صفحات من دفتر الالتزام: الأخلاق مرآة الالتزام

إنها الأخلاق التي بها يتمايز الناس ويتسابقون إلى أقرب مرتبةٍ من الله ورسوله صلى الله عليه وسلم الذي قال: “أحب عباد الله إلى الله أحسنهم خُلُقًا[1]  ” وقال: “إن من أحبكم إليَّ أحسنَكم أخلاقًا”. [2].ومسألة التحلي بالأخلاق الحميدة قد تكون سهلةً على الملتزم الجديد وإن كان حديث الالتزام، ذلك لأنه نشأ في بيتٍ يرعى الأخلاق ويهتم بها وتزينت تربيتُه بالخُلُق الجميل والحسن، في حين قد يجدها البعض طريقةً جديدةً لم يألَفْها لم يَتَرَبَّ عليها ولم يذُقْ حلاوة التحلي بها، إنه الملتزم الذي عليه أن يكتسبها ويعوِّد نفسه عليها ويعلِّمها من يرعاهم، فتتوارثها الأجيال وتحفظها من البخس أو النسيان.

إنه من الصعب سرد جميع الخصال التي على الملتزم التحلي بها ولكننا سنولي اهتمامًا بالأكثر تأثيرًا في سلوكه وقبوله وتميزه، ورأس الأمر الصدق، فقد قال أبو بكر الصديق رضي الله عنه الصدق أمانةٌ والكذب خيانةٌ ويكفي قولُ الله تعالى: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ اتَّقُواْ اللّهَ وَكُونُواْ مَعَ الصَّادِقِينَ) [[3]]،، فاحرص على التزامك الصدقَ في القول وفي العمل، وقيل: من علامات الصدق أن تكون كلمتك واحدةً في الرغبة والرهبة والطمع واليأس، فإن حدَّثْتَ فلا تختلق كذبًا ولو مزاحًا، ابتعد عن أي أثرٍ للكذب حتى تُكتَب عند الله صِدِّيقًا، وإن كان ولابد، يمكنك استعمال المعاريض وهي طريقةٌ تخفي فيها الحقيقة بطريقة ذكية دون أن تضطر للكذب.

قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (أنا زعيمٌ ببيتٍ في رَبَض الجنة لمن ترك المراء وإن كان محقًا، وبيتٍ في وسط الجنة لمن ترك الكذب وإن كان مازحًا، وبيتٍ في أعلى الجنة لمن حَسُن خُلُقُه)[[4]].

وفي كل الأحوال أنتَ إن تحريتَ الصدق ضاق صدرك لأي كذبةٍ، وأصبحَتْ في نظرك ذنبًا عظيمًا، وهذه بحد ذاتها مرحلةٌ متقدمةٌ ترقى بك لِلذةٍ في الإيمان تستحق كل المجاهدة للنفس على التزام الصدق.

ثم بعد هذا الصدق يكون الوفاء بالعهد والوعد، إياك أن تكون ممن يستخف بالمواعيد، كن من المنضبطين الذين إذا وعدوا أوفَوا، فإن حددت موعدًا مع شخصٍ ما، لم تضيعْه أو تؤخِّرْه، والوعود بأنواعها سواءٌ القريبة أو البعيدة اجعلها في دفترك وتذكرها حتى لا تنساها فتدخل في وصف (إذا وعد أخلف) وهي من أسوأ صفات المسلم ولا شك أنها من صفات النفاق.

وقد حذرنا رسول الله صلى الله عليه وسلم من ثلاث صفاتٍ جاهد نفسك على ألا تكون فيك أبدًا، فعن رسول الله صلى الله عليه وسلم: (آيَةُ الْمُنَافِقِ ثَلَاثٌ إِذَا حَدَّثَ كَذَبَ وَإِذَا وَعَدَ أَخْلَفَ وَإِذَا اؤْتُمِنَ خَانَ[[5]]). وهي سَنام(أعلى) الأمر في أخلاق المسلم.

ثم عندك الآداب التي يتخلق بها المسلم مع الكبير والصغير، مع القريب والبعيد، مع الوالدين والأقربين والغرباء وعابري السبيل، أحسِن خطابك وابتعد عن الفحش في القول، قال ابن بطالٍ-رحمه الله-:” المداراة من أخلاق المؤمنين وهي: خفض الجناح للناس، ولِين الكلمة، وتَرْك الإغلاظ لهم في القول “. وإن ظُلمت أو أوذيت فتخيَّر من الكلِم ما يرقى لمرتبة الالتزام التي وصلت إليها، فأنت ترجو رضا ربك، ويمكنك أن تقسو ولكن بأدبٍ وأن تنكر ولكن بخُلُقٍ، وتدبر قول الله سبحانه وتعالى: (وَالْكَاظِمِينَ الْغَيْظَ وَالْعَافِينَ عَنِ النَّاسِ وَاللّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ)[[6]] وقد قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله: “إذا رأيت العبد يقع في الناس إذا آذَوه، ولا يرجع إلى نفسه باللوم والاستغفار فاعلم أن مصيبته مصيبةٌ حقيقيةٌ”.

ومن حسن الخُلُق حسن الجوار، ويكفي أن الله سبحانه وتعالى بعث جبريل ليوصي رسول الله صلى الله عليه وسلم بالجار، والإحسان إليه، فكلما كنت جارًا يحفظ للجيرة حقها كلما كان ذلك من رقي الخُلق وحسن المعشر. وحسنُ الجوار يتعدى لكل مراتب الجيرة سواءٌ في السكن أو السفر أو الانتظار أو مقاعد الدراسة…. فلا يَتَأَذَّيَنَّ منك جارٌ.

ثم هناك خصالٌ ابتُلي بها الإنسان فهو في مجاهدةٍ لها ومدافعةٍ، منها الحسد وحب العلو في الأرض، وقد قال أحد العارفين: ما خلا جسدٌ من حسدٍ، لكن اللئيم يبديه، والكريم يخفيه. وقال آخر: “ما من نفسٍ إلا وفيها ما في نفس فرعون، غير أن فرعون قَدَر فأظهر، وغيره عجز فأضمر. فالنفس مشحونةٌ بحب العلو والرياسة، بحسب إمكانها”، ولم أرَ أفضل من ذكر هادم اللذات لمعالجة هذه النزوات التي تظهر بين الحين والآخر خلال تفاعلاتنا في الحياة. فأكثِر من ذكر الموت واتعِظ من قصص الموتى والخواتيم وعوِّد نفسك حضور الجنازات والتدبر في أحوال ما بعد الموت، وما يلاقيه المرء من أهوال الحساب، في يوم يحشر فيه المتكبرون كالذَرِّ!

قال ابن القيم: “إن الدنيا إذا كَسَتْ أَوْكَسَتْ، وإذا غَلَتْ أَوْغَلَتْ، وإذا جَلَتْ أَوْجَلَتْ، وإذا حَلَتْ أَوْحَلَتْ، فالسعيد من جرب رباعها وإذا مدتْ له باعها باعها، فيا مغترًا بالسلامات كم من عاشقِ سلا مات. وكم من مَلَكٍ رفعت له علامات فلما علا مات!! “.

ثم من مواقف الامتحان موقف الغيبة والنميمة والإفك والبهتان، وما أكثرها في زماننا اليوم وما أسهل الافتراء والطعن في الأعراض، ولهذا فعلى الملتزم أن يعتمد قاعدةً قرآنيةً رائعةً، ألا وهي (فَتَبَيَّنُواْ). [[7]]قال الحسن البصري: “المؤمن وقّافٌ متبيِّنٌ”. ثم ليستدرك بالتكفير عن الغِيبة والابتعاد عن المجالس التي توقعه في مثل هذا الذنب الذي يمحو الحسنات كأنها لم تكن… في حين كان يكِدُّ لتحصيل تلك الحسنات.

واعلم أنه إذا اندفع عن النفس المُعارِض من الهوى والكبر والحسد وغير ذلك؛ أحبَّ القلبُ ما ينفعُه من العلم النافع والعمل الصالح وأقبَل على السعادة الحقيقية.

والأخلاق مرآةٌ لحقيقة الالتزام، لا يمكننا أن نتخيل ملتزمًا فظًا غليظ القلب ينفِر منه كل من يعاشره أو يقاربه، احرص على أن تكون أخلاقك قدوةً لكل من يعرفك، والأخلاق الحميدة عنوان الفلَاح، وقد قيل، عنوان فَلَاح المرء أدبُه، فانظر أيَّ الخصال ترفع من شأن المسلم… أيَّ المروءة يتحلى بها المسابق المدرِك، حينها تزود بها، ستجدها في كتب الرقائق والأخلاق ستجدها في سير الأنبياء والصحابة ستبصرها في كل من حمل همّ هذا الدين في قلبه وأصبح يعيش ويتنفس لأجل رضا ربه!

قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:(أكمل المؤمنين إيمانًا، أحسنهم خُلُقًا) [[8]]

إن الأخلاق تُكتسب مع المداومة، فلو أنك تعيش في بيتٍ تفوح منه الأخلاق الحميدة سيكون سهلًا عليك التخلق بها، ولكن إن كنت في بيتٍ يكثر فيه السب والشتم وما ساء من الأخلاق. فهذه عقبةٌ حقيقيةٌ أصبحتْ أمامك، ولحلها فأنت الأعلم بحالك وحال الوسط الذي أنت فيه، فإن كان الأمر مستفحلًا ولا يمكنك علاجه البتة وأن القوم دأبوا على الفحش في القول وسوء الخلق فإن استطعت أن تأوي إلى ركنٍ شديدٍ بعيدٍ عن هذه الجاهلية فهو خيرٌ لك، لأنك بحاجةٍ الآنَ لأَنْ تنطلق لا أن تتعثر، لأن تجتهد لا أن تضطرب، ولهذا الوسط لابد أن يكون فيه الحد الأدنى من عوامل الثبات، فلا تدخل في جاهليةٍ تنسيك تقوى الله، وقد يستثير أحدهم غضبك فتنحدر إلى أدنى المستويات فتشعر باختناقٍ، بفشلٍ، بتراجعٍ، يجعل في عينك كل ما أنجزته لم يعد له أثرٌ، وهذه من مكائد الشيطان فهو يحرص على أن يزرع الحزن في قلبك، أن يحزن المؤمنين ويحبطهم فيثنيهم عن مواصلة المسير بجدٍ وعملٍ…

حاول أن تخصص لنفسك الزاوية أو المكان الذي تنأى فيه بنفسك الكريمة عن وحل الانحدار، إن كنت قادرًا على أن توفر لنفسك هذا المكان كبيتٍ مستقلٍ أو غرفةٍ مستقلةٍ كحدٍ أدنى تستطيع فيها أن تتحكم في حرياتك لتتجاوز هذه العقبة، ولكن إن كنت ممن يضطر للمعاشرة التي تدفع بك للأذى، فلا بد أن تتجهز كالفارس، كالداعية، من يجابه الظلم والانحراف بالسياسة تارةً وبالقوة تارةً أخرى، أنت الآن أمير ذلك الوسط، حاول أن تكون صاحب التأثير والقوة، بحكمةٍ في اللسان وتذكيرٍ بالله ونشرٍ للحسنى ونهيٍ عن السوء، بحزمٍ عند الخطوط الحمراء، كن المصلح كن المربي كن المرشد كن القائد، إنها معركةٌ بات عليك خوضها ولو كنت مُكرَهًا، فبعض الخطر لابد من مواجهته ولابد أن يعلم مَنْ حولك أنك لم تعد ذلك المستهتر، فإما أن يحترموا هذا التغيير والالتزام الحَسَن أو أن يرتدعوا في حدودٍ لا تؤذيك وتؤرِّق عليك التزامك وراحتك.

والحال نفسه مع الفتاة التي تشعر بالاستضعاف، فخيرٌ لها الابتعاد عن كل ما يؤرق سكينتها والتزامها وأن تدعو بالحكمة والموعظة الحسنة وإن استطاعت الاستعانة بمن يؤمن لها ذلك الوسط فلا تتأخر، فإن دوام الحال من المحال.

قال تعالى: (إِنَّ الَّذِينَ قَالُوا رَبُّنَا اللَّهُ ثُمَّ اسْتَقَامُوا تَتَنَزَّلُ عَلَيْهِمُ الْمَلائِكَةُ أَلَّا تَخَافُوا وَلا تَحْزَنُوا وَأَبْشِرُوا بِالْجَنَّةِ الَّتِي كُنْتُمْ تُوعَدُونَ)[9].

وهنا نحن بحاجة لتوضيح مسألة المحيط الفاسد الذي يعيش فيه بعض الملتزمين، فقد تصل درجة فساده أحيانًا إلى أن تجبر الملتزم على اعتزاله تمامًا، والنجاة بنفسه، وكلما كان قادرًا على الاستقلال كلما كان عليه أن يبادر لهذه الخطوة دون ترددٍ، وفي بعض الأحيان قد يكون الأمر بحاجةٍ لسياسةٍ وتدبيرٍ، فليخطِّطْ له ولا ييأسْ فإنها مسألةٌ تخص حياته ومستقبله، ولن يُعجِزه أن يحسن التخطيط لحياةٍ يكون هو مَلِك نفسه فيها، ينتقي لها طيِّب المشاغل والأعمال. وقد يستغرب بعضهم أنْ ثمةَ بيوتًا فيها هذا الشكل من دناءة الأخلاق. فمع الأسف هي موجودةٌ ونسبتها معتبرةٌ جُبلت القلوب فيها على القسوة والتيه والضَياع، فلم تعرف للتقوى بابًا ولم تطرُق للتوبة منزلًا. فمن ابتُلي بمثل هذا النوع من البشر فعليه أن يترفع بنفسه قدر المستطاع عن وسطهم، ويدعوَهم لله في كل فرصةٍ لعله يكون سببًا في إصلاح حالهم وهدايتهم.

ثم ما أجمل التعامل مع أصحاب الخُلُق الحسن، إن محبتهم لتطرق القلوب بتأثير الأدب، كم يسعدنا استئذانُهم وشكرُهم وعفوُهم وتوقيرُهم للكبير وعطفُهم على الصغير وتحسُّسُهم لحاجة مَنْ حولهم وتفاعلهم الطيب والمبارك مع من يختلط بهم!

 فإن حِزت هذه المكرمة فاحفظها بالمطالعة في مكارم الأخلاق وفضائل الخلق الحسن وقبل ذلك بالاستعانة بالله وشُكره على آلائه.

لنرتقِ في معاملاتنا وفي سلوكنا، لنقدمْ تلك الصورة المشرقة للمسلم الملتزم الذي أنار قلبَه نورُ الإيمان فظهر على ملامحه وأخلاقه. وصلاح الفرد صلاح أسرةٍ، صلاح مجتمعٍ، صلاح أمةٍ، كانت خير أمةٍ أُخرجت للناس، وإنما الأمم الأخلاق ما بقيت!


الهوامش

[1]  رواه الحاكم وصححه الألباني.

[2]  رواه البخاري.

[3]  التوبة 119.

[4]  رواه أبو داود وحسنه الألباني.

[5]  رواه البخاري ومسلم.

[6]   آل عمران 134.

[7]  الحجر 6.

[8]  رواه الترمذي وقال حسن صحيح.

[9]  فصلت 30.

د. ليلى حمدان

كاتبة وباحثة في قضايا الفكر الإسلامي، شغوفة بالإعلام وصناعة الوعي.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى