مروان حديد: أسطورة الثبات في زمن الظلم والاستبداد

في الوقت الذي كان مروان يردد فيه:

لموتٌ في طاعة الله خيرٌ من حياةٍ في معصيته

وكانت خطبه ومحاضراته تبث روح التحريض في نفوس الشباب وتلهب أنفاسهم لفداء دينهم وقضيتهم، كانت أعين الاستخبارات النصيرية ترقبه عن كثب.

وكما كان يتوقع مروان وكما كان يحذر دومًا من ذلك المكر الذي ستعريه الأيام، كشف النظام النصيري عن نواياه في عام 1973، حين أخرج البعثيون دستورهم الجديد ومسحت فيه المادة التي تؤكد أن سوريا دولة إسلامية. تغييرٌ أثار غضب الشعب السوري ونقمته على النظام، واشتعلت معه غيرة الخطباء وعلى رأسهم مروان حديد في المسجد وفي التجمعات، حتى جمعت البيعات على الموت!

ولكن الخوف من الاعتقال والتعذيب وسياسة النظام في البطش والتنكيل، دفعت الناس للتخفي والحذر من خطب مروان، خوفًا على أنفسهم من الورطات الأمنية.

محاولة الاعتقال

على إثر ذلك تعرض مروان لمحاولة اعتقال في أوائل شهر آذار 1973، لكنهم لم يفلحوا في إلقاء القبض عليه ومنذ ذلك الحين اختفى مروان وانكب على العمل بسرية، يجمع السلاح ويؤسس قوة تمكنه من مواجهة النظام البعثي النصيري الاستبدادي.

لقاء مع عزام

تحركاته كانت أغلبها في دمشق لمدة سنتين ونصف تقريبًا، انشغل خلالها في إتقان العمل والأخذ بالأسباب، جميع الأسباب وإن صغرت، وهناك أيضا التقى الشيخ عبد الله عزام رحمه الله، الذي زار سوريا في تلك الحقبة، وهو الشيخ المجاهد العالم الخطيب المفوه الذي قال يصف مروان عند لقائه به:

نظرت إلى وجه ليس من أهل الدنيا أبدًا، صافٍ صفاءً عجيبًا، النور يشع، أول كلمة قالها لي-هو يعرفني من أيام فلسطين، كان قد جاء معنا-يا أبا محمد: ألم تشتق إلى الجنة، كانت تلك آخر كلمات سمعتها منه.

في هذه الأثناء لم يغب مروان عن ذاكرة النظام البعثي النصيري الذي كان يوظف كل طاقاته لاعتقاله من جديد وإعدامه.

ولكن الأقدار تسري بمشيئة الله لا بمشيئة بشر! ورغم حياة المطاردات والتربصات، عقد مروان زواجه على فتاة تحمل نفس مبادئه وتقدر ظروفه وتبذل نفسها في خدمته، وكان ذلك في أواخر عام 1972، ولكنها لم تزف إليه لخشيته عليها، وبقي على هذه الحال حتى داهمته قوة المخابرات النصيرية في صبيحة يوم 30 حزيران 1975 ولكنها لم تتمكن من اعتقاله إلا بعد معركة بطولية وقع فيها بعد أن استنفذ جهده في مقاومتهم، واعتقلت زوجته المرابطة معه أيضا.

الاعتقال ولقاء حافظ الأسد

لم يكن اعتقال مروان الحديد بالحدث الهيّن، بل كان حدثًا عظيمًا في سوريا، فقد ذهب إليه الرئيس حافظ الأسد بنفسه، يقول له:

يا مروان دعنا نفتح صفحة جديدة مع بعض، عفا الله عما مضى، لن نحاسبك على شيء بشرط واحد أن تترك السلاح

وما خرجت مثل هذه الكلمات من رئيس يتمتع بقوى البطش والطغيان إلا لهيبة ألقاها الله على عبده مروان، وكم من أسير أمام سجانه هو الرئيس بل هو الملك، فالعظمة تكون بالإباء والثبات على المواقف، وإن ضعفت حيلة البشر، لأن قوة الإيمان هي أقوى من جميع القوى في هذه الأرض، ويكفي أنها لوحدها كافية لجلب السكينة التي لن يقدر على شرائها أغنى وأقوى الناس سلطة في هذه الأرض. فماذا كان رد مروان المستنير بنور العلم وصفاء الغاية على سلطان جائر، إنه الحكمة في الخطاب ووضوح الرؤية والغاية من مسيرة التضحية، قال مروان: وأنا موافق بشرط واحد، أن تساعدني على قيام الدولة الإسلامية في سوريا. بعبارة قصيرة مقتضبة، فتولى حافظ الأسد مخزيًا وخرج.

مروان يهدد في الاعتقال

ومشهد آخر سجله التاريخ لهذا المؤمن المجاهد، حين دخل مروان على المجلس العسكري الذي ضم ناجي جميل قائد القوات الجوية ومصطفى طلاس ومجموعة من الضباط النصيريين الكبار بعد اعتقاله، فابتدرهم مخاطبًا كأن لسانه السيف مسلطًا على رقابهم:

ويلك يا كلب يا ناجي جميل، هل ستظن أننا سنتركك حياً؟! أوصيت الشباب أول ما يبدؤوا بكم أنت ومصطفى طلاس، لأن على ظهوركم يا كلاب أذلنا هؤلاء النصيريون، وانتهكوا أعراضنا، وأما أنتم أيها الضباط النصيريون، فقد أوصيت الشباب أن يقتلوا منكم خمسة آلاف.

فارتجت أقدام الحضور رعبًا ومهابةً من رجل أسير أعزل، ليس إلا لأن فيه قوة كادت تحطم عنادهم واستكبارهم في الأرض، فهب ناجي جميل يصيح مستغيثا جنده: خذوا هذا مجنون، ارفعوه، أبعدوه عني،  فأبعدوه على عجلة ليرسلوه إلى محاكم التفتيش ولكن ليس التي عرفتها الأندلس بل التي ضجت لأنين أسراها سوريا وبكت على قتلاها الأجيال بعد الأجيال منذ تولت عائلة الأسد النصيرية مقاليد الحكم في الشام، وهناك تفننوا في إذاقته جميع صنوف الإذلال والمهانة والقهر.

حتى قال شهود عرفوه بضخامة بنيته وصلابة جسده: قد أنهكه التعذيب فأضحى أقرب إلى الهيكل العظمي، ورغم أن جسده قد خار وقواه قد انطفأت إلا أنه ردد بنفس أبية لمن أراد أن يسعفه: “انقل عنّي وقل للناس أن هؤلاء الكلاب، لم يحصلوا مني على كلمةٍ واحدةٍ تُشفى بها صدورهم”. فيا لثبات هذا الرجل…!

تعذيب في الاعتقال

ومع استمرار ليالي التعذيب الطويل وأيامه، ساءت حالة مروان الصحية إلى درجة يئست السلطة المعتدية منه فأرادت أن تُخفي جريمتها في مستشفى حرستا العسكري، حيث نقل واستدعي أخاه الدبلوماسي كنعان بأوامر من حافظ الأسد، ليقنع الناس أن مروان ضحية إضرابه عن الطعام، لا تعرضه لأبشع أنواع التعذيب والقهر، وعن أي طعام يتحدثون وقد كان يقدم بقلة وهو ملوث بالبول والغائط وما لا تقوى حتى الحيوانات على أكله، فكانت نفسه تعافه وتصده عن أكله، ولكن الداعية المجاهد حين رأى من أخيه كنعان إصرارًا على تناول الطعام وعلم عنه ما علم من تضييعه لفروض دينه وسبيل نجاته، تنبه بقلب مشفق على أخيه أكثر من إشفاقه على نفسه، فمصيبة خسارة الدين أعظم من مصيبة الجوع أو الفقر والعوز، فقال لأخيه:

سآكل بشرطين لا ثالث لهما: أما الأول فأن يكون الماء من حماه وأما الثاني فأن تعدني أن تصلي.

فقبل  كنعان الشرط: الأكل مقابل القيام بفرض الصلاة، وأكل مروان وشرب ماء حماة، وصلى كنعان موفيا بالعهد!

وكل كسر فإن الدين يجبرهوما لكسر قناة الدين جبران

وفاته

وما إن بدأت صحة مروان تتحسن، وما أن استرجع القدرة على الحديث مع أهله حتى فجعوا فيه في مساء أحد الأيام حين عثروا عليه ينازع الموت وهو يشير لهم بإصبعه إلى رقبته، ليكتشفوا الحقيقة المؤلمة وطبيعة البشر المجرمين، لقد أعطي مروان حقنة في عنقه تسببت في حالة هبوط مفاجئ في الضغط، وبدأت روحه تنسل من جسده المثخن بجروح التعذيب ومعارك الحياة، متخلصة من أثقال دنيا لطالما كابدت فيها الصعاب لتنصر الحق وتبطل الباطل وتبلغ الأمانة وتدعو إلى الله، وارتقت روحه في  سجن المزّة العسكري سيئ السمعة، وذلك في شهر حزيران من عام.. 1976. وحملت جثة مروان الشهيد، الذي كان قبل اعتقاله ذو بنية جسدية ضخمة يصل طوله 190 سم ووزنه 110 كغ، ولكن بجثة مختلفة، تتعدى 35 كغ فقط! وصدق الله حين قال (لا يرقبون في مؤمن إلا ولا ذمة).

وحتى ندرك كيف يؤثر الرجل الراسخ الإيمان في عدوه، فحتى بعد موته، لم يُسمح لأهله بدفنه في حماة، ودُفِنَ في دمشق في مقبرة الباب الصغير، ثم ورغم أنه كان ميتًا، تم الدفن تحت حراسة الأمن المشددة وليته انتهى معه ذلك الرعب الذي خيّم على قلوب الظلمة، بل استمرت الحراسة، حتى على قبره شهورًا يعتقلون كل من يزور القبر.

لطالما ردد مروان مقولة بلال رضي الله عنه: (غدًا نلقى الأحبة، محمدًا وصحبه) ونحسبه كان في شوق لها بعد هذا الطريق الشاق وهذه الأمانة الثقيلة.

أبرز نجاحاته

ولعل من أبرز نجاحات مروان التي حققها، فضلًا  عن تاريخه الدعوي والتعليمي والتحريضي للأمة، كان نجاح الحركة الجهادية إبان حياته نجاحًا عظيمًا، فقد كانت تتميز بالقبول والتنظيم ووضوح الرؤية وثبات المبادئ والاعتزاز بالإسلام واستحقار الطغاة وحب الموت في سبيل الله.

ورغم أنها تراجعت بعد موته رحمه الله، ربما للأخطاء العسكرية التي وقع فيها مَن بعده أو للتحديات التي مرت بها، إلا أن زرعه كان قدوة يقتدى به، ومثالًا ناجحًا يعكس نجاح سبيل الدعوة الذي يغذي جذوة الهداية، ويمهد للصحوة ويبسط الطريق مخضرًا للأمة حتى ترتقي لمراتب الحرية والعزة وإن تضرج بالدماء، يكشف كيد العدو الضعيف، وهوان الطغاة أمام رجالات الحق!

إيمان وثبات على الحق

قصة مروان جمعت خليطًا من المعاني والحكم، لخصت لنا كيف صنع الإيمان من مسلم واحد، حين حمل همّ هذا الدين وواجه أعتى الطغاة، لم تأخذه في ذلك لومة لائم، ثم تظهر لنا كيف يكون الطريق الصحيح حين تزود بالعلم والدعوة لمرحلة الإعداد والعمل الجهادي، فكان أن برع في تأسيس قوة في قلب الأمة المستضعف، أحيت الأمل من جديد، وأما ثباته إلى آخر رمق، فكان دلالة على مدى تجذر ذلك الإيمان بقضيته، ولا يعكس ذلك إلا صدقًا لامسه أهل الشام تجلت آثاره على تاريخهم وحاضرهم ومستقبلهم، لا زال يذكر معه اسم مروان حديد، حتى في آخر المعارك التي تدور رحاها اليوم على أرض سوريا المباركة، فقد استجاب أبناءها لنداء مروان الذي أطلقه في سماء الشام ومن خلف زنازين الظلم منذ الستينات، وفقهوا أخيرًا أن خلع النظام النصيري واجب وفرض، وأن الإعداد الجهادي والقوة هي أفضل طريقة للخلاص من المجرم، وإن سالت دماء فلن تكون أغلى من دماء المسلمين الذين قتلوا عدوانًا وظلمًا.

رحل مروان بعد أن خط على جدار الزمن أناشيد رائعة لا زال دفعات المجاهدين التي تتخرج في كل حين من معسكرات سوريا اليوم تردد بعض أبياتها على ألسنة جنودها، فمن ينسى (يا راحلين عن الحياة وساكنين بأضلعي) ومن ينسى (هل تسمعون توجعي وتنهد الدنيا معي؟!) ومن ذا ينسى (لا تحزنوا يا إخوتي إني شهيدُ المحنةِ)، فسلام على روحك في الخالدين، يا شهيد المحنة مروان حديد.

د. ليلى حمدان

كاتبة وباحثة في قضايا الفكر الإسلامي، شغوفة بالإعلام وصناعة الوعي.

مقالات ذات صلة

تعليق واحد

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى