عبقرية مروان حديد تمتد أغصانها لحاضر الشام

ثقيلة هي الكلمات التي ستُخط لتلخص تاريخًا ماجدًا زاخرًا بالتضحيات، وأنّى لتلك الكلمات أن توفي عبقرية فذّة حملها قلبٌ مسلم واحد، لقن الأجيال كيف تكون عزة الإسلام، وكيف تنصر المبادئ؟! وكيف يقهر الطغاة؟! مروان حديد اسم ارتبط بالبطولة والفداء، بالشجاعة والإباء، بالعلم والدعوة والجهاد، سليل عائلة شامية عريقة، عُرفت بتجارتها ومشاريعها العريضة، وفي ذات الوقت بالتواضع والزهد.

في حماة مولده

أبصرت عينا مروان النور لأول مرة في حماة عام 1934 ونشأ وترعرع على أرضها، حيث نهل العلم من المستوى الابتدائي إلى الثانوي في مدارسها ليتوج رحلة طلبه بالنجاح في الثانوية العامة الفرع العلمي عام 1955، التحق بعدها بكلية الزراعة في جامعة عين شمس عام 1956 في مصر وتخرج منها في عام 1964، بعد أن قضى فيها ثماني سنوات طوال تراوحت بين الدراسة والاعتقال في معاقل الاستخبارات المصرية. لكنها لم تثن همته عن تحصيل العلم والالتحاق مرة أخرى بكلية الآداب جامعة دمشق قسم الفلسفة ليحصل شهادة البكالوريوس عام 1970. كان مروان صاحب همة ونشاط، يكد في كل المجالات، حتى أنه قبل التزامه الحقيقي تولى منصب مسؤول مالي عن التنظيم الاشتراكي بالثانوية قبل التحاقه بالجامعة.

نقطة التحول

شكّل مقتل الشيخ حسن البنا في مصر نقطة التحول الكبرى في مسار حياة مروان حديد، دفعته بقوة للجنوح إلى البحث والتنقيب في فكر هذا الرجل الذي أرّق نوم أعداء الدين، لينضم بعدها لتيار الإخوان المسلمين ويصبح أكثر تمسكًا بالإسلام وتعاليمه والدعوة إليه.

وما لبث أن لمع نجم مروان مع جماعة الإخوان المسلمين، من جهةٍ لشدة عطاءه وبذله في مجال الدعوة للإسلام، ومن جهة أخرى لاشتداد صلابته بعد خبرته المتمرسة مع رجالات المباحث في مصر.

التقى مروان بسيد قطب واتفق معه في فكره وأهدافه، كما كان يشترك معهم في ذلك زملاءهم في نفس الجماعة، لكن هذا الفكر كلفهم ثمنًا باهظًا، فقد تعرضوا لحملات الاضطهاد والقمع في عصر الرئيس المصري جمال عبد الناصر، مما دفع بمروان لإعلان العداء له كونه استعمل على مصر يدًا من حديد وتحديدًا مع دعاة الإسلام، ويبدو أن تجربة مروان في مصر صقلت مواهبه وقدراته على مواجهة الصعاب، والتعامل مع السلطة الحاكمة المستبدة وأجهزتها الاستخباراتية الطاغية فكان لها الأثر لاحقًا في مسيرته.

قوة شخصيته وصدعه بالحق

اشتهر بقوة شخصيته وثباته على المبادئ والصدع بصوت عال دون أدنى خوف، ويذكر أنه وجه رسالة لمؤتمر قمة رؤساء الدول العربية الذي انعقد آنذاك في مصر، كتب فيها بكل وضوح واختصار إلى عبد الناصر وإلى كل المؤتمرين “يجب أن تحكموا بالإسلام” ولم يكتف بذلك بل أضاف على الرسالة اسمه وعنوانه في تحد واضح، أدركت خطره أجهزة الاستخبارات المصرية، فوضعته تحت المراقبة الدائمة. وهذا يعكس مدى تجذر قناعات مروان حديد في قلبه وكيف فقه حقيقة لا تأخذ المسلم في الله لومة لائم، وأن العاقبة دومًا للمتقين.

في الشام

على الضفة الأخرى، الأحداث في سوريا لم تكن بعيدة عن هذا الاحتقان، والذي ازدادت أعراضه بعد انقلاب 1963، حين تربع حزب البعث على عرش السلطة وبدأ يغرز مخالبه في جسد الشام ليحكم قبضته بلباس التقية.

تقية لم تكن لتخفى على مروان حديد الذي كان يتابع تفاصيل الوضع في سوريا بانتظام ويسافر لها كل عطلة صيفية، مما دفعه بقوة للتحذير من هذا النظام الجديد بلسانه الملهم وحسه المرهف وصدقه في التبيان والإفهام فكان نعم الداعية والنذير.

لقد استشعر مروان خطر هذا النظام، وأبصر من بعيد مستقبل أهل السنة في المنطقة برمتها، وكان مركز نشاطه في بيته ومسجده في حيّ البارودية، وانتشرت محاضراته الواعية ودروسه المحرضة، تنساب بالحكم والدرر التي اكتنزها مروان خلال مسيرته الدعوية وخبراته الميدانية، تفضح مكرًا دبر بليل، تحيكه النوايا البعثية الطائفية، وتنفذه أيادي آثمة لم تعرف لربها قدرًا، فوجد خير استجابة من شباب الشام، والتهب الحماس واستقام بشجاعة وإباء، وهانت في أعينهم مواجهة الموت أو أنواع اللئام.

اعتقاله من قبل النصيرية

هذا الصدع بالحق أدى كعادة الطغاة إلى اعتقال مروان حديد من قبل قوات النظام البعثي النصيري الذي أدرك بدوره مدى تأثير مروان في عمق الشعب السوري، فأعلن محاكمته بطريقة علنية، يقاضيه فيها مصطفى طلاس وصلاح جديد، من كبار رجالات النظام في ذلك الوقت، أولهما محسوب على أهل السنة والثاني على النصيرية ولكنهما متفقان في الإثم.

ثبات في المحكمة

ومن أبرز المواقف التي سجلها التاريخ لقوة شخصية مروان ودرجة استهانته بأعدائه، وبصيرته بحقيقة الانتصار على الظالم، ما دار بينه وبين القاضي صلاح جديد حين سأله: لماذا حملتم السلاح وتمردتم على الدولة؟ فكان جواب مروان يشع بيقين تام بعدالة قضيته:

هنالك كلب نصيري اسمه صلاح جديد وكلب منسوب لأهل السنة اسمه مصطفى طلاس، يريدون أن يذبحوا الإسلام في هذا البلد ونحن نرفض ونحارب أن يمسح الإسلام ونحن أحياء!

فاغتاظ القاضي ورد بغضب: “أنت عميل”. فرد مروان بإباء: عميل لله عز وجل، أما العميل فهو رئيس حزبكم ميشيل عفلق الذي قبض تسعة وسبعين ألف جنيه من عبد الناصر”. قال القاضي: “أنت مأجور؟”، فرد مروان بعبارة جامعة لامعة: “أنا مأجور من الله”.

ثم ختم قوله: فَإِنْ تَوَلَّوْا فَقُلْ حَسْبِيَ اللَّهُ لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَهُوَ رَبُّ الْعَرْشِ الْعَظِيمِ.

الإعدام مصير من يقول الحق

بعدها نطق طلاس بالحكم قائلا: إن المحكمة “حكمت عليك بالإعدام شنقا حتى الموت”، فرد عليه مروان بلا تردد ولا وجل:

والله يا مسكين لو عرفتُ أن بيدك الموت والحياة لعبدتك من دون الله

كلمات صارمة فجرت قاعة المحكمة بالتصفيق الحاد وأمواج الصراخ والسخرية من المحكمة والاستهزاء، فقطعت الكهرباء وتم إيقاف البث الإذاعي المباشر. وحكموا عليه بالإعدام هكذا بلا خجل!

كلفت مروان هذه الكلمات الجريئة وهذا الموقف الذي لا يُبارى، الحكم بالإعدام مع مجموعة من رفاقه، واقتيدوا إلى السجن وهم يبتسمون بسعادة أذهلت الحضور وألهمتم، وجوههم تعلوها البهجة كأنهم حازوا المطلوب، وحين سألوا عن سر هذا الرد السعيد، قالوا: إنها الجنة.

مروان يصف فترة سجنه

ما عشت أياما في حياتي ألذ على قلبي وأطيب على نفسي من تلك الأيام التي كنت أنتظر فيها أنا والشباب تنفيذ حكم الإعدام. وظل مروان وصحبه يرددون: الروح ستشرق من غدها وستلقى الله بموعدها، وكأنهم يبصرون من خلف هذا الظلام نور الخلود ومنتهى الإيمان.

لم تنته قصة مروان هنا

بل كتب الله له قدرًا لم يكن في الحسبان..

فقد توجه شيخ من مشايخ حماة وهو الشيخ محمد الحامد إلى رئيس الحكومة آنذاك أمين الحافظ الحموي، وحذره من عواقب قتل مروان، ومن ردة فعل أهل حماة، فأقنعه بإصدار حكم بالعفو عنه، وقد كان الأقسى على مروان فحين فكّ قيده وأخرج من السجن، قال للشخ محمد بدل أن يشكره على منحه حريته:

سامحك الله حرمتنا من الجنة

وما كان لمثل هذا الأشم إلا مواصلة المسير ليقود انقلاب 1966 ويعتقل مرة أخرى على أيدي النصيريين مع جمع كبير من العلماء والشباب في سوريا لكن أفرج عنهم أثناء حرب 67.

وقد كان لسنة 67 تأثيرًا كبيرًا في مروان حديد، خاصة بعد تسليم الجولان الحصين، مما دفعه بعد الهزيمة إلى النشاط الجهادي ضد إسرائيل، فالتف لتحريضه الكثير من الشباب وانتهز الفرصة في الإعداد على القتال وحمل السلاح، ليؤسس في فترة قصيرة نواة العمل العسكري ضد النظام النصيري في سوريا في أروع مستويات التنظيم والإعداد والقيادة الراشدة، فقد اجتمعت الأسباب كلها لنجاح هذا البناء، وكفى بقيادة مروان سببًا.

يتبع ..

د. ليلى حمدان

كاتبة وباحثة في قضايا الفكر الإسلامي، شغوفة بالإعلام وصناعة الوعي.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى