ صِفَةً لَازِمَةً لَهَا، بَلْ هِيَ صِفَةٌ عَارِضَةٌ بِحَسَبِ سُكَّانِهَا. فَكُلُّ أَرْضٍ سُكَّانُهَا الْمُؤْمِنُونَ الْمُتَّقُونَ هِيَ دَارُ أَوْلِيَاءِ اللَّهِ فِي ذَلِكَ الْوَقْتِ، وَكُلُّ أَرْضٍ سُكَّانُهَا الْكُفَّارُ فَهِيَ دَارُ كُفْرٍ فِي ذَلِكَ الْوَقْتِ، وَكُلُّ أَرْضٍ سُكَّانُهَا الْفُسَّاقُ فَهِيَ دَارُ فُسُوقٍ فِي ذَلِكَ الْوَقْتِ، فَإِنْ سَكَنَهَا غَيْرَ مَا ذَكَرْنَا وَتَبَدَّلَتْ بِغَيْرِهِمْ فَهِيَ دَارُهُمْ. فَأَحْوَالُ الْبِلَادِ كَأَحْوَالِ الْعِبَادِ فَيَكُونُ الرَّجُلُ تَارَةً مُسْلِمًا وَتَارَةً كَافِرًا وَتَارَةً مُؤْمِنًا، وَتَارَةً مُنَافِقًا وَتَارَةً بَرًّا تَقِيًّا وَتَارَةً فَاسِقًا وَتَارَةً فَاجِرًا شَقِيًّا.

وَهَكَذَا الْمَسَاكِنُ بِحَسَبِ سُكَّانِهَا، فَهِجْرَةُ الْإِنْسَانِ مِنْ مَكَانِ الْكُفْرِ وَالْمَعَاصِي إلَى مَكَانِ الْإِيمَانِ وَالطَّاعَةِ كَتَوْبَتِهِ وَانْتِقَالِهِ مِنْ الْكُفْرِ وَالْمَعْصِيَةِ إلَى الْإِيمَانِ وَالطَّاعَةِ وَهَذَا أَمْرٌ بَاقٍ إلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ، وَاَللَّهُ -تَعَالَى- قَالَ:(وَالَّذِينَ آمَنُوا مِنْ بَعْدُ وَهَاجَرُوا وَجَاهَدُوا مَعَكُمْ فَأُولَئِكَ مِنْكُمْ)” (ا.هـ من “مجموع فتاوى ابن تيمية”).

قول الله ولا قَول بعده

ومن الآيات التي تؤيد أن الهجرة من دار الكفر إلى دار الإسلام هي الهجرة الوحيدة الباقية والواجبة:

  • قول الله -سبحانه-:( ثُمَّ إِنَّ رَبَّكَ لِلَّذِينَ هَاجَرُوا مِن بَعْدِ مَا فُتِنُوا ثُمَّ جَاهَدُوا وَصَبَرُوا إِنَّ رَبَّكَ مِن بَعْدِهَا لَغَفُورٌ رَّحِيمٌ) (110-النحل).
  • وقوله -سبحانه-:( لِلَّذِينَ هَاجَرُوا مِن بَعْدِ مَا فُتِنُوا): أي هاجروا إلى دار الإسلام بعد أن فتنهم المشركون وعذبوهم!
  • وقوله -تعالى-:( إِنَّ الَّذِينَ تَوَفَّاهُمُ الْمَلَائِكَةُ ظَالِمِي أَنفُسِهِمْ قَالُوا فِيمَ كُنتُمْ قَالُوا كُنَّا مُسْتَضْعَفِينَ فِي الْأَرْضِ قَالُوا أَلَمْ تَكُنْ أَرْضُ اللَّهِ وَاسِعَةً فَتُهَاجِرُوا فِيهَا فَأُولَٰئِكَ مَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ وَسَاءَتْ مَصِيرًا) (97-النساء).

قال السعدي في تفسيره: “وهذا استفهام تقرير، أي: قد تقرر عند كل أحد أن أرض الله واسعة، فحيثما كان العبد في محل لا يتمكن فيه من إظهار دينه، فإن له متسعًا وفسحة من الأرض يتمكن فيها من عبادة الله” (ا.هـ).

انتقال المسلمين للجهاد في الشام نفير وليس هجرة

ومن ثَمَّ فإن انتقال المسلمين من البلدان الإسلامية المختلفة للجهاد في الشام ليس هجرة، بل الأصح أنه نفيرٌ للجهاد في سبيل الله. كما قال الرسول -صلى الله عليه وسلم-: “لَا هِجْرَةَ بَعْدَ الْفَتْحِ وَلَكِنْ جِهَادٌ وَنِيَّةٌ وَإِذَا اسْتُنْفِرْتُمْ فَانْفِرُوا” (صحيح البخاري).

وكما ورد في القرآن:( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا مَا لَكُمْ إِذَا قِيلَ لَكُمُ انفِرُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ اثَّاقَلْتُمْ إِلَى الْأَرْضِ أَرَضِيتُم بِالْحَيَاةِ الدُّنْيَا مِنَ الْآخِرَةِ فَمَا مَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا فِي الْآخِرَةِ إِلَّا قَلِيلٌ (38) إِلَّا تَنفِرُوا يُعَذِّبْكُمْ عَذَابًا أَلِيمًا وَيَسْتَبْدِلْ قَوْمًا غَيْرَكُمْ وَلَا تَضُرُّوهُ شَيْئًا وَاللَّهُ عَلَىٰ كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (39)،… انفِرُوا خِفَافًا وَثِقَالًا وَجَاهِدُوا بِأَمْوَالِكُمْ وَأَنفُسِكُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ ذَٰلِكُمْ خَيْرٌ لَّكُمْ إِن كُنتُمْ تَعْلَمُونَ (41)) (التوبة)

يا فرحة سايكس وبيكو بفتاوى المشايخ المبنية على تقسيماتهما لبلاد المسلمين

حتى لو سلَّمنا جدلًا أن هناك (مهاجرين)، و(أنصار) في الشام، فبأي مسوغ شرعي يتم التفريق بينهما في الواجبات والحقوق والدعوة لجعل الفتوى السياسية والقيادة في الشام حق حصري لِـ (السوريين)؟

اقرأ أيضًا: وطنية سايكس بيكو !

الجواب على هذا التساؤل بسيط، وواضح: لا، ليس هناك أي أدلة تجعل لمسلمين هاجروا إلى بلد مسلم حقوقًا وواجبات تختلف عن المسلمين الذين وُلدوا أو ترعرعوا في ذلك البلد! فخطاب الشارع -أي خطاب الله ورسوله- موجّه للمسلم كمسلم، بغض النظر عن مسقط رأسه، ولونه، وعرقه… إلخ

  • والرسول المكي القرشي أقام دولته في المدينة، في «وطن» غير «وطنه»، وأصبح رئيسًا على أهلها من الأوس والخزرج الكهلانيين القحطانيين.
  • وكانت دولة الرسول تجمع مسلمين من كل الأجناس، لا تفرق بين أحد منهم، وتأخذ بمشورة الكل، ويُعيَّن لمراكز القيادة من هو أهل لها بغض النظر هل هو من أهل البلد أم لا؛ فكان في دولة الرسول بلال الحبشي؛ مؤذن الرسول، وسلمان الفارسي؛ الذي أخذ الرسول بمشورته في حفر الخندق، وصهيب الرومي… إلخ!
  • وقد كان الرسول يبعث أمراء وقضاة ليتولوا الحكم في الأمصار التي يفتحها، ولم يقل -صلى الله عليه وسلم-: أهل تلك الأمصار أولى بالولاية!
  • والأنصار في المدينة قبلوا سيادة المهاجرين عليهم، فبايعوا أبا بكر وعمر وعثمان وعليًا خلفاء، وأطاعوهم.
  • والذي فتح الشام وأدخل الإسلام إليها وحكمها هم القرشيون القادمون من الحجاز!
  • ومعاوية الذي يعتز ويفتخر به أهل الشام لم يكن سوريًا!
  • وحَكَم السلاجقة التركمان سوريا، وبعدهم العثمانيون، ولم نسمع قط من المسلمين الأوائل أن قالوا أهل سوريا أحق بالولاية!
  • وحكَم العرب في الأندلس وليسوا هم “أهلها” الأصليين!

الخُلاصة

فالقيادة العسكرية، والسياسية، والفتوى، والإمارة تكون لمن هو أولى بها من ناحية قدراته العلمية أو القيادية، وليس على أساس مسقط رأسه و”جنسيته”؛ قال رسول الله:” إِذَا وُسِّدَ الْأَمْرُ إِلَى غَيْرِ أَهْلِهِ، فَانْتَظِرْ السَّاعَةَ” (رواه البخاري والإمام أحمد)، وقال -صلى الله عليه وسلم-:” اسْمَعُوا وَأَطِيعُوا وَإِنْ اسْتُعْمِلَ عَلَيْكُمْ عَبْدٌ حَبَشِيٌّ كَأَنَّ رَأْسَهُ زَبِيبَةٌ” (رواه البخاري).

أدلة وتأصيل شرعي

والخليفة عمر بن الخطاب لما جاءه إلى المدينة عَامِلهُ -الوالي على مكة-  نَافِع بن عبد الحارث، سأله: من اسْتَخْلَفْتَ عَلَى أَهْلِ الْوَادِي -مكة-؟ فَقَالَ نَافِعٌ: اسْتَخْلَفْتُ عَلَيْهِمْ ابْنَ أَبْزَى. فَقَالَ عُمَر: وَمَنْ ابْنُ أَبْزَى؟ فَقَال نافع: مَوْلًى مِنْ مَوَالِينَا -أي عتيق؛ كان عبدًا وأُعتق-، فَقَالَ عُمَر معاتبًا ناَفِع بن عبد الحارث: فَاسْتَخْلَفْتَ عَلَيْهِمْ مَوْلًى! فَقَال نافع بن عبد الحارث: يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ إِنَّهُ قَارِئٌ لِكِتَابِ اللَّهِ، عَالِمٌ بِالْفَرَائِضِ! فاستدرك عمر بن الخطاب وأَقَرَّ قائلًا: أَمَا إِنَّ رَسُولَ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- قَالَ:” إِنَّ اللَّهَ يَرْفَعُ بِهَذَا الْكِتَابِ أَقْوَامًا وَيَضَعُ بِهِ آخَرِينَ” (سنن الدارمي وصحيح مسلم)؛ فعمر بن الخطاب أَقَرَّ ولاية عتيقٍ على قريش، والرسول -صلى الله عليه وسلم- جعل العلم أحد المقومات التي ترفع رجالًا على آخرين وتؤهلهم للقيادة؛ “إِنَّ اللَّهَ يَرْفَعُ بِهَذَا الْكِتَابِ أَقْوَامًا”!

ونحن إلى يومنا هذا نأخذ بفتاوى أئمتنا الأوائل كمالك، والشافعي، وأحمد، وأبي حنيفة، وابن تيمية، والشاطبي، وابن حزم، وغيرهم، وهم ليسوا من زماننا وليسوا من أبناء “أوطاننا” التي حدد الغرب حدودها في عصرنا المشؤوم هذا.

فأهل شمال إفريقيا مثلًا يعملون بمذهب الإمام مالك وهو ليس مغاربيًا! والعرب يأخذون حديث الرسول -صلى الله عليه وسلم- من أئمة ليسوا عربًا أصلًا كالبخاري، ومسلم بن الحجاج، وأبي داود، والنسائي، والترمذي، وابن ماجه، والدارمي، فهؤلاء الأئمة الكبار ليسوا عربًا!

أمثلة من فتاوى مُنكَرة مبنية على أساس حدود سايكس وبيكو والرد عليها

فالدعوة لجعل الفتوى والقيادة السياسية والعسكرية في ثورة الشام محصورة في “السوريين”، دعوة باطلة، مُنْكَرة، مخالفة للشرع، وهاضمة لحقوق المسلمين من غير السوريين.

تفنيد بطلان حصر القيادة والفتوى في أهل البلد

فالفتوى والآراء السياسة تُقبل من كل مسلم كانت حجته قوية وصحيحة، بغض النظر عن أصله، أو مسقط رأسه، أو حتى مكان إقامته! فحتى أهل العلم الذين يعيشون خارج سوريا ولم يزوروها قط، تؤخذ عنهم الفتوى! فمعيار أخذ الرأي والفتوى هو الحق وليس “الوطنية”!

نعم، المتواجدون على الأرض بالشام -سواء كانوا “سوريين” أم لا- يُستعان بهم لمعرفة الواقع على الأرض، وتفاصيل الأحداث؛ لأنهم شهود عيان، لكن اتخاذ قرارات سياسية وعسكرية أو فقهية على أساس الواقع الذي نَقل صورته من يعيشه، تكون لمن هم أهل لها من الناحية العلمية، أو القيادية، أو الخبرات العسكرية، بغض النظر هل هم “سوريون” كما شاء سايكس وبيكو أم لا!

والعجب أن نفس الذين يريدون منع “المهاجرين” حقهم الشرعي كمسلمين في المشاركة في اتخاذ القرارات السياسية المتعلقة بالشام وثورته، تجدهم يطالبون أهل الشام والثوار بقبول الحلول السياسية التي يفرضها غير السوريين من الدول كتركيا، وروسيا، وأمريكا، ومن المنظمات الأجنبية كالأمم المتحدة.

ويفتون بجواز دخول الجيش التركي-غير السوري-لمناطق الثوار في الشام، وبالقبول بحكومة تحت سلطة ونفوذ تركيا، ومنهم من لا يجد مضضًا في جعل روسيا، وتركيا، بل وحتى إيران -وهؤلاء كلهم ليسوا سوريين- ضامنين للثورة!

فتاوى تحريم انخراط المهاجرين حصريًا في الاقتتال الداخلي بين الفصائل الشامية

من الفتاوى الغريبة التي صدرت من مشايخ في الشام، فتاوى تحرم انخراط من يسمونهم بِـ المهاجرين في أي اقتتال بين فصائل ثورية في الشام، فيعتبرونه اقتتالًا داخليًا لا يجوز للمهاجرين الانخراط فيه.

والغرابة والإنكار ليس في تحريم الاقتتال بين فئتين مسلمتين، فلو صدرت فتاوى تتكلم عن حرمة الاقتتال بين فئتين مسلمتين دون تخصيص سوري ومهاجر، لكان الكلام مقبولًا. لكن أن تخص الفتوى من تسميهم مهاجرين بالامتناع عن أي اقتتال بين فئتين مسلمتين، فهذا كلام وطني، وثني، لا علاقة له بالشرع!

فإن كان الاقتتال بين فئتين مسلمتين حرامًا، فهو حرام على كل مسلم بغض النظر عن كونه مهاجرًا أو أنصاريًا -أي سوري بمفهوم سايكس وبيكو-. وإذا كان قتال بَيِّنٌ أنه ضد بغاة من المسلمين، فيُندَبُ له كل مسلم بغض النظر عن كونه مهاجرًا أو أنصاريًا -أي سوري بمفهوم سايكس وبيكو-!

الاستدلال باعتزال ابن عمر القتال الذي دار بين علي بن أبي طالب ومعاوية

ومن الشبهات التي استدل بها الذين حرَّموا انخراط “المهاجرين -غير السوريين-“حصريًا في الاقتتال بين الفصائل الثورية في الشام، اعتزال ابن عمر القتال الذي دار بين علي بن أبي طالب ومعاوية.

فأقول ردًّا على هذه الشبهة أنه أولًا: ابن عمر لم يعتزل الاقتتال بين علي ومعاوية لأنه -أي ابن عمر- «مهاجر»، ولكن بسبب تأويله لأحاديث الفتنة وظنه أنه يجب اعتزال أي اقتتال بين المسلمين مهما كان السبب، ولم يربط حكمه قط على أساس مهاجرين وأنصار!

ثانيًا: ابن عمر كان مخطئًا في تأويله لأحاديث الفتنة، وأقَرَّ ذلك في آخر حياته، وندم على اعتزاله القتال للفئة الباغية، كما أن غالبية الصحابة لم يعتزلوا الاقتتال بين علي ومعاوية، بل علموا من هي الفئة الباغية وقاتلوها.

أدلة على ذلك

  • فمما ذكر القرطبي:[ ربما ندم بعضهم على ترك ذاك كعبد الله ابن عمر فإنه ندم على تخلفه عن نصرة علي بن أبي طالب -رضي الله عنهما-، فقال عند موته ما آسى على شيء، ما آسى على تركي قتال الفئة الباغية، يعني فئة معاوية، وهذا هو الصحيح. إن الفئة الباغية إذا علم منها البغي قوتلت، قال عبد الرحمن بن أبزي: شهدنا صفين مع علي في ثمانمائة ممن بايع بيعة الرضوان: قتل منهم ثلاث وستون منهم عمار بن ياسر] (ا.هـ من “التذكرة بأحوال الموتى وأمور الآخرة للقرطبي”).
  • وذكر الذهبي في “سير أعلام النبلاء” عن ابن عمر قوله:[ مَا وَجَدْتُ فِي نَفْسِي شَيْئًا مِنْ أَمْرِ هَذِهِ الْأُمَّةِ، مَا وَجَدْتُ فِي نَفْسِي مِنْ أَنْ أُقَاتِلَ هَذِهِ الْفِئَةَ الْبَاغِيَةَ كَمَا أَمَرَنِي اللَّهُ] (ا.هـ).

ثم إن اعتبار هؤلاء المشايخ الاقتتال بين الفصائل الثورية في الشام بأنه اقتتال “داخلي” لا يجوز للمهاجرين الانخراط فيه، قولهم هذا يجب أن ينسحب أيضًا على القتال بين جيش بشار الأسد، وبين الثوار. فهذا كان بداية اقتتال داخلي بين “السوريين”، اقتتال بين سوريين داعمين لآل الأسد، وسوريين ثائرين عليهم، وبالتالي لم يجز أصلا للمهاجرين القدوم للشام، والانخراط في هذا الاقتتال الداخلي.

فتاوى وجوب ترك الخيارات والقرارات السياسية للسوريين

ومن الغرائب والعجائب التي يخرج بها بعض المشايخ، هو قولهم أن أي قرار أو خيار سياسي في الشام يُترك لِـ”السوريين”، ولا يتدخلون فيه!

وهذا قول ليس باطلًا فحسب، بل يهدم كل الإسلام، إذ يُبْطِل كل الآيات والأحاديث النبوية التي تأمر المؤمن بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر. فالإسلام -كما هو معلوم- أحد أهم أعمدته التي لا تقوم له قائمة إلا بها هي فريضة “الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر”!

فهل إذا قَبِلَ “السوريون” حلولًا سياسية، يفرضها الغرب، تقضي بإقامة دولة علمانية، وتقضي بالرجوع لأحضان نظام آل الأسد، وتقضي بتعطيل الشريعة… إلخ، هل يجوز قبول قرارهم هذا، أم الشرع يوجب منعهم من ذلك، وتبيان الحق لهم؟

ومن الأدلة على ذلك

فالرسول الله -صلى الله عليه وسلم- يقول:” مَثَلُ القَائِمِ عَلَى حُدُودِ اللَّهِ وَالوَاقِعِ فِيهَا، كَمَثَلِ قَوْمٍ اسْتَهَمُوا عَلَى سَفِينَةٍ، فَأَصَابَ بَعْضُهُمْ أَعْلاَهَا وَبَعْضُهُمْ أَسْفَلَهَا، فَكَانَ الَّذِينَ فِي أَسْفَلِهَا إِذَا اسْتَقَوْا مِنَ المَاءِ مَرُّوا عَلَى مَنْ فَوْقَهُمْ، فَقَالُوا: لَوْ أَنَّا خَرَقْنَا فِي نَصِيبِنَا خَرْقًا وَلَمْ نُؤْذِ مَنْ فَوْقَنَا، فَإِنْ يَتْرُكُوهُمْ وَمَا أَرَادُوا هَلَكُوا جَمِيعًا، وَإِنْ أَخَذُوا عَلَى أَيْدِيهِمْ نَجَوْا، وَنَجَوْا جَمِيعًا” (صحيح البخاري)

وقوله -عليه الصلاة والسلام-:” مَنْ رَأَى مِنْكُمْ مُنْكَرًا فَلْيُغَيِّرْهُ بِيَدِهِ فَإِنْ لَمْ يَسْتَطِعْ فَبِلِسَانِهِ فَإِنْ لَمْ يَسْتَطِعْ فَبِقَلْبِهِ وَذَلِكَ أَضْعَفُ الْإِيمَانِ” (صحيح مسلم).

فهذه الأحاديث يُستنبط منها وجوب الأخذ على يد المنحرفين من المسلمين، وليس الخضوع لرغباتهم؛ لأنهم يشكلون أغلبية، أو لأنهم أهل الوطن!

وقال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-:” انْصُرْ أَخَاكَ ظَالِمًا أَوْ مَظْلُومًا”، قَالُوا: يَا رَسُولَ اللَّهِ، هَذَا نَنْصُرُهُ مَظْلُومًا، فَكَيْفَ نَنْصُرُهُ ظَالِمًا؟ قَالَ:” تَأْخُذُ فَوْقَ يَدَيْهِ” (صحيح البخاري)، أي: تمنعه من الظلم!

وقال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-:” سَيِّدُ الشُّهَدَاءِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ حَمْزَةُ بْنُ عَبْدِ الْمُطَّلِبِ، وَرَجُلٌ قَامَ إِلَى سُلْطَانٍ جَائِرٍ، فَأَمَرَهُ بِالْمَعْرُوفِ، وَنَهَاهُ عَنِ الْمُنْكَرِ فَقَتَلَهُ” (رواه الطبراني وغيره).

وقوله -صلى الله عليه وسلم-:” وَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ لَتَأْمُرُنَّ بِالْمَعْرُوفِ وَلَتَنْهَوُنَّ عَنْ الْمُنْكَرِ أَوْ لَيَبْعَثَنَّ عَلَيْكُمْ قَوْمًا ثُمَّ تَدْعُونَهُ فَلَا يُسْتَجَابُ لَكُمْ” (مسند أحمد).

ويقول الله -سبحانه-:(كُنتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنكَرِ وَتُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ (110)) (آل عمران).

تبين أن خيرية أمة الإسلام إنما بأمرها بالمعروف ونهيها عن المنكر؛ فمن واجب المسلم، وخصوصًا أهل العلم الشرعي، أن يبينوا للمسلمين الحق، ولا يقبلوا بأية مشاريع وحلول سياسية في بلاد المسلمين مخالفة للشرع بحجة أن هذا ما اختاره “أهل البلد”!

فمن يسكت عن المنكر بحجة “الأغلبية” و”الوطنية” يدخل والعياذ بالله في زمرة الملعونين:(لُعِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِن بَنِي إِسْرَائِيلَ عَلَىٰ لِسَانِ دَاوُودَ وَعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَذَٰلِكَ بِمَا عَصَوا وَّكَانُوا يَعْتَدُونَ (78) كَانُوا لَا يَتَنَاهَوْنَ عَن مُّنكَرٍ فَعَلُوهُلَبِئْسَ مَا كَانُوا يَفْعَلُونَ (79))(المائدة).

المسلم أخو المسلم

يبدو أن الوطنية الوثنية معششة في عقول غالبية المسلمين وعلى رأسهم المشايخ، -إلا من رحم الله-! فنجد حتى الفتاوى أصبحت على مقاسات “وطنية”، تبدأ وتنتهي عند الخطوط الترابية التي رسمها المستخرب الصهيوصليبي، وتختلف حسب “الجنسيات” الوطنية التي أصبحت وثنًا مقدسًا.

فليتقِ المشايخُ اللهَ، ولا يكونوا عونًا لتوطيد الوطنية الوثنية بفتاويهم المبنية على أساس الوطنيات العفنة، فإثمهم إذ ذاك أعظم وأكبر، بل عليهم الاجتهاد لمحو الوطنيات. والشرع لا يُفصَّل على أساس حدود سايكس وبيكو، والوطنيات الوثنية التي زرعها المستخرب (المستعمر)، وإنما على أساس الحلال والحرام الذي بينه الله ورسوله.

والمسلم أخو المسلم، لا تفرقهم الحدود التي زرعها المستخرب، والمُخاطَب بالحكم الشرعي هو المؤمن كمؤمن بالله ورسوله، وليس “السوري” أو “المصري” أو “الأنصاري” أو “المهاجر”! ويُقدَّم المسلم في الرأي والمنصب على أساس الكفاءة، وليس على أساس جنسيات سايكس وبيكو!

فاروق الدويس

مسلم مُتابع للأحداث في البلدان الإسلامية خاصة، يحاول المساهمة في معركة الأمة المصيرية بأبحاث ومقالات… More »

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى