دروس وعبر من قصة أصحاب الأخدود

بسم الله الرحمن الرحيم، وبه نستعين. من المهم الاستفادة من تجارب السابقين، وخصوصًا من سبق ذكرهم في القرآن الكريم والسنة النبوية، ومن أهم وأكمل الفوائد التأكيد على غاية الرسالة التي جاء بها الأنبياء جميعًا، وأن أساسها الدعوة إلى توحيد الله، والإيمان به، قال تعالى: (وَإِلَىٰ عَادٍ أَخَاهُمْ هُودًا ۗ قَالَ يَا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُم مِّنْ إِلَٰهٍ غَيْرُهُ ۚ).

سأنقل لكم في السطور القادمة حديث أصحاب الأخدود كما ورد في صحيح مسلم، وسأقوم بنقل بعض التعليقات الهامة عليها ممن كتبوا وأبدعوا في هذه القصة.

عن صهيب أنه قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: “كان ملكٌ فيمن كان قبلكم، وكان له ساحر، فلما كبر قال للملك: إني قد كبرت فابعث إليَّ غلامًا أعلمه السحر. فبعث إليه غلامًا يعلمه، وكان في طريقه إذا سلك راهب، فقعد إليه وسمع كلامه فأعجبه، وكان إذا أتى الساحر مرَّ بالراهب وقعد إليه، فإذا أتى الساحر ضربه، فشكا ذلك إلى الراهب فقال: إذا خشيت الساحر فقل: حبسني أهلي، وإذا خشيت أهلك فقل: حبسني الساحر.

فبينما هو على ذلك إذ أتى على دابة عظيمة قد حبست الناس، فقال: اليوم أعلم آلساحرُ أفضل أم الراهب أفضل؟ فأخذ حجرًا فقال: اللهم إن كان أمر الراهب أحبَّ إليك من أمر الساحر، فاقتل هذه الدابة حتى يمضي الناس. فرماها، فقتلها ومضى الناس. فأتى الراهب فأخبره، فقال له الراهب: أي بُنَيَّ، أنت اليوم أفضل مني، قد بلغ من أمرك ما أرى، فإن ابتُليت فلا تدُلَّ عليَّ.

وكان الغلام يُبرِئ الأكمه والأبرص، ويداوي الناس من سائر الأدواء، فسمع جليس الملك وكان قد عمي فأتاه بهدايا كثيرة فقال: ما ها هنا لك أجمع، إن أنت شفيتني. فقال: إني لا أشفي أحدًا، إنما يشفي الله تعالى، فإن آمنتَ بالله تعالى، دعوتُ الله فشفاك. فآمن بالله تعالى، فشفاه الله تعالى.

فأتى الملك فجلس إليه كما كان يجلس، فقال له الملك: من ردَّ عليك بصرك؟ قال: ربي. قال: ولك رب غيري؟! قال: ربي وربك الله. فأخذه فلم يزل يعذِّبه حتى دلَّ على الغلام. فقال له الملك: أي بُنَيَّ، قد بلغ من سحرك ما تبرئ الأكمه والأبرص وتفعل وتفعل. فقال: إني لا أشفي أحدًا إنما يشفي الله تعالى. فأخذه فلم يزل يعذبه حتى دل على الراهب، فجيء بالراهب فقيل له: ارجع عن دينك. فأَبَى، فدعا بالمنشار فوضع المنشار في مَفْرِق رأسه فشقه حتى وقع شِقَّاه، ثم جيء بجليس الملك فقيل له: ارجع عن دينك. فأَبَى، فوضع المنشار في مفرق رأسه، فشقه به حتى وقع شقاه.

ثم جيء بالغلام فقيل له: ارجع عن دينك. فأَبَى، فدفعه إلى نفرٍ من أصحابه فقال: اذهبوا به إلى جبل كذا وكذا، فاصعدوا به الجبل، فإذا بلغتم ذروته فإن رجع عن دينه، وإلاَّ فاطرحوه. فذهبوا به فصعدوا به الجبل فقال: اللهم اكفنيهم بما شئت. فرجف بهم الجبل فسقطوا، وجاء يمشي إلى الملك. فقال له الملك: ما فعل بأصحابك؟ فقال: كفانيهم الله تعالى.

فدفعه إلى نفر من أصحابه، فقال: اذهبوا به فاحملوه في قرقور وتوسطوا به البحر، فإن رجع عن دينه وإلا فاقذفوه. فذهبوا به فقال: اللهم اكفنيهم بما شئت. فانكفأت بهم السفينة، فغرقوا. وجاء يمشي إلى الملك. فقال له الملك: ما فعل أصحابك؟ فقال: كفانيهم الله تعالى. فقال للملك: إنك لست بقاتلي حتى تفعل ما آمرك به. قال: وما هو؟ قال: تجمع الناس في صعيد واحد وتصلبني على جذع، ثم خذ سهمًا من كنانتي، ثم ضع السهم في كبد القوس، ثم قُلْ: باسم الله رب الغلام. ثم ارمني، فإنك إذا فعلت ذلك قتلتني.

فجمع الناس في صعيد واحد وصلبه، ثم أخذ سهمًا من كنانته، ثم وضع السهم في كبد القوس ثم قال: باسم الله رب الغلام. ثم رماه، فوقع السهم في صُدْغه، فوضع يده في صدغه، فمات.
فقال الناس: آمنا برب الغلام، آمنا برب الغلام، آمنا برب الغلام. فأُتي الملك فقيل له: أرأيت ما كنت تحذر، قد والله نزل بك حذرُك قد آمن الناس. فأمر بالأخدود بأفواه السكك، فخُدَّت وأُضرم فيها النيران وقال: من لم يرجع عن دينه فأقحموه. ففعلوا، حتى جاءت امرأة ومعها صبي لها، فتقاعست أن تقع فيها، فقال لها الغلام: يا أماه، اصبري فإنك على الحق”.

أفكار وتدبرات

مدينة الأخدود في نجران، الموقع الذي حصلت فيه ملحمة أصحاب الأخدود.

بعد أن قرأت الحديث وقرأت بعض الشروحات المتعلقه بهِ، وسمعت بعض المرئيات الخاصة بشرح الحديث، فقد لفت نظري بعض النقاط القادمة لأنها مهمه جدًا، سأنقلها لكم تباعًا:

1. لماذا ندرس هذه القصة؟
لأنها وقف لازم في قراءة تاريخيـة للدعوة، ودرس تـام في منهجها، وتجربة كاملـة في واقعهـا.

2. ما أهـم ما يشيـر إليه هذا الحديـث؟
يشيـر إلى بُعـدان أساسيـان لقضية واحدة وهي: قضية العلاقـة بين العـدد والفاعلية القدريـة للعدد.

3. لـم يتجاوز أصحـاب الدعوة في هـذا الحديث ثلاثة: (الراهـب والغـلام والجليـس)، وهذا حديث المستضعفين، ودرس للذين عاشـوا الدعـوة في أيـام الآلام والعـذاب، وهذه هي القيمة الأساسيـة للقصـة.

4. تم سرد هذا الحديث الشريف في صحيح مسلم، ولم يُحدد مكان ولا زمان لهذه القصة، وتصبح مجردة مطلقة فيمكن اعتناقها والاستفادة بها بغيـر الارتباط أو التعلق بظروفها وملابساتهـا.

5. المواجهـة أمر ضروري في واقع طريق الدعوة، فتجد مثلًا: أن الله تعالى قال لسيدنا موسى: (اذْهَبْ إِلَىٰ فِرْعَوْنَ إِنَّهُ طَغَىٰ) وفي الأساس كان سيدنا موسى -عليه السلام- مبعوث إلى بني إسرائيل، وكان كل ما يريده هو الخروج ببني إسرائيل من مصـر، ولكن ضرورة مواجهة أهل الباطل في طريق الدعوة هو أمر حتمي، فاعلم أيها القارئ أن اختيارك للسير في طريق الدعوة يفرض عليك المواجهة، فـلا تكن غافلًا على الصعاب التي ستواجهها في طريقك هذا.

6. يجب أن نفهم أن العداء بين الدعاة إلى الحق وبين حكام الباطل أمر بدهي مفروض من البداية وبمجـرد التفكير في غاية الدعوة والنظر في واقع الناس، فلا تحقيق لدعوة الحق دون مواجهة أهل الباطل.

7. الحكم هو ضرورة في تصور الدعوة ولكنه لن يأتي منحة من المغتصبين له، ولن يتحقق بالمساومات الرخيصة، بل يجب أن يسترد بالجهاد والعمل ليكون ولاية شرعية حقيقية وليس مجرد تسلط شخصي أو سيادة فردية دون إمكانيـات القيام بالحكم والاستمرار فيه بعد الوصول إليه.

8. ما الفرق بين حكم الحاكم بالسحر حينها، وحكم حكامنا اليوم بغير شرع الله؟
لا فرق، فإن السحر باعتباره توهم وكذب يحقق أغراض الحاكم الظالم وأي منهج ليس من عند الله يخضع له الناس يحقق نتائج السحر، وليس هناك فارق بينهم إلا في الشكل والاسم، فهما وسيلتان إلى غاية واحدة وهي تثبيت حكمهم الباطل في الأرض وسيطرتهم على الناس وبسط نفوذهم.

9. الداعية الحقيقي هو الذي يشعر بمسئوليته تجاه الفطرة الإنسانية وحمايتها من أي تأثير جاهلي ويحس إحساسًا عميقًا بقيمة تلك الفطرة في واقع دعوته، فالفطرة هي رصيد الدعوة في الواقع الجاهلي وحينما تفسد فلن يكون للدعوة أي وجود أو امتداد وهذا ما قصده نوح -عليه السلام- عندما دعا بهلاك قومه لما رأى وجودهم في ضلال وامتدادهم في فجر وكفر، قال تعالى: (وَقَالَ نُوحٌ رَّبِّ لَا تَذَرْ عَلَى الْأَرْضِ مِنَ الْكَافِرِينَ دَيَّارًا … إِنَّكَ إِن تَذَرْهُمْ يُضِلُّوا عِبَادَكَ وَلَا يَلِدُوا إِلَّا فَاجِرًا كَفَّارًا) فقد بلغ الضغط الجاهلي بطون الأمهات، فأصبحت النساء لا تلد إلا (فَاجِرًا كَفَّارًا).

10. جاء في رواية الترمـذي أن الساحر طلب الغـلام بعبارة: (انظروا لي غلامًا فَهِمًا، -أو قال: فطِنًا لَقِنًا- فأعلمه علمـي) وهذا ما يكشف بُعـدًا خطيرًا للخطة الجاهلية الرامية إلى إِفساد الفطرة وهي التركيز على النابهيـن المتفوقين أصحاب المواهب والقدرات الخاصة لضمان السيطرة الجاهلية على الواقع البشري.

11. كان الغلام يجلس إلى الراهب راغبًا وإلى الساحر كارهًا، فكيف لولد في سنه أن يعاني من هذه الحيرة! فإن الدين يربي العقول والسحر يغتالها، والدين يعالج الواقع والسحر يضلل عنه، والدين يبني الحياة والسحر يهدمها، ولكنها قدرة الله يختارها في مَنْ يشاء من خلقه، ويعينه عليها.

12. طبيعة التلقـي لهذا الدين هي التي تحدد طبيعة اعتناقه والالتزام به والدعوة إليه والذين يتلقون هذا الدين على أنه بلاء، هم الذين يبقون إلى النهاية وأخذ هذا الدين بقوة هو ضمان الاستمرار عليه.

13. (فإذا أتى الساحر ضربه) وبذلك أراد الله تبارك وتعالى أن يتفق تكوين هذا الغلام مع طبيعة الدعوة وألا تشذ شخصيته عن تكاليفها فابتلاه الله في لحظات التكوين ووقت النمو وفترة التربية، فصدق وصبر، وهذا الضرب يعتبر ابتلاء عظيمًا بالنسبة للغلام الصغير، فاعلم أن البلاء سيأتيك ما دمت تمشي في طريق الدعوة، وسيأتيك في المكان التي تحبه وتخشاه.

14. علام يدل القلق الوارد عن الغلام أثناء فترة تلقيه للعلم عند الراهب وتلقيه السحر عند الساحر؟
يدل ذلك على أن القلق الذي نشأ في نفس الغلام كان بسبب تأثيره العميق في كلام الراهب وإدراكه السليم لمعنى الدين، فلو كان يسمع دون شعور أو تفكير سيكون السماع حينها مجرد فكر وكلام عند الغلام.

15. لماذا اختار الغلام الدابة الموجودة في الطريق في دعوته؟
لأنها تسد الطريق على الناس فهي تعتبر كالطاغوت الذي يسد على الناس طريق هدايتهم، فيأخذ الغلام حجرًا ليكون سببًا للقدر الإلهي في قتل هذه الدابة، ويدعو الله مع أخذه بالسبب فيقتلها ويمضي الناس فيعلم الغلام أن الحق الذي أكده قدر الله بقتل الدابة هو الحق الذي عليه الراهب، ويجب أن نوضح أن الغلام أحسن في اختياره هذا، فإن هذا الحادث وما تم فيه يعتبر بحق تجربة كاملة للدعوة بجوهرها وأبعادها.

16. اختيار الدابة يجب تطبيقه على واقعنـا، فانظروا اليوم إلى الدابة التي تعيق حياتنا وحركتنا وحريتنا، وتمنع رزقنا وتمنعنا من العبادة وإظهار شعائر الله، وادعوا عليها بالقتل والدمار والهلاك، بعد أن تأخذوا الأسباب القدرية في الدنيا، كما استعان الغلام بالحجر لقتل الدابة.

17. (قال الراهب: أي بني أنت اليوم أفضل مني) وهذا يدل على فهم الراهب الصحيح لمنهج الدعوة الإسلامية، فالكلمات كلها فيها إخلاص وتجرد، والدعوة ليست بالعمر الذي يعيشه الإنسان فيها ولكنها بالإيمان والكفاءة والأثر، ودقق جيدًا في النفس الراضية التي كان يتحدث بها الراهب: (أي بني).

18. فكرة السرية في منهج الحركة التي يعطي بها الدعاة لأنفسهم فرصة لتجميع الطاقات وحشد الإمكانيات، والسرية أصل في الدعوة منذ أول رسول نوح -عليه السلام- عندما قال: (ثُمَّ إِنِّي أَعْلَنتُ لَهُمْ وَأَسْرَرْتُ لَهُمْ إِسْرَارًا)، وكان هناك سرية أيضًا في دعوة سيدنا موسى، فانظر لقوله: (وَأَوْحَيْنَا إِلَىٰ أُمِّ مُوسَىٰ أَنْ أَرْضِعِيهِ ۖ فَإِذَا خِفْتِ عَلَيْهِ فَأَلْقِيهِ فِي الْيَمِّ وَلَا تَخَافِي وَلَا تَحْزَنِي ۖ إِنَّا رَادُّوهُ إِلَيْكِ وَجَاعِلُوهُ مِنَ الْمُرْسَلِينَ) ومتابعة أخته له سرًا: (وَقَالَتْ لِأُخْتِهِ قُصِّيهِ ۖ فَبَصُرَتْ بِهِ عَن جُنُبٍ وَهُمْ لَا يَشْعُرُونَ) وانظر إلى امرأة فرعون التي استطاعت أن تكتم إيمانها، رغم ما في العلاقة الزوجية من خطورة على الأسرار إِذ أنها علاقة إِفضاء للمشاعر والأسرار، وكثيرة جدًا المواقف التي امتازت بالسرية في تاريخ الدعوة.

19. قال الغلام: (أنا لا أشفي ولكن الله هو الذي يشفي) إنما أكد بذلك عقيدته من خلال المنفعة التي قدمها للجليس، وهذا هو الأساس الأول الذي تقوم عليه فكرة تأليف القلوب في الدعوة إذ أنه يجب أن ترتبط المنفعة المقدمة بالعقيدة المعروضة، وهذا الارتباط هو الذي سيعطي لتلك العقيدة قيمتها في نفوس الناس ابتداء.

20. نلاحظ أن الغلام لم ينطق في تبليغه لقضية الدعوة إلا بثلاث عبارات في القصة كلها:

  • قوله: (إنما يشفي الله…) ردًا على الجليس عندما طلب الشفاء، وردًا على الملك عندما ادعى أن ما يفعله الغلام إنما هو السحر.
  • قوله: (كفانيهم الله…) ردًا على الملك بعد نجاته من الموت فوق الجبل وفي السفينة.
  • قوله: (أن تقول: باسم الله رب الغلام…) عندما دل الملك على الكيفية التي يستطيع أن يقتله بها.

ولكن هذه العبارات الثلاثة تمثل في الحقيقة ثلاث نقاط في خط واحد وهو خط الإثبات العقدي لقضايـا الدعوة من خلال الواقع. فالله الشافي، والله الكافي، والله المحيي المميت، حقائق لم يرددها الغلام كقضايا جدلية وكلامية، ولكنه ذكرها كحقائق نهائية ثابتة في واقع قائم بحيث لا يمكن ردها أو حتى مناقشتها، والحقيقة أن البداية لهذا الخط -كما جاء في القصة- ترجع إلى إيمان الغلام نفسه.

21. (جلس الغلام إلى الراهب وسمع قوله؛ فأعجبه): هذه العبارة توضح لنا أشد حاجتنا اليوم في الجلوس إلى مجالس العلم والسمع، فكل مشكلتنا تنحصر في أننا بعيدون عن الدين منذ فترة طويلة، فنحن حتى لم نكلف خاطرنا سماع وفهم هذا الدين، لذلك يأتي يوم القيامة قوم يندمون على السمع: (وَقَالُوا لَوْ كُنَّا نَسْمَعُ أَوْ نَعْقِلُ مَا كُنَّا فِي أَصْحَابِ السَّعِيرِ).

22. طلب الراهب من الغلام ألا يدل عنه، لأن الدعوة كانت في المرحلة السرية، والتكتم على تلك الأخبار الهامة مطلوب، ولم يطلب الغلام من الجليس الذي شفاه نفس الطلب مثلما قال له الراهب، لأن الغلام انتقل بالدعوة من المرحلة السرية إلى المرحلة العلنية بهذا التحرك العلني العام وبدليل أنه كان يداوي الناس من سائر الأدواء.

23. بوح الغلام بمكان الراهب، لا يعتبر خيانة ولا عمالة ولكنها الطاقة البشرية المحدودة، هذه حقيقة يجب الاعتراف بها وأي إنسان يقف موقف الغلام عندما دل على الراهب يتألم ألمًا أكبر من ألم التعذيب ثم يتضاءل أمام نفسه، وينطوي عليها، ويحتقرها.

24. الفزع والترويع هما أخطر آثار التعذيب ولا يُبطل هذا الخطر إلا الطمأنينة والسكينة ولا يحقق الطمأنينة والسكينة إلا الذكر: (أَلَا بِذِكْرِ اللَّهِ تَطْمَئِنُّ الْقُلُوبُ) وعلى هذا يكون الذكر هو الواجب الأول والدائم على من يقع في محنة التعذيب، كما أن الصيغ المتعددة للذكر تعالج بصورة مباشرة الآثار المتعددة للتعذيب، مثل التسبيح والاستغفار والتكبير.

25. كان الملك يرغب في ارتداد الغلام عن دينه قبل محاولة قتله لثلاثة أسباب:

  • حتى لا يسبب قتله حرجًا للملك وبلبلة في عقول الناس، لأن الغلام كان معروفًا لهؤلاء الناس بأعماله الطيبة وبحبه للخير.
  • وأراد الملك أن تخسر الدعوة هذا الداعية، ويتحدث الناس أن الغلام لم يكن على شيء، لأنه ارتد عن دعوته.
  • وكان الملك طامعًا في أن يستفيد من هذا الغلام في تثبيت ملكه بجعله ساحرًا له.

26. قال الغلام للملك: (إنك لن تستطيع قتلي إلا إذا فعلت ما آمرك به) ونرى في كلمات الغلام شيئين:

  • إثبات عجز الملك.
  • الأمر الذي سيأمر الملك به، ولعل هذا أول أمر يتلقاه الملك في حياته، ويجد نفسه مضطرًا إلى تنفيذه.

27. يشترط الغلام في مشهد قتله: (أن تجمع الناس في صعيد واحد) حتى يشهدوا الأحداث ويفهموا معناها، ولقد بدأ الغلام أوامره بهذا الأمر لأنه يعلم أن مثل هؤلاء الحكام يخفون الحقائق التي تفيد الناس وتساعدهم على الإيمان ومعرفة الحق، وهذا ما قصده موسى -عليه السلام- عندما طلب من فرعون أن يكون موعد المواجهة بينه وبين السحرة يوم اجتماع الناس (قَالَ مَوْعِدُكُمْ يَوْمُ الزِّينَةِ وَأَن يُحْشَرَ النَّاسُ ضُحًى).

28. قتل الغلام الدابة بإذن الله، اهتز الجبل ومات الجميع إلا الغلام بإذن الله، انكفأت السفينة فغرق الجميع إلا الغلام بإذن الله، مات الغلام بعد تنفيذ أوامره بإذن الله، وهذا كله يتمثل في قوله تعالى: (فَعَّالٌ لِّمَا يُرِيدُ).

29. جاءت الأم بولدها متمسكة به إلى النهاية لم تفصلها أهوال الأحداث عنه حتى جاءت إلى حافة الأخدود واشتعلت مشاعر الأمومة وكراهية الموت فيها، فترددت أن تقع بابنها في النار ولكن الطفل يطفئ في إحساس أمه لهيب النار ذات الوقود لتلقي بنفسها وتنجو من الضعف والتقاعس وكان حديث هذا الصبي آخر كلمات القصة عند حافة الأخدود، قصة الانتصار للحق.

30. لقد ذكرنا الحديث الذي ورد في صحيح مسلم وتحدثنا عن أهم النقاط المذكورة فيه، والآن ننظر إلى أحداث القصة في النص القرآني، فإن القصة جاءت أحداثها في سورة البروج، ولا ننسى أن سورة البروج هي سورة مكية نزلت في واقع اضطهاد وتعذيب المسلمين في مكة المكرمة، وجهد أهل الباطل في فتنة أهل الإيمـان.

31. الحديث يتحدث عن معانٍ كثيرة، ولكن سورة البروج ركزت على معنى أساسي وهو اضطهاد المسلمين وتعذيبهم والخلاص منهم، وكلمة “أصحاب الأخدود” تعني معنيين:

  • أنهم أجرموا وزادوا في الإجرام حتى جعلهم الله للإجرام أصحاب، والصحبة تدل على طول الملازمة وليس أنهم فعلوا الأمر أول مرة.
  • أو أنهم هم من أضافوا وابتكروا هذا الأسلوب في التعذيب، فيكونون أصحابه ويكتب في صحيفتهم أنهم هم من اخترعوا هذا الأسلوب الإجرامي في التعذيب.

32. أكثر صفتين ينازع فيهم أهل الباطل الله عز وجل: العـزة والحمـد، فالملوك تُحب دائمًا أن تكون عزيزة ولا تُذل أبدًا، وتحب أن تُحمد على أفعالهم.

ودائمًا ما تكون أوقـات البـلاء الصعبة تحتاج إلى بصيرة ويقين وحسن الظن في الله، فمن كانـت نظرته مقتصرة على الدنيا في أوقـات البلاء لضاع الدين وضاع كل شيء، فإن الفصل القصير في القصة انتهى في الدنيا ومات أصحاب الأخدود، لكن ماذا عن الفصل الأطول والأهم؟ ماذا عن تكملة القصة؟ ماذا عن الشهود الذين شهدوا بالحادثة؟ ماذا عن حساب الله للطائفتين أهل الحق والباطل؟

لا يغرنك في طريق الباطـل كثرة الهالكين. ولا يوحشنك في درب الحق قلة السالكين
لا يغرنك في طريق الباطـل كثرة الهالكين، ولا يوحشنك في درب الحق قلة السالكين.

33. هذه القصة من القصص التي رسخت للصحابة -رضوان الله تبارك وتعالى عليهم- موازين الإيمان، ورسخت عندهم لزوم العمل بطاعة الله عز وجل مهما كانت النتائج ومهما كانت الابتلاءات، ورسخت عندهم أن الدعوة إلى الله عز وجل غايتها أن يؤمن الناس، وهذه هي المصلحة العظمى التي من أجلها يضحى بالروح والمال، سواء وقع التمكين أم لم يقع، وليس على الدعاة أن يمكِّن الله في الأرض، فربما يكون قدرهم أن يظلوا في الابتلاء ما شاء الله عز وجل، أو أن تكون دعوتهم نهايتها أن يقتلوا في سبيل الله عز وجل شهداء، لكن ليس ذلك نهاية الدعوة ككل، وليس ذلك آخر المطاف في الصراع بين الحق والباطل جملة، لكن وإنما هي جولة من جولات الصراع، ويمكن أن تكون هذه نتيجتها، وبقدر الله أن بعض هؤلاء الدعاة والمؤمنين لا يرون بأعينهم ثمرة جهدهم ودعوتهم، لكن يراها من بعدهم، ويظل هؤلاء الدعاة نجومًا يُقتدى بها في هذا الطريق.

34. دائمًا ما تجد أهل الباطل يتفننون في فتنة الناس، يحضرون فتنة خاصة للرجال، وفتنة خاصة للنساء، وفتنة خاصة حتى للأطفال، ولا يكتفون بفتنة أهل الإيمان عامةً، بل يجتهدون كل الاجتهاد في ذلك، والفوز الكبير: هو الثبـات وقت الفتنة، رغم أن النهاية في الدنيـا قد تظهر لنا بالخسارة ولكن عند أهل البصيرة واليقين يعلمون أنهم لم ينهزموا بل فازوا فوزًا كبيرًا.

35. التوحيـد صعب وتحقيقه ليس بالسهل، فتجد بعضهم يحقق أن الله هو الإله، ولكن يتردد في تحقيق أن الله هو الحاكم، تجده يؤمن أن الله هو الذي يعين الناس في مصائبهم، وتجده لا يؤمن بأن الله هو الرزاق.

وإياك والمقارنـة بين عذاب أهل الباطل للمؤمنين في الدنيا وعذاب الله -عز وجل- لأهل الباطل في الآخرة، قال تعالى: (إِنَّ بَطْشَ رَبِّكَ لَشَدِيدٌ)، فيكفي الفرق بين مدة التعذيب في الدنيًا والآخرة، فالدنيا فانية ومدتها قصيرة، لكن ماذا عن الدار الآخرة -دار الخلود-؟ الحقبة التي لا تنتهي، فقال تعالى: (إِنَّهُ هُوَ يُبْدِئُ وَيُعِيدُ) فهذه صفة مختصة بالله -سبحانه وتعالى- ولا يقدر أن يحققها أحد غيره.

36. إياك أن تظن أن الله عاجز عن إعزاز عباده المؤمنين، كيف والعزة هي صفته؟! إياك أن تظن أن الابتلاء يقع من غير حكمة، كيف والحمد صفته سبحانه وتعالى فهو العزيز الحميد؟! وإياك أن تظن أيضًا أن ذلك كان لخروج شيء عن ملكه عز وجل، وأن ملكه محصور في السماوات فقط، وأما في الأرض فالملك للكفرة وللظلمة وللمعتدين، فالله هو الذي له ملك السماوات والأرض، فهو يملك الأمور كلها، ويملك أن يجعل أهل الإيمان ظاهرين في لحظة واحدة كما قال تعالى: (وَمَا أَمْرُنَا إِلَّا وَاحِدَةٌ كَلَمْحٍ بِالْبَصَرِ)، ولكنه سبحانه وتعالى جعل الابتلاء للمؤمنين؛ ليذوقوا حلاوة الإيمان، وليذوق من بعدهم أيضًا حلاوة الإيمان بهذا الابتلاء.

37. مات الغلام قبل أن يشهد إيمان الناس، وهذا أمر طبيعي عند الداعية، فلا شرط أن ترى للعمل الخاص بك رد فعل سريع، لذلك على كل داعية أن يصبر ويصبر كثيرًا، فالرسول -صلى الله عليه وسلم- قال عن نفسه أنه لبنة من ضمن البناء، فطبيعي أن نتعامل كلنا على هذا النهج.

38. أشخاص الدعوة في القصة ثلاثة: الغلام والراهب والجليس، والثلاثة ماتوا قبل إعلان الناس لإيمانهم.. وهذه نقطة مهمة جدًا توضح لنا أن بذل الدماء ليس شيئًا غاليًا على دين الله، بل هو أقل شيء ندفعه في سبيل نشر كلمة الحق وإدخال الإيمان في قلوب الناس.

39. لماذا دراسة هذه القصة مهم في وقتنا الحالي؟
لا شك أن أوقات الابتلاء، وأوقات تسلط الأعداء على المسلمين، يحتاج المؤمنون عمومًا والدعاة إلى الله خصوصًا إلى التأمل فيها؛ لكي يستضيئوا بنورها في ظلمات الجهل والظلم التي تملأ العالم من حولهم؛ لكي يظلوا ثابتين على طريقهم مهما كانت المقدمات والنتائج، فليس عليهم إلا أن يؤمنوا بالله، ويسيروا في طريقهم الذي قدره الله سبحانه وتعالى لهم.

40. لا تحتقر نفسك أبدًا! فإن الغلام لم يكن يعرف أنه سيكون له شأن كبير، مثل الذي وضعه الله فيه، ولم يكن يعلم أن مستقبله سيتحول من الباطل إلى الحق، وكل الأئمة في عصور الإسلام لم تكن تتوقع أن يكون مصيرها الذي وصلت إليه، اسأل الله القبول دومًا ولا تتوقف عن المحاولة وسد الثغر الذي تقف عليه.

41. ما علاقة الحديث النبوي الذي رواه صهيب الرومي بسورة البروج التي نزلت في القرآن الكريم؟ الحديث النبوي جاء مفصلًا لمجمل سورة البروج.

42. من نعم الله على العبد أنه لو أشكل عليه أمرين، فيدعو الله ليرشده للحق كما فعل الغلام واستعان بالله عند قتل الدابة لإظهار الحق؛ ومن ثم شرع الله لنا الاستخارة فقد يظهر الله لنا آية في طريق معين وقد يوفقنا الله للخير دون حدوث آية ظاهرية.

43. أهل العلم والإيمان لا ينسبون نعمة الله إليهم، وإنما ينسبونها إلي الله عز وجل. دلل على صحة العبارة السابقة من خلال قصة أصحاب الأخدود؟ يظهر ذلك في حديث الغلام مع جليس الملك المريض عندما قال له: “إني لا أشفي أحدا إنما يشفي الله”، وظهر ذلك في موضعٍ آخر من للقصة عندما قال الملك للغلام عندما قابله لأول مره:

أي بني قد بلغ من سحرك ما تبرئ الأكمه والأبرص وتفعل وتفعل، فقال: إني لا أشفي أحدًا إنما يشفي الله.

وهذا من إيمان الغلام ونسبة الفضل والنعمة إلى صاحبها إلى الله عز وجل.

44. كل تشريف يقابله تكليف. دلل على صحة العبارة من خلال قصة أصحاب الأخدود؟ قال الراهب للغلام أنه أفضل منه، واتبع قوله: “وإنك ستبتلى”، فهناك تشريف بالأفضلية، وهناك تكليف بخطورة الابتلاء.

ختامًا

الحمد لله حمدًا كثيرًا على توفيقه وفضله وكرمه، فقد انتهيت من صياغة قصة أصحاب الأخدود، وإبراز أهم النقاط الواردة فيها في مقالة واحدة مقتبسة من المصادر التي سردتها لكم، بدلًا من الشتات وتناول القصة من جانب واحد، ونسأل الله التوفيق والقبول.

المصادر

  • كتاب “أصحاب الأخدود” الشيخ رفاعـي سرور.
  • كتاب “قصة أصحاب الأخدود” ياسر برهامـي.
  • وقفات مع حديث غلام الأخدود. الدكتور أحمد عبد المنعم.
  • قصة أصحاب الأخدود. الشيخ ابن عثيمين.
  • أصحاب الأخدود. الشيخ أبو إسحاق الحوينـي.
  • سلسلة عقائد البلاء. الشيخ سمير مصطفى.
  • أصحاب الأخدود. الشيخ محمد حسين يعقوب.
  • درس الجُمُعة في شرح حديث أصحاب الأخدود. المهندس شريف علي.

مصطفى جعفر

مسلم مهتم بشأن دينه، وليس من يكتب لدعـوة كمن يكتب لِـنزوة.

‫2 تعليقات

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى