مساجد تحت السيطرة

تصحيح المفاهيم من أهم المعارك التي على أي أمة أن تعمل عليها قبل نهوضها من جديد، لتشكيل وعي متكامل بحقيقة قضاياها وتستبين على ضوئه طرق معالجتها، فببقائنا تحت سلطة المفاهيم المشوهة سنبقى داخل نفس القيود المسببة لأزماتنا المختلفة، فلن يكون تصورنا عن الحلول الممكنة إلا انطلاقًا من ذات الأفكار، ما يؤدي إلى إعادة وتكرار الأخطاء.

وقد أدت عملية إعادة تشكيل الحياة الاجتماعية والسياسية وحتى الدينية في بلادنا داخل القوالب الاستعمارية، إلى تغيير طارئ على مفاهيم المسلم المعاصر، تحولت على أثره الحياة في الأمة من نظام اجتماعي يعمل وفق منظومة قيمية قوامها الوحي، إلى حياة تحت سلطة الدولة القومية العلمانية التي خلفها الاستعمار، ما أعاد ترتيب المفاهيم وفق سياق مختلف ومصادم لطبيعة الحياة الإسلامية، بقيت معه مجتمعات المسلمين تعيش داخل نظم اجتماعية غير مصممة لاستبقاء الدين كقيمة عاملة داخلها.

سنحاول في هذا المقال التذكير بالقيمة المركزية للمجتمع وشكل الحياة الاجتماعية في الإسلام، والوظيفة الحقيقية للمسجد فيه، وما هي القيمة المركزية للدولة القومية الحالية وما أحدثته في الحياة الاجتماعية للمسلمين، ودور المسجد عندما أصبح مؤسسة تحت سيطرتها.

مركزية الله في الحضارة الإسلامية

لا يختلف مسلمان بأن قطب رحى الحضارة الإسلامية يدور حول مركز هو الإسلام، وأن جوهر الإسلام هو التوحيد، أي شهادة أن لا إله إلا الله الواحد الأحد رب كل ما في الوجود وخالقه، وانطلاقًا من التوحيد باعتباره الجوهر المعرفي، تنبني الثقافة المؤسسة للحضارة الإسلامية، بالتالي يمثل التوحيد النواة الحاكمة في الإسلام وثقافته وحضارته.

تنسحب هذه الحقيقة على كامل النشاط المعرفي والمادي والحركي في الإسلام، إذ ينعكس التوحيد على الحضارة فيحدد المركز الذي تتجه إليه في مختلف آثارها وتفاعلها في الزمن كل الزمان والمكان كل المكان، ويتحرر الفرد المسلم من الانقياد إلى ما سوى الله، وينتظم المجتمع حول مركزية التوجه إلى الله.

طبيعة الحياة الاجتماعية في الحضارة الإسلامية

كلمة التوحيد لا إله إلا الله وهي جوهر الإسلام تنعكس على واقع الحياة في مستوى عقدي، ومستوى شعائري، ومستوى سياسي واقتصادي واجتماعي، هذا الانعكاس الذي تحدثه لا إله إلا الله محمد رسول الله يُنتج نظامًا اجتماعيًا يقوم على شبكة من العلاقات في بنية تحكمها منظومة قيمية قوامها الوحي، ومنظومة الإسلام القيمية هي المعيار الذي يحدد العلاقات بين جميع أطراف المجتمع من أفراد وجماعات، بالتالي يكون معيار الوحي هو الضابط للحاكم والمجتمع والجماعات الوسيطة.

تنتج المنظومة القيمية في الإسلام في واقع الناس ثلاث أطراف، مجموعة الأفراد، والطبقة السياسية الحاكمة، والجماعات الوسيطة، الجماعة الوسيطة هي مجموعة أفراد منظمة قائمة على فرض كفائي من فروض الإسلام في المجتمع، ومجموع هذه الجماعات يقوم بتغطية كافة وظائف المجتمع، فهذه الجماعات هي من انعكاس الإسلام على المجتمع وليست من صنع الحاكم أو قابلة لهيمنته، وهي مستقلة عن سلطة الحاكم لأنها تؤدي مجموعة من الوظائف الاجتماعية التي حددها الإسلام، والحاكم دوره فقط مراقبة حسن سير عمل هذه الشبكة القائمة على تحقيق الفروض الكفائية للناس وليس له أن يغيرها أو أن يعطلها.

بهذه الكيفية يكون المجتمع مستقل بمهامه الحيوية عن هيمنة السلطان، وفي حالة فساد السلطان أو حدوث نزاع على الحكم، لن تتوقف المهام الحيوية لبنية المجتمع المسلم، لأنها نابعة من المجتمع ومستقلة ماديًا عبر التمويل المعتمد على نظام الأوقاف وإداريًا عبر الجماعات الأهلية، وقيميًا باعتبار أن الوحي هو المنظومة القيمية المحددة لكافة العلاقات داخل هذه الشبكة الاجتماعية.

دور المسجد في الإسلام

إذا كانت تجليات لا إله إلا الله على واقع الحياة تنتج شبكة اجتماعية تقوم على تحقيق كفايات الناس، فإن مركز هذه الشبكة هو المسجد الجامع، لذلك كان أول أمر افتتح به الرسول صلى الله عليه وسلم عند هجرته المباركة تأسيسه لمسجد قباء، ثم بعد أيام قليلة حين دخل المدينة المنورة كان أول عمل قام به كذلك تأسيسه لمسجد المدينة، فالمسجد له مركزية في البناء الاجتماعي في الإسلام، ووظيفته في المجتمع فضلًا عن كونه بيت لعبادة الله وحده واجتماع المسلمين في صفوف منتظمة متجهين جميعًا في كافة الأرض نحو القبلة مكة التي بناها إبراهيم الحنيف، إلا أن للمسجد وظائف أشمل، لشمول مفهوم العبادة في الإسلام لكافة نشاطات الحياة.

اقرأ أيضًا: هل غيابنا عن المساجد وصلاة الجماعة مؤثر فعلًا أم هي مشاعر عابرة؟

فالمسجد مؤسسة قائمة على نشر واستدامة قول لا إله إلا الله في المجتمع، باعتبار وظيفته التعليمية فهو مركز للنشاط العلمي ومقصد للطلبة منذ صدر التاريخ، لتعلم كل العلوم شرعية كانت أم طبيعية، لهذا بنيت حول المساجد غرف لمبيت الطلبة القادمين من أماكن بعيدة، والذين يتكفل نظام الوقف بمصاريفهم، كما يتكفل الوقف بالنفقة على العلماء القائمين على التدريس ما يحفظ استقلالية التعليم والعلماء ماديًا عن سلطة الحاكم.

كما يمثل المسجد دار لقضايا المجتمع العامة، يقع فيه النظر في شواغل الأمة ومنه تعلن القرارات الرسمية الحاسمة المتعلقة بالسلم والحرب، وتعقد فيه الألوية، وتستقبل فيه الوفود حتى من الأعداء، وهو مكان لاجتماع المسلمين لتدارس أوضاعهم وتجميع آرائهم وفيه يبايع السلطان كما حدث مع الصديق أبو بكر وعمر وعثمان رضي الله عنهم.

مركزية الدولة القومية في الحضارة المادية ومفهوم الدولة الإله

أدت عوامل الركود والتخلف التي رعاها القساوسة والرهبان في أوروبا إلى الثورة على الكنيسة وأباطيلها، لكن الأحداث تجاوزت الكنيسة إلى الثورة على الدين، ما أنتج فكرة العلمانية التي ألغت الدين كقيمة حاكمة في واقع الحياة، وأُزيحت الكنيسة ووضعت دار البلدية في مركز المدينة، وبقيت هي المركز الذي حل فيه إله الدولة كشكل من أشكال انتكاس الفطرة الإنسانية، وتراوحت حدة عداء الدين في أوروبا بين نموذج متطرف أنتجته الثورة الفرنسية أو متصالح مع الدين أنتجه النموذج الإنجليزي، ثم أصبحت العلمانية هي الفكرة الأساسية لنظام الدولة القومية الحديثة، ووقع تعميم هذا النظام على كامل العالم الغربي وعلى الأمة الإسلامية خلال الحملات الاستعمارية المعاصرة، وقسمت معه الأمة إلى قوميات تحكمها نظم علمانية عبر قوانين وضعية.

فالدولة القومية تقوم على وجود حدود وداخل هذه الحدود يكون الشعب حبيس لسياق جغرافي وتاريخي معين، والمقدس داخل هذه الحدود هو الدولة وقوانينها العلمانية، فما تبيحه الدولة مباح وما تحرمه حرام وما تحله حلال، وفي هذا السياق يقول نيتشة عن تحول الدولة إلى مركز مقدس بعد الحركة العلمانية:

مات الإله احذروا الدولة.

إذ تضفي الدولة القداسة على حدودها وعلى سلطتها وكل ما يخدم مركزيتها، وتخضع الشعب للإذعان إلى ما تحله وما تحرمه عن طريق قوانينها ومؤسساتها وأجهزتها. المقدس إذًا في العلمانية هو الدولة وكتابها هو الدستور، وتعمل مؤسساتها على حماية هذه القداسة وفرض طاعة الشعوب لسلطة الدولة الإله.

طبيعة الحياة الاجتماعية في الدولة الإله

تستأثر الدولة القومية الحديثة بكافة المهام الحيوية للمجتمع، فهي تحتكر امتلاك القوة واستعمالها، وتجمع تحت هيمنتها الوظائف الاجتماعية للناس، فالأمن والدفاع والصحة والتعليم والغذاء والإعلام والاقتصاد والقضاء والتشريع.. كله بيد الدولة، فتحول الدولة الإله الشعوب إلى مجرد مستهلكين لما تنتجه، مهما كان هذا الذي تنتجه إن كان مصادم للفطرة أو العقل أو الدين أو حتى المصلحة. بالتالي تهيمن الدولة على النشاط الاجتماعي للمجتمع وتحوله إلى سلطانها، وتسخّر وظائف المجتمع لصالح سياساتها، ما يجرد الشعوب من حياتها وحركتها وإبداعها الذاتي، ويطبعها بما تفرضه الدولة ويشرعه إلهها ممثلًا في مجالسها التشريعية المنتجة للقوانين الوضعية.

طبيعة علاقة الدولة القومية الحديثة بالمسجد

سبق أن تحدثنا في طبيعة الحياة الاجتماعية للدولة القومية عن استئثارها بكامل الوظائف الحيوية للمجتمع، وعن طبيعتها العلمانية، وفي هذا السياق وقع تأميم الدين من طرف الدولة، وذلك عن طريق ضم أو إنشاء مؤسسات دينية رسمية تمثل الواجهة الدينية للدولة، والاستئثار بالتالي بوظيفة الفتوى الرسمية لهذه المؤسسات التي ترتبط ارتباطًا عضويًا بالنظام القائم وبمصالح وسياسات هذا النظام، وتحول المسجد من مؤسسة أهلية تحت إدارة وتمويل المجتمع، إلى مؤسسة تحت سلطة وتمويل وإدارة الدولة، التي تعين الخطباء والأئمة، وتفرض في أحيان مواضيع خطب الجمعة، وتحدد نوعية الخطاب الموجه من خلالها، كما تعطلت وظيفة المساجد كمؤسسة قائمة على استدامة قول وتعلم لا إله إلا الله في المجتمع، وجُمِّد نشاطها في واقع الحياة، ليحصر في الجانب الشعائري.

دور المسجد في الحراك الاجتماعي

بقيت المساجد محافظة على احتوائها لهموم المسلمين طوال التاريخ، وهذا ملاحظ بوضوح حتى في ثورات الربيع العربي، فقد كانت انطلاقة التظاهرات تبدأ في عديد من المدن والعواصم العربية من المساجد، فترتفع تكبيرات المصلين وترتفع معها آمالهم في التحرر من طغيان جثم على بلادهم وحاصر دينهم ودنياهم، ثم بعيد الثورات شهدت المساجد تحرر من سطوة الدولة العلمانية، مما أعاد كثير منها إلى نشاطها الدعوي المستقل.

عودة الاستبداد يمر عبر السيطرة على المساجد

ومع تصاعد الثورات المضادة في مختلف البلدان، كان على رأس أولويات الأنظمة إعادة سيطرتها على ما تبقى من النشاطات الاجتماعية الأهلية العاملة على سد كفايات الناس والمستقلة عن الأنظمة، كالنشاط الخيري والتعليمي والدعوي، وكان على قائمة أولوياتها السيطرة على المساجد، دعمت هذا بديباجات قانونية وحملات إعلامية وقمعية وُجِّهت جميعًا لتقييد دور مؤسسة المسجد في المجتمع من جديد، وإعادته تحت سلطة وإدارة المؤسسات الرسمية، كما عملت على توظيف المنابر لتمرير ما أطلق عليه بتجديد الخطاب الديني، عبر بث خطاب مفرغ من روح الدين الدافعة لاستعادة كرامة هذه الأمة وعزها، واسترجاع ثرواتها، ورفض كل غاصب يستبيح أعراضها ودمائها وأموالها، وقد مُرِّر هذا الخطاب عبر برامج تأهيلية للخطباء والأئمة جاءت بعد توصيات غربية بالأساس.

إن إدراك التحول الهائل، الذي أحدثه تركيز نظام الدولة القومية الحديثة في بلادنا على مختلف نواحي الحياة، في مقابل الخصائص التي تميز الحياة الإسلامية المعتمدة أساسًا على حركة وتفاعل المجتمع وفق منظومة قيمية تتسم بفاعلية تستجيش طاقات الأفراد والجماعات في اتجاه الريادة العالمية، وما فقده هذا المجتمع من حيوية واكتفاء وحرية حين تحول إلى مجرد مستهلك لمنتجات الدولة القومية، ثم ما أنتجته التبعية من تقييد لهذه المجتمعات كنتيجة لعمالة الحكام لأعداء هذه الأمة، وتحويل الدولة لصنم تقدم له طقوس الطاعة والخضوع، إن إدراك هذا التحول كفيل بأن يبصرنا بما طرأ على عالم أفكار المسلمين، وأننا بحاجة إلى وعي حقيقي يعيد بناء ما هدمته أيادي الاستبداد.

المصادر

مؤمن سحنون

أرجو أن أكون من الساعين لأن ننال يوما الحرية، الحرية بمعناها الشامل لأمة تعرف رسالتها.

مقالات ذات صلة

تعليق واحد

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى