المفكرون اليساريون مبتهجون: كورونا والحلم بنهاية الرأسمالية

هذا المقال ترجمة لمقال: «Left-Wing Intellectuals Are Thrilled: Corona And Dreams Of The End Of Capitalism» لكاتبه: Rainer Zitelmann على موقع Forbes. الآراء الواردة أدناه تعبّر عن كاتب المقال الأصلي ولا تعبّر عن تبيان.

اليوم وحول العالم، يحدو الأمل بمناهضي الرأسماليّة بأنَّ الأزمة التي ولّدها فيروس كورونا ستأذن أخيرًا بالنهاية التي طال انتظارها للرأسمالية. ويسارع مفكّروهم سواءً من الولايات المتحدة أو بريطانيا أو فرنسا أو ألمانيا إلى نفس جدالاتهم إثر الأزمة المالية العالمية سنة 2008 التي استشرفوا منها انهيار النظام الرأسمالي. ولكن في وقت تلك الأزمة، وإذا سلّمنا لمنطقهم وجدالهم، فإنَّ الرأسمالية والنيوليبرالية [1] استطاعت إنقاذ نفسها مرّةً أخرى. وزعموا هذه المرّة بأنَّ النتيجة ستكون مختلفةً في هذه الأزمة ويجب أن تكون كذلك.

المِلْكية الاجتماعية ودمقرطة القوى الاقتصادية

اعتبر المؤرخ وعالم الاجتماع الأمريكيّ اليساريّ “مايك دافيس” بأنَّ الأزمة الحاليّة هي الفرصة المناسبة لإلقاء الّلوم على شركات الأدوية الكبرى من جراء الجائحة.[2] ويزعم بأنَّه يتوجَّب كسر قوّة تلك الشركات الآن. ويُضيف قائلًا: “لن يكفي هذه المرة (اتفاقًا جديدًا) [3] آخر، فهذه المرة آن أوان المِلكية الاجتماعيّة ودمقرطة القوى الاقتصاديّة”. وهذه الاصطلاحات في علم الاجتماع لا تعدو أن تكون ألفاظًا مُحسنةً لكلمة التأميم. وممّا قال: “إنَّ الجائحة الحاليّة توسّع من الجدل القائل بأنَّ الرأسماليّة العالميّة تبدو غير قابلةٍ للاستدامة في غياب وجودٍ حقيقيٍ لبنيةٍ تحتيّةٍ عالميّةٍ للصحّة العامّة. ومثل هذه الأنظمة لن تظهر للوجود أبدًا حتى تُحطّم الحركات الشعبية من قوّة الشركات الدوائيّة الكبرى ومؤسّسات الرعاية الصّحية الربحيّة. وهذا يتطلّب تخطيطًا اشتراكيًّا مستقلًّا لتحقيق نجاة الإنسان، ويتضمن عقد اتفاقٍ جديد ثانٍ (ولكن يسعى هذا التخطيط لما بعد الاتفاق). ومنذ أيام حركة احتجاجات “احتلوا وول ستريت”، حقّق التّقدميون إنجازًا عظيمًا بجعل الصراع ضدّ اللامساواة في الأجور والتّفاوت في الثروات يتصدّر صفحات الصحف. ولكن الآن، على الاشتراكيين أن يخطوا الخطوة التالية والمتمثّلة في الترويج للمِلكية الاجتماعية ودمقرطة القوى الاقتصاديّة، مستهدفين بذلك أنظمة الرعاية الصحيّة ومصانع الأدوية كأهدافٍ مباشرة.”
وشرح الاقتصاديّ الفرنسيّ “ثوماس بيكيتي” إبّان حفل إصدار كتابه الذي دعا فيه إلى إعادة توزيعٍ جوهريٍّ للثروات، شرح بأنَّ تدخّل الدّولة الجذريّ في الاقتصاد أثناء أزمة كورونا أظهر قدرة الحكومات على تنظيم الاقتصاد.[4]

الاتفاق الأخضر الجديد

قالت الناشطة الكنديّة المناهضة للعولمة “نعومي كلاين” بأنَّ أزمة كورونا قد تُحدث نوعًا ما من “القفزة التطورية”. وشرحت بأنّه كما دفع الكساد الكبير روزفلت لعقد الاتفاق الجديد، فإنَّ جائحة كورونا قد تقدّم فرصة لاتّفاق أخضر آخر قائلةً: “في الواقع، من المحتمل أن تحدث الأزمة نوعًا ما من القفزة التطورية. فكّروا في الثلاثينيّات من القرن الماضي، حين دفع الكساد الكبير لعقد الاتّفاق الجديد… يُسمّى بالاتّفاق الأخضر الجديد. فبدلًا من إنقاذ الصناعات القذرة للقرن المنصرم، فعلينا تعزيز الصناعات النظيفة والتي ستأخذنا إلى برّ الأمان في القرن القادم. وأهمّ درسٍ يعلمنا إيّاه التاريخ هو أنّ لحظات الصدمة في غاية التقلّب. فإمَّا أنْ نخسر أراضٍ هائلة وتنهبَنا النُخب الحاكمة وندفع الثمن لعقود، أو نحقّق انتصاراتٍ تقدّميّة كانت في أمسها القريب تبدو مستحيلة. لا وقت لدينا لنفقد أعصابنا. فإنَّ المستقبل يحدّده المُصمّم على المجاهدة في سبيل الأفكار التي كان يبُثّها”.[5]

إلى حين تغيير أساسيات الحياة الاجتماعية والاقتصادية

يتوقع المفكّرون اليساريّون في كلّ مكان بأنَّ أزمة كورونا ستحقّق لهم أمانيهم الخائبة منذ الأزمة المالية العالمية 2008، أي ستُحدث إعادةً جوهريّةً لتنظيم المجتمع وستقضي على الرأسمالية. كتب الاشتراكيّ البريطانيّ والاقتصاديّ والسياسيّ ويليام دافيس: “نستطيع من الآن تحديد عدّة أسباب تجعل من أزمة 2020 وما بعدها مختلفةً عن أزمة السبعينيّات في القرن المنصرم.

أوّلًا، في حين أنَّ انتقال الأزمة كان عبر الممرات الجوّيّة للرأسمالية العالمية -من رحلات الأعمال والسياحة والتجارة- فإنَّ أسبابها الجذريّة تقع خارج الاقتصاد. ويعزو سبب الدمار الواسع الذي ستُحدثه الأزمة إلى الخصائص الجوهريّة للرأسمالية العالمية وهو ما لا يكاد يشكّ فيها أحدٌ من الاقتصاديّين؛ وهي المستويات العالية من الارتباط الدّولي واعتماد معظم الناس على سوق العمل. وهذه ليست خصائص منظورٍ سياسيّ اقتصاديّ محدّد، بالطريقة التي كانت فيها تثبيت أسعار صرف العملات والمفاوضات الجماعيّة [6] أمرٌ أساسيٌّ في الاقتصاد الكينزي [7]. فهي بهذه الصّفات هي الرأسمالية… وسيستغرق من الوقت عقودًا وسنوات حتى يفهم الناس كامل وقع أزمة 2020 وأهميّتها.

لكن لنا أنَّ نتيقّن بأنّه كما كانت الأزمة الماليّة حقًا أزمة عالميّة، فإنَّ هذه الأزمة هي نقطة تحوّلٍ عالميّة. وهناك القدر الهائل من الآلام الجسديّة والنفسيّة والماليّة ستظهر في المستقبل القريب. إلّا أنّه لن تُحلّ أزمةٌ بهذا الحجم حلًّا حقيقيًّا ما لم تتغيّر الكثير من مبادئ حياتنا الاجتماعيّة والاقتصاديّة”.[8]

نهاية النيوليبرالية

وأمّا في ألمانيا، فهناك الكاتبة المناهضة للرأسمالية “أوليركه هيرمان” والتي كتبت العديد من الكتب في نقد الرأسمالية، وقد بدأت اليوم تشيد بالفرص التي قدّمتها أزمة الكورونا. ويظهر مقالها تحت عنوان “كورونا يشهد غياب شمس النيوليبرالية ونهاية نظريتها”، وتقول في المقال [9]: “ليست هذه أزمة من دون فوائد”. آملةً بأنَّ فيروس كورونا سيدفن “الفكر النيوليبرالي” والتي تزعم أنَّه هيمن على العالم الغربي منذ أوائل الثمانينات. وأضافت قائلةً: “لقد لخّص سياسيان بارزان بحماسةٍ كيف يصل التفكير بالرأسماليين المتطرّفين، أوّلهما رئيسة الوزراء البريطانيّة مارغريت تاتشر حين قالت: بأنَّه لا يوجد شيءٌ اسمه مجتمع. فوفقًا لمنظورها العالميّ، فنحن مجرد أفراد يُفتَرض من كلّ واحدٍ منهم أن يتولّى أمر نفسه. أمّا الثاني وهو الرئيس الأمريكيّ الأسبق رونالد ريغان، فاستهلّ (في خطابٍ له) بعنوان ينبع بفحواه من التفكير النيوليبرالي: “الحكومة ليست الحلّ لمشكلتنا، الحكومة هي المشكلة”. وقصّر في الخطاب من مهمة الحكومة على فسح المجال للسوق الحرّة كي تعمل. فقام بخصخصة صناديق التقاعد، وحرّر الأسواق الماليّة، وباع أصول الدولة، وقلّل من الضرائب على الأغنياء. وتم استنساخ نفس هذه المفاهيم وتنفيذها في ألمانيا. وهذه الأسواق الآن تفشل لأنّها كانت قادرةً على العمل ما دام المستقبل يمكن توقّعه وحسابه. فأسعار أسواق الأسهم اليوم هي أرباح الغد”.

ولكن وفقًا لهيرمان، فإنّ أزمة الجائحة اليوم تظهر بأنّه “لا بديلَ عن التكافل… وهذا يعني الحكومة”. إنَّ هذا الكلام من الغرابة بقدر ما هو سمة لمناهضي الرأسمالية من اعتبارهم لمصطلحيْ “التكافل” و”الحكومة” كلمتين مترادفتين. وتتابع متجاوزةً الحدّ كناقدة للرأسمالية بأنّ “هذا الدرس استُقي قديمًا منذ بداية الأزمة المالية العالمية. ولكن في ذلك الوقت، تمكّن النيوليبراليون من إنقاذ نظريتهم المبالغة في التّبسيط. وبسرعةٍ مبهرةٍ، ادّعوا بكلّ صلافة بأنّ الحكومات وبلا مبالاة هي من أثقلت على نفسها بالديون؛ على الرغم من أنّ البنوك في الواقع هي من منحت هذه القروض السيئة (المعدومة).

لم يحدث من قبل أن احتاجت المؤسّسات البنكيّة للإنقاذ بحيث تنتهي الديون إلى الدّولة إلا مرّةً واحدة. ولكن هذا السلسلة من الأسباب والمؤثّرات فيما بعد ضاعت ولا يطفو على السطح إلّا النتيجة: ازدياد الدّين الحكوميّ، ولذا فينبغي أن تكون الأزمة أزمة دين سياديّ. واستطاع النيوليبراليون نسج قصتهم الخياليّة لأنَّ الأزمة المالية معقّدة الفهم. لكن هذا الأمر لا ينطبق على أزمة جائحة كورونا. فمن الواضح للجميع بأنَّ الأسواق لا تستطيع التصدّي للعواقب الاقتصاديّة للجائحة. ولذا فالجميع الآن يستغيثون بالحكومات للتدخّل”.

لا تستهنْ بالمخاطر

إنَّ هذه التحليلات من قبل المفكرّين اليساريّين في الولايات المتحدة وكندا وبريطانيا وفرنسا وألمانيا غير مقنعةٍ.

الواقع أنّه لم تكشف أزمة كورونا فشل الأسواق فحسب، بل حتّى فشل الحكومات. فمثلًا، على صعيد جاهزيّة الدولة للجائحة ووقايتها من الكارثة، كان يتوجّب على الحكومات أن تكون قويّةً؛ ولكن معظم الدول أثبتت عدم كفاءتها وعدم جهوزيّتها وضعفها.

وحدث ذلك بالرغم من صدور تحذيراتٍ: فعلى سبيل المثال، كان بيل غيتس يحاول توقّع كارثةٍ وبائيّة منذ سنين، ولكنَّ السياسيّين ارتؤوا التركيز على قضايا أخرى. وهذه مشكلةٌ أساسيّةٌ اليوم: فالدّولة في غاية الضعف حيثما يتوجب أن تكون قويّة؛ وفي غاية القوّة حيثما يجب أن تكون ضعيفة.

أمّا الزعم بأنَّ الأجندة السّياسيّة للولايات المتّحدة وأوروبا هي من صنع النيوليبراليين فلا تعدو أن تكون نسجًا من الخيال. ولسوء الحظ، فإنَّ زمان ريغان وتاتشر قد ولّى منذ زمنٍ طويل. فلعقودٍ مضت رأينا الحكومات والبنوك المركزيّة تتدخّل على نحوٍ متزايدٍ في الاقتصاد، فيما تفشل في مهمّاتها الجوهريّة (على سبيل المثال، في البنية التحتية).

لكن اليوم علينا توخّي المزيد من الحذر: فقبل 12 عامًا، نجح المناهضون للرأسمالية في المغالطة بإعادة تأطير الأزمة المالية على أنّها أزمة الرأسمالية. وقد رسَختْ هذه الرواية الخاطئة في أذهان الكثيرين، القائلة: بأنّ الأزمة حدثت نتيجة فشل السوق وإلغاء القيود عليه. واليوم ها هم المثقّفون اليساريّون مرّةً أخرى، يبذلون قصارى الجهود في إعادة تأطير أزمة كورونا لتبرير نداءاتهم لإطلاق العنان لقوّة الدّولة. لسوء حظّنا فإنَّ فرص نجاحهم هذه المرّة عاليةٌ جدًا.

[1] تبيان: يقصد بها المنهج الليبرالي في القرن العشرين الذي امتزج بفكرة الرأسماليّة والسوق الحرّة. ومن الجدير بالتنبيه على عدم خلطها مع مصطلح الليبرالية الجديدة new liberalism والتي وتختلف عن النيوليبرالية من ناحية إعطائها قيمة للدولة والجماعة مقابل الفرد أكثر من النيوليبرالية.

[2] https://inthesetimes.com/article/22394/coronavirus-crisis-capitalism-covid-19-monster-mike-davis

[3] تبيان: الاتّفاق الجديد هو مجموعة من البرامج الاقتصاديّة التي أطلقت في الولايات المتّحدة بين عامي 1933 و1936. وجاءت استجابة للكساد الكبير.

[4] https://www.tt.com/artikel/16749504/thomas-piketty-krise-zeigt-den-regierungen-ihre-macht

[5] https://www.democracynow.org/2020/3/19/naomi_klein_coronavirus_capitalism

[6] تبيان: هي عملية التفاوض بين أرباب العمل ومجموعة من الموظفين التي تهدف إلى التوصل إلى اتّفاقات تنظيم ظروف العمل. يتم عرض مصالح الموظفين عادة من قبل ممثليّ اتّحاد نقابة العمال التي ينتمي إليها الموظفون. الاتّفاقات المشتركة التي تسعى إليها هذه المفاوضات عادة تشمل مستوى الأجور، وساعات العمل، والتدريب وصحة وسلامة الموظفين، والعمل الإضافي، وآليات الشكاوى، والحقوق في المشاركة في أماكن العمل أو قضايا الشركة.

[7] تبيان: الكينزية هي نظريّة اقتصادية أسّسها الاقتصاديّ البريطانيّ جون مينارد كينز, وتركّز هذه النظرية على دور كلا القطاعين العام والخاص في الاقتصاد أي الاقتصاد المختلط حيث يختلف كينز مع السوق الحر (دون تدخل الدولة) أي أنه مع تدخّل الدولة في بعض المجالات.

[8] https://www.theguardian.com/commentisfree/2020/mar/24/coronavirus-crisis-change-world-financial-global-capitalism

[9] https://taz.de/Corona-Daemmerung-fuer-Neoliberalismus/!5669238/

 

عبد الوهاب البغدادي

مترجم وصيدلاني

مقالات ذات صلة

تعليق واحد

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى