حديثي للأيّم: كيف لكِ أن تبددي عزلتكِ وتتعايشين مع واقعك؟

في رحلة العمر الطويلة، ليست كل النساء على ذات الحال، فمنهن من رزقها الله زوجا يشاركها الحياة ويخفف عنها الأعباء، تسكن معه وتعرف السعادة والأمل بجواره، ومنهن من رزقها الله الزوج لكنها تعيش الغبن والحرمان بعينه وتعتبر حياتها تعيسة للغاية، ومنهن من حرمت الزوج إما لطلاق بينهما أو لوفاته أو استشهاده أو لانعدامه!

لقد تناولنا فيما سبق من صفحات، الحديث عن الزوجة والأم بصفتها تعيش مع زوج يتحمل مسؤوليتها ويشاركها أيامها، ولكنني تأملت في مجتمعاتنا فوجدتها تشمل نسبة كبيرة من الأيامى والنساء الوحيدات اللاتي لم يوفقن في زواج أو رحل عنهن الزوج لرحلة الموت أو لاختلاف!

لا شك أن حياة الأيامى تختلف عن ذات الزوج، ذلك أن الأيّم حرمت السكن والعون والسند، وحرمت ربما الأمومة وربما الدفء الأسري الماتع، ولكن هذا كله قدر من الله سبحانه عليك أن تنظري إليه بعين المؤمنة الموقنة، فإن الابتلاءات في طريقنا للجنة تختلف من امرأة لأخرى وإنما الأجر على قدر المشقة ولا يكلف الله نفسا إلا وسعها، ثم على قدر صبرنا وتحملنا لتكاليف المسير ترتفع مراتبنا في يوم الدين، فإن أنت ابتليت بالوحدة فعليك أن تكوني ذكية في الطريقة التي ترسمين فيها أولويات حياتك وتستثمرين هذا الحرمان بإنجازات ترفع مقامك في الدارين.

إن هدف المرأة الأَوْلى في هذه الدنيا سواء كانت متزوجة أو غير متزوجة هو رضا رب العالمين والفوز بجنات الخلد وحسن الخاتمة، ولا شك أن أهدافها الدنيوية كإنشاء أسرة وتحقيق أحلام حياتية مختلفة باختلاف الاهتمامات بين الناس، تصب كلها في هدفها الأَوْلى، والذي يحتاج لكثير من البذل والصبر والاجتهاد، وهو هدف ليس بالضرورة بعيدًا، ذلك أن عمرك لا يحكمه عدد سنين إنما قدر الله الذي لا تعلمينه وهو من قبيل علم الغيب، فما يدريك أنك ستفارقين الحياة بعد يوم! أو شهر أو سنة! لهذا لا تكثري الكثير من الحسابات ولا تتأسفي على ما فات بل لديك اللحظة التي أنتِ فيها الآن، اجتهدي وابذلي فيها بكل ما آتاك الله من فضل وإياك التحسر على ما مضى، نعم قد تستخلصين منه العبر والدروس لكي تستفيدي من تجاربك ولكن لا تجعليه حفرة فخ، لا تخرجين منه أبدا، فينغص عليك حاضرك ومستقبلك كما نغص عليك ماضيك.

أيا كان وضعك سواء تزوجت وانتهى الزواج بفراق أو لم تحظي أبدًا بزوج مناسب! فهذه حالة طبيعية في مجتمعاتنا وكلّ ورزقه، كما لا يعالجها مثل الفرار إلى الله وسؤاله العون والمدد. ثم التركيز بإيجابية على مرحلة العطاء والمسابقة بالخيرات فلها خُلقتِ وعليها تجبل النفس وتستحق كل الاهتمام والبذل.

لنبدأ أولا بسد ذلك الفراغ الذي تركه الزوج في حياتك، سواء عرفتي نعمة الزواج أو لم تعرفيها بعد، اعلمي أن لسده نتوقف قبل كل شيء عند إمكانية تحقيق سنة الزواج، والنظر في الأسباب التي تمنعك منها، سواء كان ذلك لعادات وتقاليد ظالمة حرمتك هذه النعمة أو لأسباب شخصية متعلقة بك عليك مراجعتها، كاشتراطك شروطا مجحفة أو صعبة أو ثقيلة أو لأن عروض الزواج لا تروق لك وتطمحين لأفضل منها، لن أخوض في التفاصيل فأنت أدرى بوضعك، لكن ما أنصحك به أن تبذلي جهدك في تبديد تلك العقبات التي حالت بينك وبين بناء أسرتك المنتظرة بحكمة وبصبر وباجتهاد حق، وأن تترفعي عن ماديات الأرض وتشتري الرجل لذاته لا لماله ولا لجاهه ولا لرضا الناس ذلك أن كسب قلب رجل مؤمن يعد ثروة عظيمة في هذا الزمن!

بعض العقبات تبدو عويصة لكن بالاستعانة بالله ثم ببحث أسباب تهوين وعورتها يتغير الواقع كثيرا وبشكل مفاجئ، فالأب الرافض لزواجك قد يتغير بضغط من مقرب للعائلة وناصح أمين والشروط المعيقة لزواجك قد يخففها من له التأثير، والزوج الصالح قد يظهر في ظروف لم تحسبي لها حسابا أبدا، فإن منّ الله عليك به وملكت فأحسني الصحبة!

أما في حال استعصت عليك الظروف واشتدت العقبات وانعدم الرجل الصالح، فلا تفكري كثيرا في الأمر، دعي قدرك لله، وانضمي لتلك الأيّم التي اختارت لنفسها الوفاء لزوج أحبته وترجو أن تلحق به في الجنة لتسترجع معه أطيب الذكريات، ولا يذمّ الوفاء! لتنشغلا بما هو أهم عندكما، إنه رصيد حسناتكما في رحلة الدنيا العابرة، وإن شئت أنسا يخفف عنك، فلابد أنك ستجدينه في إسلامك ثم في قلوب تجاورك من محيط أسرتك أو من وسطك الإيماني، قد تجدينه في صداقات أو جيرة أو أي روح مؤمنة قريبة، فحافظي عليها وعلى ما يجمعكما من جمال المحبة في الله، وابحثي لنفسك عن موطأ قدم تسابقان فيه معا في ميدان العطاء والبذل، كوني المؤثرة النحلة المنتجة، ولا تنسي أن تشكري الله على فضله وآلائه وتحتسبي عنده أي حرمان أو نقص!

لست مطالبة بالضرورة أن تبهري الناس بعطائك ولكنك مطالبة أن تعكسي صورة المسلمة الموقنة والواثقة بوعد الله التي تحمل همّ دينها وأمتها وخاتمتها، وبقدر الصدق يكون السبق!

لا شك أن حياتك ستتبدل جذريا بحسب الطريقة التي تنظرين بها إليها، فانظري لها بنظرة المؤمنة والمستبشرة، وإياك أن تتحسري على فقدان شيء من متاع هذه الدنيا وإن كان فقدان الزوج، ثم إن آلمك الفقد يوما، فانظري في حال تلك النسوة المتزوجات واللاتي يشتكين بالليل والنهار ويتذمرن من أزواجهن، وقولي الحمد لله إنما الرضا تمام الرضا فيما قسمه الله لك.

زودي نفسك كما تتزود القافلة بالزاد لرحلة المسير الطويلة، ولا خير من العلم الذي سينير ظلام عقلك ويكسبك الحكمة والبصيرة اللازمة لك في الحياة، إن الفرق شاسع بين نفس علمت وأدركت واجتهدت وبين نفس لم تعلم ولم تدرك وقبعت في دائرة تيه وعبث لا تلوي على شيء بل تمضي سنين عمرها في التحسر على حالها ومراقبة أحوال غيرها فلا تقدم شيئا بل قد تضر.

واستذكري قاعدة رسختها التجارب في حياتنا: لا سكن من دون باب القناعة ومفتاح الصدق.

إن أي مشكلة تواجهك في حياتك لا نقيس حجمها إلا بحجم علمك وإيمانك ويقينك، فقد تكون معضلة لك حينما تتعلقين كثيرا بماديات الأرض ولكن سرعان ما تهون حينما تسمين فوق هذه الماديات.

ثم لا تنظري للمجتمع كيف قد ينظر إليك، ذلك أن مجتمعاتنا لا زالت لم تنضج دينيا بالشكل الكافي ولا زالت العادات الجاهلية والجهل ينخر في جسدها، وهذا يعكس أهمية الدعوة والعمل على محو المفاهيم المعوجة واستبدالها بالفهم السليم والذي يوافق شريعة ربنا الغراء.

وإياك أن تقرأي لتلك المواقع الهابطة التي تدفعك للتقوقع في نفسيات مرضية وكأنك حالة خاصة أو غير طبيعية، هذا خطأ فادح في تصنيف المرأة الأيّم على أنها حالة تستحق عناية خاصة! بل إن الأيّم في أحيان كثيرة أكثر طبيعية من نساء متزوجات ذلك أن معيار القياس هنا هو الصدق مع الله والإخلاص لا وضع اجتماعي قدره الله لنا تقديرا.

لقد تأملت في بعض الكيّسات اللاتي عرفن كيف يملأن فراغ الأسرة فهببن إلى دور الأيتام يكفلن طفلا أو طفلة حرما من حنان الأم وذات الدفء الذي تنشدنه، فتكسب المسابقة بكفالة اليتيم أجرا وتقيم به سنة وتنشغل كانشغال جميع الأمهات، أليس هذا أسمى من طريقة تلك المرأة الغربية التي حينما شعرت بالوحدة بعد حياة استنزفها فيها الرجال الذين عاشت معهم الواحد تلو الآخر، ثم تركوها بخسة بعد أن انتهت صلاحيتها في نظرهم، وانفضوا للبحث عن عشيقة جديدة أخرى، لتبقى هي وحيدة، ثم لا تجد إلا اللجوء لتربية كلب أو قطة،  تستمد منه دفئ المشاعر وإن كان حيوانا لا يعقل، حقيقة إن منظر النساء الغربيات في فترة عنوستهن لمنظر يدعو للتفكّر ويدفع بالمؤمنة أن تحمد الله أن حفظ لها حقوقها في كل عمر، ورفع قدرها وجعل على رأس قائمة حقوقها صلة الرحم، فأنّى لتلك الكافرة أن تنافسها في عزّها.

كلما شعرت بالكلل، انظري إلى نور الإيمان كيف يرسم على محياك ابتسامة البِشر والاطمئنان ما يكفيك أن تستغني عن كل البشر، ولكن لأن المرأة قد تحنّ أو ترجو أن تعايش الجو الأسري كأم، قلت لا أرى أفضل لك من سد حاجة ذلك الطفل اليتيم الذي يحلم بأم في كل ليلة! ولو أنك أخلصت في هذه النية لأبصرت بعدها خيرا كثيرا عظيما وبركات تحل على حياتك ولكن إياك والعجب بالنفس أو الرضا عن أدائك، بل اجعلي شعور التقصير محفزا لك للمسابقة بالخيرات.

أفكار كثيرة يمكن أن تقود مشاريعها الأيامى اللاتي فقدن الزوج ذلك لسعة في الوقت وقوة في الهمة قد لا نجدها عند المتزوجات، ولا أنصحك بأفضل من مشاريع تخدم أمة الإسلام وتقوي إيمانك في ذات الوقت، وسيكون لي حديث عن المشاريع التي يمكن للمرأة المسلمة العمل عليها فتنفع أمتها وتسعد هي في حياتها إن هي صدقت.

أخيتي، إني أراك سعيدة إن أنت أردت لنفسك السعادة ومستبشرة إن أنت أردت لنفسك البشر، فكوني أنتِ كما أراد الله لك أن تكوني، واجعلي ثقتك فيما وهبك الله من فضل محفزا لك للعيش باتزان ورضا بل وطمأنينة وسكينة ترفرف معها روحك حول أبواب الجنة، تتوق لما هو أسمى، فهناك مساكننا الأولى وهي مساكن لا تدخلها أيم إلا عروسا مبتهجة، فاسألي الله من فضله العظيم واعلمي أن شريك حياتك إن حُرمتيه يوما على الأرض فلا شك أنه ينتظرك في قصر مشيد في تلك الجنة الوعد، فسابقي لها لتظفري بخير خاتمة وقرة عين اختاره لك مولاك وخالقك، وكلما أجدّت في دنياك لا تسألي عن مرتبة زوجك في خاتمتك! والأجر على قدر المشقة، وقد رأيت من كانت همتها أن تصلح زوجة لنبيّ مختار؛ فانظري مضمار السباق كيف يلهب فيه اليقين الجدّ في الطلب، اللهم ارزق كل أيّم الصدق والسبق وسعادة الدنيا والآخرة.

د. ليلى حمدان

كاتبة وباحثة في قضايا الفكر الإسلامي، شغوفة بالإعلام وصناعة الوعي.

مقالات ذات صلة

‫2 تعليقات

  1. نعم والله، كلامكم جميل ولكن أريد منكم طلب، أن تدعوا لي بيقين يغرق ما بي من ما يشغلمي عن الله أو يثبطني عن طريقه، حتّى ألقاه

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى