المسلمون في أمريكا بين ناري الفرقة والغربة

ليس وصف المسلمين في أمريكا إلا انعكاسا لحقيقة واقعهم المرير في كل مكان في العالم، متفرقين مشتتين منقسمين إلى فرق وجماعات، تراهم فرادى وتراهم زرافات، لكنهم في أغلبهم يفتقدون القيادة الواحدة والروح الواحدة والوحدة الواحدة التي يجب أن تجمع فئات هذه الأمة.

وكون أمريكا أرض فسيحة فقد ضمت من جميع أجناس المسلمين من كل بلاد في العالم الإسلامي المترامي الأطراف، سنجد الباكستانيين والأفغان وسنجد الأتراك والألبان، سنلتقي بالمغاربة والمشارقة بالأفارقة والتركستان، من كل ملل الإسلام سنجد فرعا أو أثرا، لكن المحزن بحق هو ذلك المشهد غير المتجانس للمسلمين، فهنا مسلمين ملتزمين وهناك لايحملون من الدين إلا اسمه.

المساجد في أمريكا

حين كنت أمشي في شوارع أمريكا كنت أشاهد في نفس الشارع، مسجدا لأهل السنة فيه يجتمع السلفية الجدد، ثم آخر لأهل السنة ولكنه للسلفية “الوهابية” ثم آخر للصوفية وعلى طول الخط مسجد للأحباش وحتى النقشبندية وتعددت المساجد والنداء واحد لكن القلوب شتى.

وتأتي المساجد لتجمع شتات المغتربين والمعتنقين للإسلام وتختلف نشاطاتها بحسب نشاط جالياتها وهمة روادها، وهناك من المساجد التي تعتبر خلية نحل، تؤتي أكلها في كل حين ولحظة، قد أسلم فيها الكثير من الأمريكان والنصارى وأضحت قبلة الباحثين عن الحقيقة وعن المسلك، ثم بالنسبة للمسلمين الملتزمين كانت كالحضن الدافئ يستشعرون فيه حرارة الإيمان ودفئ الإسلام وأخوة الدين العظيم.

ذكريات المساجد لها أثر كبير في ذاكرة المغترب إلى بلاد الغرب، ولا أخال مسلما ارتادها إلا وتعلق قلبه بها، وإن كانت مجرد بناية بدون مأذنة أو قبة كما اعتدنا أن نشاهد هندسة مساجدنا في بلادنا، وكم من مسلمة كانت تحدثني عن لقاء المسجد كأنه ساعة الأنس والتداوي من وحشة الاغتراب، لهذا كان للحلقات والدروس وقعها وكان لها جمهورها وكانت المناسبات والولائم تجمع الغرباء، ثم لا تسأل عن التبرعات وسخاء المستوحشين حين تجمع لبلاد مسلمة منكوبة أو مشروع للإسلام مطلوب، لقد شاهدت مسابقة في البذل تذكرنا بأيام الإسلام الأولى، ولله الحمد.

يوميات المسلمين

على تلك الأرض قد يمضي المسلمون في اعتساف تجارب متنوعة هنا وهناك ولا ينجو غالبا إلا من حكّم ضميره ووجدانه لشريعة الله،  وحكّم واقعه ونشاطه لذات الشريعة، فما خاب من اتبع وحي الله، وإلا فإنه سيفقد البوصلة ويصاب بداء الفصام (الشيزوفرنيا)، لا إلى هؤلاء ولا إلى هؤلاء!، ذلك أنه يخوض في كل يوما صراعا بين الوجدان الديني وواقع الحياة العملية، وهو واقع يستند إلى تصورات وقيم لا علاقة لها بالوجدان الديني، وهو تماما ما يعيشه الأمريكي المتدين تارة والمستنكر لدينه تارة أخرى.

مشاهد للفرقة والاختلاف بين المسلمين

قد يتفرق المسلمون في كثير من المواقف والمناسبات لكن ولابد أن يجمعهم أعياد المسلمين، كعيد الفطر وعيد الأضحى، ولكنه كان مؤسفا جدا أن توجه لي إحدى المعلمات الأمريكيات سؤالا باستغراب! لماذا لا يجتمع المسلمون جميعا في عيد واحد؟ قلت بل هم كذلك قالت كلا، لدي أطفال مسلمين في الصف، وتسمح لهم المدرس بالحصول على يوم إجازة في أيام أعيادهم، وحين أقبل عيد الفطر، وجدت أطفالا قد تغيبوا وآخرين حضروا كعادتهم فلما سألتهم أليس اليوم عيدكم! قالوا لا نحن عيدنا غدا وآخرون قالوا بل نحد بعد غد.

حقيقة مؤلمة أن يعيش هؤلاء المسلمون في أرض واحدة ويختلف فيها الأئمة والشيوخ في المساجد في توحيد الأعياد والمناسبات الدينية، لأن هذا التفريط والتقصير ينعكس على مشهد وحدة الأمة أمام الكافرين، وقد حاولت أن أفهم القصة فعلمت أن الشيخ الذي سمع بخبر رؤية الهلال رفض شهادة الشهود كونهم لم يكونوا من بلاده ولم يكن يثق مسجدهم ولا إمامهم.

الضحية المعتنقون الجدد للإسلام

ثم الاختلاف يكشف حباله ابتداء المعتنقون الجدد للإسلام، فقد تجد مسلما جديدا يتساءل بغموض شديد، أي الفرق أصدق، فهذا صوفي يدعوه إلى الإسلام بطريقته، وذاك مرجئ  وآخر شيعي وهكذا يتوه هذا المسلم الجديد في كم النصائح التي تتوالى عليه وكم الدعوات التي تنهال، ثم منهم من يفتن من جديد ويترك الأمر برمته أو تجده يلتزم الصلاة والصيام وكفى ولا يبحث عن أي شيء آخر، آثار فرقة المسلمين نجدها في كل مكان ولكن الأكثر مرارة هو تنازعهم واختلافهم وهو حال الأمة برمتها.

العنصرية والإسلاموفوبيا

ثم لا شك أن المسلمين على اختلاف تياراتهم وتفرقهم،  يتعرضون لموجة من العنصرية عاتية لا تفرق بينهم أبدا، تعكسها تلك التصريحات العنصرية اللئيمة التي يطلقها بعض الساسة والأمريكان على مسمع من المسلمين وتلك البرامج الخبيثة المبرمجة لبغض المسلمين والتي أدت بالتأكيد لانتهاكات واعتداءات على الجاليات المسلمة المسالمة وممتلكاتها بشكل يدعو للتأمل.

ولا زلت أذكر ذلك الفيلم الذي يصور رجلا مسلما يحاول تفجير نادٍ ليلي في أحد شوارع أمريكا المكتظة ثم تأتي امرأة أمريكية تعمل في الاستخبارات، فتهزمه وتركله وتهينه وتحبط عمليته وتقول له بالعبارة الواضحة، أنا لست عائشة ولا فاطمة فأغطي كل شبر من جسمي، بل أنا الأمريكية الحرة التي تدوس عليك ولا تبالي!.

ثم حين قرأت اسم المخرج وكاتب السيناريو وجدتهم يهود يتقيأون كراهيتهم فتظهر في مشاهد تمثيل هوليهودية لا تزيدهم إلا إسلاموفوبيا وتشغلهم بالتعدي على المسلمين، وقد شاهدت عدة مسلمات يشتكين الاعتداء على حجابهن أو نقابهن أو أبنائهن ومنهن من عانت من تخريب وتدمير للمتلكات بعمد حتى اضطرت لتغيير محل سكناها!.

ضعف المسلمين في الوسط الأمريكي

ورغم أن أغلب المسلمين في أمريكا متعلمين أو بشكل عام أفضل تعليما من الأمريكيين أنفسهم  ويجتهدون في رفع صوت الإسلام عاليا في سماء أمريكا، إلا أن النشاط اليهودي في البلاد يحاصر أي رقي للعطاء الإسلامي أو كيان للدفاع عن المسلمين، ويحاربه بشكل مباشر أو غير مباشر، وهو نشاط تديره المنظمات اليهودية الصهيونية، التي تعمل على توجيه القرار الأمريكي لصالح طموحاتها وكراهيتها للمسلمين.

ورغم توفر أعداد كبيرة من المساجد والمراكز الإسلامية والنوادي التي تعتني بالمسلمين إلا أنها جميعها تحت الرقابة والمتابعة الاستخباراتية وكثيرا ما يتم تركيب كمرات خفية تتابع كل شاردة وواردة فيها فضلا عن أساليب التنصت على المكالمات والاتصالات من وإلى هذه المساجد والمراكز، ثم هناك الجواسيس الذين يندسون داخل صفوف المصلين لينقلوا تقارير مفصلة عن محتوى الخطب والدروس التي يلقيها أئمة المساجد والخطباء، وهو أمر ليس بالمستور بل تكشفه وسائل الإعلام الأمريكية وتفخر به وتذيعه باعتزاز على أن أمنها القومي بأمان وتحت السيطرة من أي تمادي من المسلمين!.

الحنين للأذان

ثم لا يعني توفر المساجد بكثرة أننا سنسمع الأذان خمس مرات في اليوم، بل لم أشعر بوحشة الأذان كما شعرتها خلال إقامتي في أمريكا ذلك أنه محظور، وقد كنت أستمع إليه فقط من خلال الحاسوب ثم حين سمعت الأذان بعيد عودتي كان شعورا عجيبا لا يمكن وصفه، وكأن الجسد يتشرب نسمات النداء وينتعش ويسترجع حيوتيه ونشاطه وروحه التي انطمرت مكرهة تحت أصوات المزامير والموسيقى الصاخبة التي نضطر لسماعها في المجمعات والمباني العامة، لقد كان سماع الأذان بحق بلسما للروح وشفاء.

جاليات لفتت انتباهي

http://gty.im/472245742

ولعل أكثر الجاليات المسلمة التي لفتت انتباهي  كانت الجالية الباكستانية فقد كانوا منظمين بشكل متقن، أسواقهم مجتمعة معا وتوفر كل ما هو حلال وما يتصل بعاداتهم الغذائية أو لباسهم وثقافتهم، فضلا عن اهتمامهم بتحفيظ القرآن، فقد صادفت الكثير من أبنائهم الذين ولدوا في أمريكا حافظين للقرآن، لديهم الكثير من مدارس التحفيظ وإن كانت داخل البيوت والمساكن لكنها نشطة بشكل يدعو للبهجة.

ثم نجدهم في الفعاليات والمؤتمرات الدينية بكثرة وهم يعتزون بزيهم الإسلامي الساترـ، فضلا عن أن مساجدهم تضم أعداد ملفتة من المصلين ويواضبون على شعائر الإسلام بوضوح جلي.

لقد التقيت بإحدى الباكستانيات وسألتها ما الذي جاء بها إلى أمريكا فقالت أنها الدراسة، فزوجها طالب في مرحلة الدكتوراة، وهي انشغلت بتحفيظ أطفال الباكستان القرآن، وقد تعجبت حين رأيت الحفاظ أصلا لا يتقنون اللغة العربية ولكنهم يتقنون الحفظ بشكل مثير للدهشة!. فهذه من مشاهد إعجاز القرآن الكريم، وهمة المسلم حين تتربع على عرش العطاء.

قصة عمر

ولم أنس موقفا لهذه الأم المسلمة الواعية لا يكاد يفارق مخيلتي كلما استذكرت أيام رفقتي بها، لقد كنا نمشي في شارع ومعنا ابنها عمر، كان صغيرا لا يتجاوز الخامسة، ولكن في الشارع نساء عاريات يمررن بين الفينة والأخرى، فشد انتباهي تركيز أم عمر على وضع يدها فوق عينيه، وهي تدله على الطريق كيف يمشي، فسألتها متعجبة؟ لماذا تضعين يدك فوق جبينه وتمنعينه من النظر براحته، قالت، في الشارع الكثير من العري والفجور وأريد أن أعوده على غض البصر! لقد كان عمر يغض بصره ولا ينظر إلا أمامه حتى ينتهي ويصل إلى وجهته، فعلمتنا هذه الأم درسا في كيفية تربية طفل مسلم وإن كان الوسط الذي ينشأ فيه فاسدا.

من الصعب أن ألخص مواقف رائعة في التربية لمثل أم عمر في هذه السطور فهذا يحتاج لكتاب منفرد يتحدث عن فنون التربية وأسرارها، والتي أراها علما يلقن ويذاكر ويتوارث، فإعداد جيل مسلم قادر على تحمل تكاليف الإسلام، لهو أكبر إنجاز قد تقدمه أم لهذه الأمة.

ثم ربما كانت هناك جاليات  أخرى متماسكة ومتعاضدة كهذه ولكنها لم تصل لدرجة لفت الانتباه بمثل هذا المستوى، ولا زلت أذكر نشاط بعضها وإن كانت أغلبها أعجمية، إلا أنها أتقنت فن الاجتماع في الغربة.

جيل جديد ولد في الغربة

نعم هناك جيل جديد، شريحة كبيرة، أطفال مسلمين، ولكنهم بوجدان أمريكي، ولاءهم لأمريكا وأحلامهم لا تتعدى حدود أمريكا، مؤسف جدا أن نشاهد الكثير من أطفال المسلمين قد انخرطوا في المجتمع الأمريكي متنازلين عن كل معنى للأصالة والدين والخلق.

وحتى لا أزيد الصورة سوادا وبشاعة، أعترف أنني التقيت بشباب ولدوا في أمريكا قد أثاروا إعجابي، لأدبهم وخلقهم وعلمهم وتفانيهم في الدعوة، كحال ذلك الشاب الطالب في كلية الطب حين تفاجأت به يزور كل المسلمين الذين يسمع عنهم في المستشفيات في دائرته، أيا كانت جنسيتهم أو أصولهم فيعرض عليهم المساعدة ويزورهم لكسب أجر زيارة مريض، ثم يهديهم الهدايا ويلبي طلباتهم، وقد التقيته صدفة حين كنت أزور إحدى المسلمات التي كانت تعاني آلاما شديدة تتطلب إزالتها عملية في النخاع الشوكي، فدخل علينا في الغرفة ليحييها بتحية الإسلام وقد جلب لها بعض الهدايا مما تحتاجه في إقامتها المتوترة، لقد زاد عجبي حين علمت أنه حافظ لكتاب الله ولم يخرج من أرض أمريكا أبدا، لا لزيارة بلده الأصل ولا لأي بلد إسلامي آخر فقلت بوركت التربية وبورك الصدق.

د. ليلى حمدان

كاتبة وباحثة في قضايا الفكر الإسلامي، شغوفة بالإعلام وصناعة الوعي.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى