من دروس نكبة فلسطين: حرية الشرق في مفهوم الغرب-الجزء الثاني

رأينا في الجزء الأول كيف أن الغرب يستطيعون إلباس العبودية ثوب الحرية، وكيف ارتكب اليهود المجازر في حق العرب بمساعدة الغرب ومثقفيه-كما يدعون-وأن الهدف ليس فقط فلسطين بل هو إبادة جماعية للعرب والمسلمين، ورأينا معًا إلى أين وصلنا نتيجة خيانة الحكام العرب.

بعذر أو دون عذر، بلادنا من حقوق الغرب

وبالعودة إلى فرنسا فإنه رغم بعد الشقة بينها وبين سوريا لم يكن هناك بعد الحرب الكبرى الأولى ما يمنع من اختلاق ارتباطات تاريخية واهية تذكرنا بارتباطات الصهاينة التي لم يكن الدافع إلى تحقيقها غير المصالح الاستعمارية تمامًا كما في الحالة الفرنسية وفي حالة “الحقوق” التاريخية الإيطالية في ليبيا والتي تعود إلى أيام الإمبراطورية الرومانية، ولكن في أماكن أخرى كالجزائر مثلًا لم يمنع افتقاد هذه الأبعاد التاريخية، والتي سيجري اختلاقها في زمن قادم بروية من أحافير الوندال، والسلتيين، من اختلاق حجج فورية عند اللزوم وإن كانت أوهى من بيت العنكبوت.

كضربة من مروحة الداي حسين باشا (1827) والتي ألحقت إهانة لا تغتفر بالشرف الفرنسي، فرد الفرنسيون على ضربة الريش هذه بحرب صليبية ضروس ضمت الجزائر إلى البر الفرنسي أكثر من 130 عامًا، وقد ضمت فرنسا الجزائر الأرض دون الجزائر الشعب الذي لم ينله من الضم سوى المعاناة التي حصدت مليونًا ونصف المليون شهيد في سنوات ثورة التحرير فقط، أما العدد الإجمالي فزاد عن سبعة ملايين من الضحايا في مجمل سنوات الاحتلال. وظل مستثنى من الدخول في الجنة التي صنعها المستعمِرون لأنفسهم على أرضه ليتمتع بها الأوروبي وحده، حتى لو لم يكن فرنسيًا ، دون صاحب الأرض.

Unknown, Algiers, Algeria --- The French army verifies the identity of Algerian citizens in the streets of Algiers during the War of Independence. --- Image by © Archives Barrat-Bartoll/Corbis

في مثال صارخ للرغبة في تحرير الأرض من سكانها لصالح الأغراب عنها: يشير المؤرخ الاقتصادي شارل عيساوي إلى أنه

في سنة 1912 كان خُمس المستوطنين الأوروبيين في الجزائر من الفرنسيين في الوقت الذي كان فيه أربعة أخماسهم من إسبانيا وإيطاليا ومالطا وبقية السواحل الأوروبية المتوسطية

وهو ما يذكرنا بتساهل الكيان الصهيوني في توثيق الهوية اليهودية للمستوطنين الأغراب الذين يجلبهم من خارج فلسطين، أو لتهويد شعوب بعيدة في سبيل ملء فراغه السكاني وحل مشكلته الاستيطانية) وهو ما لم تستطع محاولات الترقيع الإنسانية التخفيف من غلوائه حتى ولو بضم أعداد رمزية من الجزائريين إلى المواطنة الفرنسية مقابل تأبيد الاحتلال الفرنسي كما جاء في قانون بلوم فيوليت زمن حكم الجبهة الشعبية اليساري (1936-1937) .

لحظات الاعتراف وكشف الحساب

وكانت هذه هي نفس السياسة الاستئثارية المغلفة بدعاوى الحرية التي تعامل بها الحلفاء معنا لحظة انتصارهم في الحرب الكبرى الأولى التي خاضوها في الميدان الشرقي بزعمهم بهدف وحيد هو: “التحرير التام والنهائي للشعوب التي طال ظلم الأتراك لها، وإقامة حكومات قومية وإدارات قومية تستمد سلطتها من الإرادة المستقلة والاختيار الحر يعبر عنه السكان الأصليون”كما جاء في تصريح بريطاني-فرنسي مشترك في 7/11/1918.

ورغم الوعد الصريح بالاعتراف بالحكومات القومية “بمجرد تأليفها” فإن الفرنسيين والبريطانيين لم يفوا بوعدهم وساروا خلف مصالحهم الأنانية، وبهذه المفارقة أقر مستشار الرئيس الأمريكي ويلسون في سنة 1919 بعد رفض الأوروبيين تطبيق حق تقرير المصير-الذي نادى به رئيسه-على بلادنا، فقال :

“بالرغم من الدعاية بشأن تحرير الأعراق المضطهَدة، فإن البريطانيين والفرنسيين يعملون فقط من أجل مصالحهم في الشرق الأدنى”

وهي نبرة لا نسمعها إلا نادرًا وذلك إذا اختلف اللصوص فيما بينهم، أو إذا تحدثوا إلى أنفسهم في لحظات الاعتراف النموذجية، أو إذا وصلت بهم الثقة بالنفس إلى درجة لا يخشون فيها التحدي. وقد اعترف وزير الخارجية البريطاني السابق اللورد كيرزون بذلك أثناء توزيع الغنائم بين الحلفاء تحت عنوان الانتداب الذي يُفترض أنه لصالح تحرير الشعوب الضعيفة والذي جعل سعادتها وتقدمها “وديعة مقدسة في يد العالم المتمدن” كما جاء في المادة 22 من ميثاق عصبة الأمم، فقال هذا الوزير موضحًا أن بلاده تدخل المنافسة الاستعمارية دفاعًا عن مصالحها وليس مصالح الضعفاء (1919):

“علينا أن نلعب لعبة حق تقرير المصير بأي ثمن، لأننا نعرف في قرارة أنفسنا أننا سنستفيد من ذلك أكثر من أي طرف آخر”

فعقب عليه المستشار العسكري للرئيس ويلسون بسخرية لاذعة فضحت الأثرة البريطانية، وإن كان ذلك لأنها تنافس السياسة الأمريكية :

“أينما كان الانتداب يغطي آبار نفط ومناجم ذهب فإن بريطانيا العظمى ستحصل عليه، وسنطلب من الولايات المتحدة أن تقوم بالانتداب على كل أكوام الحجارة وتلال الرمال المتبقية”.

“الحقوق” الاستعمارية ما زالت سارية إلى اليوم

وهذا الأمر ليس من مخلفات الماضي الاستعماري، فما زالت الإمبريالية الغربية بعد نهاية الحقبة الاستعمارية وتغير طرق الهيمنة تعد ثروات الشرق الطبيعية حقًا طبيعيًا لها وجد بطريق الخطأ الجيولوجي تحت باطن الأرض الشرقية ولا بد من تصحيح ذلك، ولم يتورع كبار مسئوليهم مثل كارتر وكيسنجر عن الإشارة إلى “خطأ الرب” في ذلك، ولهذا لا يتحرج ساسة الغرب من الحديث عن نفط العرب بصفته “نفطنا” أي نفط الغربيين كما صرح بذلك الرئيس الأمريكي السابق ريتشارد نيكسون أثناء أزمة الخليج التي اندلعت سنة 1990.

وقد تصرف الغرب آنذاك وفقا لهذا المفهوم وكان هياجه مركزًا على ألا يستحوذ العراق على احتياطي نفطي ضخم واتخذ ساسته من تحرير الكويت ستارًا وهميًا لنواياهم؛ ولهذا لم يكن من الغريب أن يؤدي “تحرير الكويت” إلى تدمير العراق تدميرًا شاملًا، لأن الحرية التي كان يمكن تحقيقها بطرق عديدة أخرى-كمبادرة الأمير سلطان مثلًا-لم تكن الهدف بقدر تحقيق الأطماع التي كان الدمار العراقي هو سبيلها الوحيد.

http://gty.im/97202272

وهذا الجشع هو ما تدل عليه أفعال الغربيين دائمًا إذ توضع سياسات تتجاهل الحقوق الجمعية لبلادنا بل تتجاهل وجودنا وتدعي وجود “الفراغ” في المنطقة منذ مغادرة الجيوش البريطانية، وهو فراغ على الولايات المتحدة أن تملأه في تكرار لفكرة الأرض بلا شعب التي لا تعترف بوجود بشري يملأ العين الغربية سوى الوجود الغربي، ولا ينحصر تطبيقها على فلسطين وحدها، ولذلك تشن الحروب علينا للاستيلاء على أراضينا “الفارغة” لإقامة كيان غربي غاصب فيها أو لضمان تدفق ثرواتنا الطبيعية التي وجدت في هذا “الفراغ” ويحتاج إليها ويسير بها الاقتصاد الغربي.

وتحت عنوان التحرير تتحقق المصالح الغربية ولو احتاج الأمر إلى تدمير أوطان نائية وسحق شعوب آمنة بدعوى تحريرها ولكن المراقب الحصيف لا تخطئ عينه أن من تحرر هي البلاد من أهلها والأملاك من أصحابها، وإلا كيف يمكننا أن نصدق أن عملية “تحرير” العراق هي نفسها إبادة نصف مليون من أطفاله (حتى سنة 1996) مع سبق الإصرار والترصد الأمريكي والدفاع عن ذلك الإجرام وكونه مؤدٍ إلى “الحرية”، على رؤوس الأشهاد، وذلك حتى يتبدل الأمر بالمقاومة بفعل سنة التدافع.

الاستنتاج : سهولة قلب مفهوم التحرير إلى حقيقة الاستعباد

ارتباط الحرية بالاستعباد أو حتى اعتمادها عليه ليس أمرا مستهجنًا في حضارة الغرب ولا هو أمر قليل الحدوث فيها أيضًا، فالأمريكي مثلا اكتشف أن عمل الإفريقي كأرض الهندي كان موردًا حيويًا للأمة الأمريكية الوليدة، ولهذا قام أصحاب المصالح بالتأكيد على أن وعود أرباب الثورة الأمريكية بجنة الحرية والمساواة لم تكن تتصف بالمساواة، وأنها لا تشمل جميع البشر، وذلك لأنها كانت مؤسسة على اضطهاد الآخرين، فالأمريكي لم يكن حرًا في اضطهاد الهندي والإفريقي وحسب، بل كان الاستيلاء على أرض الهنود وما تطلبه من إبادة ونهب شرطًا رئيسًا لإقامة صرح مجتمع الديمقراطية والمساواة-بين البيض طبعًا-ولهذا شرعوا في سلب حرية السكان الأصليين فور حصولهم هم على حريتهم من بريطانيا بعد الثورة الأمريكية.

وكذلك أسست بقية الأمم الغربية ديمقراطياتها على استغلال الآخرين وتصدير المشاكل إليهم، كما كان الاستيلاء على جهد الأفارقة، وما تطلبه ذلك من عنف واستعباد، شرطًا رئيسًا لبناء مجتمع المزارعين البيض الأحرار ، وأصبح سكان الجنوب الأمريكي مع الوقت “يرون في تمسكهم بنظام الرق تعبيرًا عن حقهم في الحرية” ولا مانع أيضًا من ادعاء أفضلية هذا النظام للعبيد أنفسهم، أليس ما هو خير للأمريكي هو خير للعالم أجمع، كما سيتكرر ذلك في التاريخ الذي سيأتي فيما بعد؟

العبودية في الغرب وأمريكا

لقد كان الأمريكي انتقائيًا في تعامله مع حرية الآخرين وإنسانيتهم بما يفيد مصالحه الذاتية وحدها، وأوضح مثل على ذلك الطريقة التي تعامل بها مع إنسانية العبيد في مساومات دستور الثورة الأمريكية : فالعبيد يحسبون من البشر عندما يكون ذلك في مصلحة قوة الجنوب التمثيلية في المؤسسة الحاكمة ولا يحسبون بشرًا عندما تكون إنسانيتهم ضد مصالحه لو أُعطوا هذا الصوت ليعبروا عن أنفسهم، فولايات الجنوب “تريد تعداد الرقيق ضمن سكانها، ليس تمثيلهم بل تعدادهم فقط، بحيث أن العبد يساوي الأبيض، حتى تزيد نسبة تمثيلها في مجلس النواب“، ولهذا تصادر وزن العبيد البشري لصالحها فقط دون مصالحهم وتدخل في جدال مع نظيراتها الشمالية التي ترفض بدورها هذه المعادلة ولكن حرصًا على نفوذها الذاتي أيضا وليس على حرية العبيد أو إنسانيتهم وتصل المساومة بين الآباء المؤسسين لحرية العالم إلى عد الإفريقي ثلاثة أخماس إنسان دون صوت (!)

وما زال “تحرير” الشرق مرتبطًا باضطهاد أبنائه وسلبهم بل إبادتهم إذا لزم الأمر في ميزان العدالة الأمريكية كما اتضح ذلك جليًا من النموذج العراقي.

الخلاصة

كما كان الإفريقي بشرًا عندما يريد الأبيض ذلك وليس بشرًا عندما يرفض السيد ذلك، وتصادر حريته وإنسانيته لصالح سيده دون نفسه، نظر الغرب وما يزال إلى حرية الشرق وإنسانية أهله من زاوية نظرياته المتعلقة بالحقوق الغربية في هذه المنطقة والتي تسمو على حقوق أهل البلاد في بلادهم، وهذه الأفضلية تؤكدها نظريات الحقوق التاريخية والرسالة الحضارية وعبء الرجل الأبيض والقدر الجلي التي يسند بعضها بعضًا ويملأ بعضها فراغ البعض الآخر ومازال مفعولها يُسيِّر السياسة رغم زوال عصر الاستعمار.

إذ يرى أصحاب التفوق الحضاري أن الهيمنة على الغير ونهبه–مع ادعاء تحريره وتحضيره-من حقوق هذا التفوق الذي تدعمه القوة المسلحة التي لا حرج عليها فيما تفعله كما يشهد بذلك التاريخ المظلم للاستعمار، وحتى لو عادت بنا في بعض الأمثلة المعاصرة إلى عهد الاحتلال العسكري الذي تحول-بألاعيب الحواة المبتدئين من تلاميذ مدرسة المارينز-إلى تحرير لبلادنا، ولكن حقائقه المرة أوضح من أن تخطئها العين أو تخطئ فهم المقصود بهذا التحرير؛

ولهذا فإن علينا أن نعي جيدا أن تحرير بلادنا-من وجهة النظر الغربية- لا ينفصل عن “الحقوق” الغربية في هذه البلاد وفي ثرواتها ومواقعها الهامة وفي الهيمنة عليها، لصالح القاصرين من أبنائها طبعا (!) وإذا كان اضطهاد الأفارقة في الولايات المتحدة قد فقد شيئًا من دوافعه النفعية فإن المصالح في بلادنا ما زالت قائمة وما زالت تدفع باتجاه ادعاء تفوق الحقوق.

مراجع

1-صوفي بيسيس، الغرب والآخرون: قصة هيمنة، دار العالم الثالث، القاهرة، 2002، ترجمة: نبيل سعد.

2-بسام العسلي، المقاومة الجزائرية للاستعمار الفرنسي (1830-1838)، دار النفائس، بيروت، 1986.

3-Charles Issawi, An Economic History of the Middle East and North Africa, Routledge, London, 2010, p. 82.

4-يوجين روجان، العرب من الفتوحات العثمانية إلى الحاضر، كلمات عربية للترجمة والنشر، القاهرة، 2011.

5-دكتور حسن صبري الخولي، سياسة الاستعمار والصهيونية تجاه فلسطين في النصف الأول من القرن العشرين، دار المعارف بمصر، 1973.

6-د. وهيب أبي فاضل، موسوعة عالم التاريخ والحضارة، نوبليس، 2007.

7-عبد الحي يحيى زلوم، حروب البترول الصليبية والقرن الأمريكي الجديد، المؤسسة العربية للدراسات والنشر، بيروت، 2005.

8-باسيل يوسف بجك، العراق وتطبيقات الأمم المتحدة للقانون الدولي (1990-2005)، مركز دراسات الوحدة العربية، بيروت،2006.

9-جاك بنوا ميشان، الملك سعود: الشرق في زمن التحولات، دار الساقي، بيروت-لندن، 2010، ترجمة: نهلة بيضون.

10-جيف سيمونز، التنكيل بالعراق: العقوبات والقانون والعدالة، مركز دراسات الوحدة العربية، بيروت، 12/ 1998.

11-Colin G. Calloway, The American Revolution in Indian Country, Cambridge University Press, 1995.

12-دان لاسي، مولد أمة، دار الآفاق الجديدة، بيروت.

13-Edmond S. Morgan، American Slavery، American Freedom، History Book Club، New York, 2005.

14-د. محمد النيرب، المدخل في تاريخ الولايات المتحدة الأمريكية: الجزء الأول حتى 1877، دار الثقافة الجديدة، القاهرة، 1997.

15-مايكل أورين، القوة والإيمان والخيال: أمريكا في الشرق الأوسط منذ عام 1776 حتى اليوم، كلمة، أبو ظبي، وكلمات عربية للترجمة والنشر، القاهرة، 2008، ترجمة: آسر حطيبة.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى