الليبرالية.. مفاهيم لم نعرفها بشكلها الصحيح

منذ بدء الخليقة، ونجد أن الله قد فطر الإنسان على حب الانفراد والاعتداد بالقول والفعل وأن يُترك دون أمرٍ أو نهي، وهو ما نسيمه في زماننا هذا «الحرية». ومن ينظر لهذه الفطرة ويتمعن جيدًا ما أتى به الشرع، يجد أن الدين الإسلامي يضبط هذه الفطرة ولا يحرمها أو ينكرها! [1]

في الواقع، يُفرّق الشرع بين حركة أو فعلٍ ما نتيجة تجربة وبين آخرٍ ينتج عن هوى الإنسان؛ كل أمر لا يتوفر لديه تجربة مادية عملية واقعية تتكفل الشريعة بوضع الحد النهائي لها لحماية البشر من أهواء البشر، أما العلم المادي أو النشاط التجريبي المعملي وغير من أمور استنباط الوجود المادي، فهو أمر تركه الحق سبحانه وتعالى لنشاطات العقول وطموحات النفس الإنسانية.

ولكن، في وضعنا الراهن وفي ظل ما تعاني منه الأمة الإسلامية من وهن وضعف وتحكُم الغرب، انتقلت إليها بعض المذاهب والأفكار التي تنطلق من فلسفات مادية إلحادية تحكمها هوى الإنسان متخفية تحت شعارات مثل الحرية، المساواة، التقدم، الإصلاح، حقوق الإنسان،… وغيرها.

من أشهر تلك المذاهب وأكثرها تأثيرًا على العقل العربي «الليبرالية» وهي موضوع حديثنا اليوم.

مفهوم الليبرالية

بدايةً، لم يتفق مفكرو الليبرالية والداعون لها على تعريفٍ يُحدد معناها بوضُوح، لكنهم اتفقوا على وصفها بـ (الحرية المطلقة)، يقول دونالد سترومبرج:

إنَّ كلمة الليبرالية مصطلحٌ عريض وغامض، ولا يزال إلى يومنا هذا على حالةٍ من الغموض والإبهام. [2]

في الواقع، إذا تأملنا الليبرالية سنجدها فكرةٌ لم تكن من صنع عَقلٍ بشري واحد، ولا وليدةَ بيئةٍ ثقَافيةٍ أو ظروفٍ زمَنيةٍ واحدة، فقد تعددت تعريفاتها بعد أن استقرت فلسفةً فكرية غربية وضعية، تنزع إلى المادية والفردية والتحرر من كل قيدٍ أو ثابت، إلا ثابت عدم الثَّبات.[3]

الليبرالية -في الأصل- مصطلحٌ أجنبيٌّ مأخوذ من “Liberalism” وهي تعني: (التحررية) ومعناها الحرية. قد جاء في موسوعة (لالاند) الفلسفية تعريف الليبرالية بأنها: «الانفلات المطلق بالترفع فوق كل طبيعة».

حينما بحث العلماء في الجذور التاريخية للليبرالية، فإنهم لم يتمكنوا من معرفة الشرارة الأولى لذلك المذهب. كل ما توصلوا إليه أنه ظهر كردة فعل لمظالم الكنيسة والإقطاع في العالم الغربي، كما أنه كان السبب الرئيسي في الثورات الغربية الكبرى: (الانجليزية، الأمريكية، والفرنسية).

تعترض الليبرالية -بشكل عام- على تدخل الدين في الأمور الشخصية للفرد، وهي بهذا تقترب من «العلمانية» بشكل كبير. وبذلك نجد أنها انكفاءٌ على النفس مع انفتاحٌ على الهوى؛ فلا يكون الإنسان تابعًا إلا لنفسه، ولا أسيرًا إلا لهواه.

الأصول الفكرية لليبرالية

يقوم المذهب الليبرالي على أسس وأصول تُعد الأجزاء المكونة له، فهي بمثابة الطابع الفكري المميز لجميع اتجاهاتها وتياراتها، ولا يمكنك –من المفترض- أن تجد فردًا يدّعي أنه من أتباع ذلك المذهب ولا يقر بهذه الأسس ويؤمن بها.

تُعد الليبرالية مذهب مُركب تركيبًا تامًا من «الحرية، الفردية، العقلانية» ولكن هذه الأسس في الحقيقة تكون مكونة لها في المجمل؛ فقد نرى تعدد في تصورات الليبراليين في تفصيل تلك الأسس الفكرية، وتطبيقها في شتى المجالات: السياسية والاقتصادية والاجتماعية.

1- الفردية

دائمًا ما يُنظر إلى الفردية على أنها المدخل الأساسي لمذهب الليبرالية، وكيف لا يكون ذلك! فما كانت الليبرالية لتظهر على ساحة الفكر الإنساني ما لم تكن الفردية قد أكدت خصوصيتها وسماتها المميزة.[4]

ارتبطت الفردية بالحرية ارتباطًا وثيقًا، فأصبحت الفردية تعني استقلال الفرد وحريته. يقوم المذهب الفردي أساسًا على تقديس كيان الفرد؛ فهو يحرم على المجتمع المساس بحرية الفرد، ويجعل المرء مسؤولًا هو من يهتم بنفسه، ويحافظ على استقلاليته وذاتيته وكيانه.

يحمل مصطلح الفردية بين طياته مفهومين مختلفين:

  • المفهوم التقليدي:

هو ما غلب على الفكر الغربي منذ عصر النهضة وإلى القرن العشرين، ودخل في جميع جوانب الحياة (السياسية، الاقتصادية، والأخلاقية). وفيه الفردية يُقصد بها الأنانية وحب الذات، وهو أن يسعى الإنسان جاهدًا لتحقيق كل رغباته الطبيعية.

طبقًا لهذا المفهوم، البشر لا يجب أن يعتمدوا إلا على أنفسهم في تحقيق مصائرهم، فالدولة مهمتها محدودة للغاية، أما الدين فيتم تجاهله!

الأمر أشبه وكأنك تترك البشر كلًا مسخر لتلبيه أهوائه الذاتية، دون النظر لأي قوانين أو شرائع تحكم سلوكهم!

  • المفهوم الحديث:

وهي تُعني باستقلال الفرد بذاته من خلال العمل المتواصل والاعتماد على النفس، فتدعو الفرد التحرر من قيود العالم الطبيعي، بل والتعالي عليه واستشعار القدرة على فعل أي شيء. وعليه نجد أنها تربط القيم الفكرية بالعمل وتعتبره هو الأخلاق الفاضلة، لتوضيح ذلك المبدء: حينما ننظر لليبرالية نجدها تقدّس «الرأسمالية» كقيمة عليا، باعتبارها اتجاه ناجح من الناحية العملية.

إشكالية مفهوم الفردية

كما علمنا سابقًا أن جميع فلاسفة ومفكري الليبرالية يتخذون من النزعة الفردية المكوّن الأساسي للحرية التي ينادون بها، وهنا تتجلى لنا الإشكالية الحقيقية هو أنه مبدأ الفردية في ذاته يمتلك عدة أنماط متباينة ويحمل بين طياته عدة وجهات نظر قد تتعارض مع بعضها في كثير من الأوقات.

فليست ثمّة نمط فردي مميز يمكن أن يمثل طابع للليبرالية.

صحيح أنّ جميعها تتمحور حول الفرد، ولكن أي فرد نقصد؟! الفرد في صورته المجردة، أم أنه ككيان مستقل ذاتيًا! أي هل نقصد بالفردية، الفرد (الخاص) مقابل الجماعة (العامة)، أم نقصد بالفرد كمرادف للأنا! أم نقصد الفرد كجزء قائم في المجتمع له كامل الحق في الحياة والملكية الفردية وحقوقه السياسية والاقتصادية. وأخيرًا هل الفرد كعامل أخلاقي أمر نسبي أم مُطلق!

2- الحرية

كما نعرف، الليبرالية مذهب سياسي واقتصادي يسعى إلى تحقيق الحرية الإجتماعية، لذا تُعد الحرية المدنية جُلّ اهتمامها ومبلغ رسالتها، فهي تُقنن العلاقة بين الفرد والدولة، وعلاقة الفرد بالآخرين.

الفكر الليبرالي يُقرّ أن الفرد حر في أفعاله، ومستقلّ في تصرفاته دون أي تدخل من الدولة أو غيرها، فوظيفة الدولة حماية هذه الحرية، وتوسيعها، وتعزيز الحقوق، واستقلال السلطات، وأن يعطى الأفراد أكبر قدر من الضمانات في مواجهة التعسف والظلم الاجتماعي.[5]

الفكر الليبرالي يصب جُلّ اهتمامه على الحرية الفردية، متغاضيًا عن الحرية الاجتماعية، بعكس الديمقراطية التي تهتم -طبقًا لتعريفاتها- بحرية الأغلبية.

إشكالية مبدأ الحرية

تكمن الإشكالية هنا في صعوبة فهم حقيقة مفهوم الحرية في الفكر الليبرالي، وبالتالي يصعب علينا تحديد وضبط مبدأ الحرية؛ فهل الحرية مفهوم خاص بالفرد، أم أنها شأن خاص بالدولة.

ونتيجة لهذا الغموض الذي يكتنف مفهوم الحرية التي تتخذها الليبرالية ركيزة لها، خرج من رحم هذا المذهب أفكار تخالف الليبرالية نفسها مثل ( الشيوعية، الفاشية، النازية) بالطبع، كلًا من هذه المذاهب تنادي بالحرية، وتدعي أنها الممثل الشرعي لها!

3- العقلانية

حقيقةً تشترك الليبرالية مع غيرها من المذاهب الفكرية الغربية في هذا المفهوم، فكل المذاهب التي ظهرت في أوروبا في العصر الحديث خرجت من الفكر العقلاني الذي ينادي باستقلال العقل في إدراك المصالح الإنسانية في كل أمر دون الحاجة إلى الدين.

ما لا يمكن إغفاله الآن أنه من أبرز سمات الفكر الليبرالي المعاصر اعتمادهم على العقل المجرد وإقصاء الدين والقيم والأخلاق. بالطبع، لم يكن الأمر وليد اللحظة، بل جاء الاعتماد على العقل وتحييد الدين بصورة متدرجة، كنتيجة للسلطة اللاهوتية الطاغية في الغرب.

الليبرالية على مر التاريخ

بدأت الليبرالية -الكلاسيكية- في عصر النهضة الأوروبية ومن ثمّ تطورت في عصر التنوير لتصل إلى أوج انتشارها في القرن التاسع عشر الميلادي.

في بداية القرن العشرين، تراجعت الليبرالية مرةً أخري بعد ظهور المساوئ الاجتماعية والأزمات المتعددة من جرّاء الاعتماد عليها، والتي من أبرزها أزمة الكساد العظيم وما نتجت عنه من انتشار البطالة. ولكنها ما لبثت أن بدأت مرحلة جديدة بعد سقوط الشيوعية وتفكك الاتحاد السوفيتي «النيوليبرالية».

خلال رحلة الليبرالية منذ البداية، ظهرت عدة اتجاهات تعكس التطور الفكري الذي مرت به:

  •  الليبرالية الكلاسيكية

يُمثل هذا الاتجاه النموذج الأقدم للفكر الليبرالي، والذي يعتمد بدوره على الحرية الفردية، ومنع تدخل الدولة سواء في الاقتصاد أو غيره. يعتقد الكلاسيكيون أن ترك الفرد يحقق مصلحته الذاتية الخاصة كفيل بتحقيق الاتزان للمجتمع بشكل طبيعي دون تدخل السلطة للتنظيم.[6]

  •  الليبرالية الاجتماعية

يُعد هذا الاتجاه صورة من صور تنازل الليبرالية عن تطبيق منهجها الصارم المتمثل في الكلاسيكية وترك المجتمع لحرية الأفراد دون تدخل الدولة.

  • الليبرالية البراجماتية

ظهر هذا الاتجاه جليًا في (الليبرالية الأمريكية)، وقد بدأ في الانتشار بعد الثورة الصناعية، وهو يُمثل الاعتماد على النتائج العملية في النظرة للحياة (البراجماتية) ومنه ظهرت النظرة الأمريكية الجديدة التي تركز على فردية الإنسان ونفعيته بصورة عملية مستقبلية.

  • الليبرالية الجديدة (النيوليبرالية)

يُمثل هذا الاتجاه آخر ما وصلت إليه الليبرالية في وقتنا الحالي، ومن أبرز أفكاره  (حرية الفكر المطلق، حرية التدين المطلق، حرية المرأة ومساواتها في الحقوق والواجبات مع الرجل، الديمقراطية والتعددية السياسية، فصل الدين عن الدولة -العلمانية- إخضاع المقدس من الدين والشريعة إلى النقد العلمي)[7].

موقف الإسلام من الليبرالية

من خلال ما تم استعراضه فيما سبق من مفاهيم واتجاهات للفكر الليبرالي، يظهر لنا جليًا أن ذلك المذهب يتعارض مع الأديان بأجمعها، وهو لا ينفك أن يُنفي ارتباطه بها، بل ويراها جميعًا شرائع تُقيّد حياة الإنسان وتُحجّم حريته وفكره.

وبالعودة إلى الشريعة الإسلامية، نجدها تنافي تمامًا ما جاء به الفكر الليبرالي المادي، وتناقض مبادئه المطاطية مثل الفردية والحرية المطلقة. ومن هنا، يمكننا القول صراحةً أن الليبرالية دعوة إلى الإلحاد ورفض الأديان.

يقول فضيلة الشيخ “صالح بن فوزان”: إن المسلم هو المستسلم لله بالتوحيد، المنقاد له بالطاعة، البريء من الشرك وأهله. فالذي يريد الحرية التي لا ضابط لها إلا القانون الوضعي؛ هذا متمرد على شرع الله، يريد حكم الجاهلية، وحكم الطاغوت، فلا يكون مسلمًا.

والذي يُنكر ما علم من الدين بالضرورة؛ من الفرق بين المسلم والكافر، ويريد الحرية التي لا تخضع لقيود الشريعة، ويُنكر الأحكام الشرعية من الأحكام الشرعية الخاصة بالمرأة، والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، ومشروعية الجهاد في سبيل الله، هذا قد ارتكب عدة نواقض من نواقض الإسلام. والذي يقول إنه (مسلم ليبرالي) متناقض إذا أريد بالليبرالية ما ذُكر، فعليه أن يتوب إلى الله من هذه الأفكار ليكون مسلمًا حقًا.

الحكم بغير ما أنزل الله

مما لا شك فيه، أنه من نصّب نفسه مشرّعًا من دون الله تعالى -الأمر الذي تدعو إليه الليبرالية- فقد نازع الله في ربوبيته كما قال تعالى:

اتَّخَذُواْ أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَانَهُمْ أَرْبَابًا مِّن دُونِ اللّهِ وَالْمَسِيحَ ابْنَ مَرْيَمَ وَمَا أُمِرُواْ إِلاَّ لِيَعْبُدُواْ إِلَهًا وَاحِدًا لاَّ إِلَهَ إِلاَّ هُوَ سُبْحَانَهُ عَمَّا يُشْرِكُونَ [ التوبة:31].

قد أوجب الله تعالى الحكم بشريعته، وجعله من العبادة فقال تعالى: «إِنِ الْحُكْمُ إِلاَّ لِلّهِ أَمَرَ أَلاَّ تَعْبُدُواْ إِلاَّ إِيَّاهُ» [ يوسف:40]، وقال: «إِنِ الْحُكْمُ إِلاَّ لِلّهِ يَقُصُّ الْحَقَّ وَهُوَ خَيْرُ الْفَاصِلِينَ [الأنعام: 57] بل بيّن الله خطورة الإعراض عن الحكم بالشريعة فقال تعالى: وَمَن لَّمْ يَحْكُم بِمَا أَنزَلَ اللّهُ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الْكَافِرُونَ» [ المائدة:44].

ولا ريب أن المذهب الليبرالي يدعو للحكم بغير ما أنزل الله، بل أنه لا يعترف بأحقية حكم الله المطلق لعباده، وحتمية اتّباع شريعته، وضرورة العدول إليها في شتى أمور حياتنا الدنيوية. بل يرى أن الإنسان بكل ما أُوتي من علمٍ وحكمةٍ كافي لتولي شؤون دنياه. وأن العقل الإنساني ليس بحاجة إلى الولوج لجهة إلهية لإصدار التشريعات التي تحكمه، فهو يدرك جيدًا ما يُصلح له وما لا يُصلح.

باختصار، ترى الليبرالية أن الأديان لا تتخطى العلاقة الروحية بين العبد وربه، والتي لا تتعدى بدورها دور العبادة. وهو الأمر الذي يُنافي تمامًا شريعتنا الإسلامية.

وكما ذكرنا سابقًا في بداية المقال، أن الدين الإسلامي لا يُنكر فطرة الإنسان على الفردية والتحرر من القيود، ولكنه منحنا الشريعة لضبط هذه الفطرة وحكمها، فلا تترك الأمور تسير كلها طبقًا لأهواء البشر!

وفي نهاية المطاف، من المهم أن نعترف بأنه أي محاولة للتوفيق بين الليبرالية والإسلام -كما يزعُم بعض المفكرين العرب- هي تغيير لمبادئ ومفاهيم أيًا منهما، مما يُعد تحريف لمعانيها، وتكوين صورة مشوّه لا تمت لحقيقة أي منهما بصلة!

فكيف يمكننا الجمع بين منهج الإسلام الرباني، ومنهج الليبرالية الرافض لقيود الدين المعتمد على العقلانية المنكرة للوحي، والمادية المضادة للقيم والأخلاق!

المصادر

1.محاضرة: الليبرالية الفكر المعقد | الشيخ عبد العزيز الطريفي.

2.كتاب: حقيقة الليبرالية | د/ سليمان الخراشي.

3.كتاب: (معركة الثوابت بين الإسلام والليبرالية) ص 32.

4.كتاب: أصول الليبرالية وموقف الإسلام منها.

5.كتاب: الطريق إلى العبودية.

6.كتاب: حقيقة الليبرالية وموقف الإسلام منها.

7.مقال: من هم الليبراليون الجدد | شاكر النابلسي.

منّة حمدي

مدونة عربية، تسعى لأن تكون ممن يستحقون حقًا لقب خليفة

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى