القدس ودعوة للتفكر

أعلنت أمريكا أن مدينة القدس العاصمة الأبدية لما يسمى “دولة إسرائيل”، وبعدها انطلقت شرارة الغضب العربي والإسلامي؛ لرفض هذا القرار الأمريكي. ولم  يعد هناك حديث عن القدس الغربية والشرقية، بل القدس كاملة لليهود!

وهذا درس بليغ لنا؛ أن نتعلم كيف نأخذ حقوقنا، ولا نتلعثم، ونتردد، ونرتعش، ونستأذن ونحن نطالب بكل أرض فلسطين -ما قبل الاحتلال-، والإيمان -بقوة- بكل حقوقنا قبل الشروع في أخذها؛ فالأيدي المرتعشة المترددة تُضيع ولا تسترد شيئًا!

ومدينة القدس كانت تحت الانتهاكات الصهيونية اليهودية منذ بداية الاحتلال ووعد بلفور، وكانت قبل تنفيذ القرار الأمريكي -الصادر بالمناسبة من عشرات السنين- هي العاصمة الفعلية للكيان الصهيوني، وبها مجلس الوزراء، والكنيست، والقنصلية الأمريكية…إلخ.

اقرأ أيضًا: ماذا تريدون من القدس أيها المسلمون؟!

ويبدو أن هذا القرار يأتي فيما يسمى بـ “صفقة القرن“؛ التي لم يتم الإعلان عن بنودها بعد، والتي يبدو أنها تأتي على قضية فلسطين من قواعدها برعاية “مصرية، سعودية”، وبقرار صهيوني أمريكي.

وتهويد مدينة القدس، وإصدار قانون القدس الموحد، والتضييق على أهلها من المسلمين،… إلخ، كانت إجراءات سابقة للقرار الأمريكي بوقت طويل، بل تعداه إلى بناء المستوطنات على أراضي الفلسطينيين التي كانت أقرت لهم بها “دولة يهود” من قبل!

وفي حالة الغضب العربي الإسلامي الحالية نجدها فرصة مناسبة لبيان بعض الأمور. لا سيما والشعوب بطبيعتها لا تستجيب إلا تحت “شرارة” تحفزها، فهي تظل في حالة كمون وسكون، حتى يأتي ما يستفزها، فتغضب وتثور.

وتوظيف الغضب والثورة التوظيف الصحيح، هو من لحظات التغيير العظيمة، بل ومرحلة كبرى من مراحل الميلاد الجديد. أما التوظيف الخطأ، وهندسته، ورسم خريطة “رد الفعل” من قبل الأعداء والخونة، فهو يمضي بالشعوب إلى تيه أشد، وأزمات أعمق !.

القدس وفلسطين قضية إسلامية

نحن نغضب للقدس وفلسطين ليس من منطلق “القومية العربية”، وإنما من منطلق إسلامي خالص. فالعرب لا قيمة لهم بغير هذا الدين، ولم يكن لهم ذكر قبل هذا الكتاب -القرآن الكريم-، فالعرب قبل الإسلام كانت في جاهلية ساذجة سخيفة، وظلم وقهر وعدوان، وبقايا من الفطرة السوية -بحكم النشأة والمكان-.

وقدر الله سبحانه وتعالى باختصاص هذه البقعة بالرسالة الأخيرة، ولقد كان ميلاد هذه الأمة على يد رسول الله محمد -صلى الله عليه وسلم- ميلادًا إسلاميًا خالصًا، لا ميلادًا عربيًا، ولا قوميًا، ولا قبليًا. بل اعتبر الإسلام كل هذه المظاهر من “الجاهلية” التي يحاربها ويرفضها الإسلام.

فالقدس إسلامية قبل أن تكون عربية، ولا ضير أن يسكنها الكرد أو الأتراك أو أي عرق آخر، طالما هي تحت مظلة الإسلام، والانتماء للأمة المسلمة، وآخر من حررها كان صلاح الدين -رحمه الله- كردي الجنسية، ومصر العربية تحت قيادة الاحتلال الإنجليزي سابقًا حاربت ضد العثمانيين من أجل سقوط القدس!.

فلا بد -إذًا- من الاهتمام البالغ ببيان طبيعة القضية ابتداءً، حتى لا تضيع منا البوصلة، ونتخبط في التيه في كل مرة. وإن خروج المظاهرات في تركيا وإندونيسيا؛ لرفض القرار الأمريكي دلالة طيبة على الوعي بالقضية، ولا بد من رفع هذا الوعي، والتركيز على قضايانا الإسلامية، ولا نخجل من الإسلام، ولا الاتهام بتحويلها إلى قضية دينية!

فنروح ندافع وندفع عن أنفسنا تهمة “الدين”! فهذا من أخطر الأمور، وسلب كامل لأقوى سلاح، وانهزام في أول المعركة. إن هذا الدين هو قوام وجودنا، هو لحمنا ودمائنا، انسلاخنا منه -روحيًا، أو فكريًا، أو واقعيًا- هو انسلاخ من الحياة إلى الموت.

المقاومة السلمية

في محاولة لسلبنا “عوامل القوة” تم ترسيخ مفهوم المقاومة السلمية ومظاهرها من: (تظاهرات، اعتصامات، مؤتمرات، ندوات، المقاطعة الاقتصادية… إلخ)، والحرب الدبلوماسية عبر النظام الدولي من خلال (مجلس الأمن، والأمم المتحدة، والجنائية الدولية…إلخ).

و”المقاومة السلمية” ضرورة؛ لتظل القضية حية في القلوب، ولإعطائها الزخم اللازم للحياة والبقاء، ولكن خطورة “المقاومة السلمية” تكمن في اعتبارها “الحل الوحيد، والخيار الوحيد”، والعدو لا يريد أكثر من ذلك، بل يرحب به، ويتمنى أن يظل الأمر في إطار المظاهرات والحلول الدبلوماسية! وهذا من ضمن “هندسة الغضب”، و”رسم خريطة رد الفعل”، بما لا يتجاوز مرحلة الخطر والتهديد الحقيقي.

إن نستطيع أن نتفهم ونرحب بمظاهرات حاشدة في دول مثل: تركيا وإندونيسيا، تُحيي القضية في القلوب، وتؤكد على تواصل العالم الإسلامي بعضه ببعض، ولكن لا نستطيع أن نفهم مظاهرات في فلسطين المحتلة! والوقوف أمام العدو الصهيوني بـ “صدور عارية”!! فتكون النتيجة مئات المصابين وعشرات القتلى والمعتقلين، بينما العدو لم يسقط منه جريح واحد!!

فهذا عبث لا يرقى إلى الجد، فالشعب الفلسطيني كان يجب من قديم أن يكون شعبًا مسلحًا بجميع أفراده رجاله ونساءه وشبابه وصبيته، وثورته يجب أن تكون “ثورة مسلحة” لا ثورة حجارة وصراخ! وإذا كانت الفصائل المقاومة بفلسطين لها حساباتها المحلية والإقليمية، ومقيدة بكثير من القيود، فالشعب لن يقيده أحد، ولن يخضع لمعادلات الداخل والخارج.

ولا بد من إحياء هذا الفكر في النفوس، وإيلام العدو إيلامًا حقيقيًا، فلا حق يُسترد إلا بالقوة، ولا يحترم العالم أحدًا إلا الأقوياء، وإن كنت ضعيفًا مُذَلًا تابعًا، وكان الحق كله معك، أُكلت أنت وهذا الحق!.

ولا بد لنجاح الثورة المسلحة من إسقاط شرعية الجواسيس. فلا يُعقل أن يكون رئيس ما يسمى “السلطة الفلسطينية” يعمل جاسوسًا لدى الاحتلال باسم “التنسيق الأمني”، ويُبلغ عن كل من يفكر في جهاد المحتل، ولا بد كذلك من إيجاد آلية فكرية وتربوية لإدارة خلافاتنا وتناقضاتنا بأسلوب راقي، حتى لا يقتل بعضنا بعضًا، ونتحول بالسلاح نحو أنفسنا لا نحو العدو.

عواصمنا المحتلة

وأما غضب الشعوب العربية -خاصة- فلا يمكن أن يبقى في “خريطة رد الفعل” المعدة سلفًا، والمسموح بها. فالشعوب -في ظل هذه الحالة من شرارة الغضب- يجب أن تفكر خارج هذه الخريطة، وأن تدرك أولًا أن الأنظمة التي تحكمها هي خط الدفاع الأول عن الصهاينة، وشرعية وجودها إنما هي في حماية المحتل! وإذ لم تدرك ذلك تمام الإدراك، وتعمل على إسقاط هذه الأنظمة، أصبحت هذه الشعوب بغضبها أو بدونه جزءًا من المشكلة، لا الحل!.

فعواصمنا محتلة بأنظمة فاسدة وباغية وعميلة، تعمل ضد مبادئ الإسلام، ومقاصد الشريعة، وضد مصلحة شعوبها، وتسجل كل يوم فصلًا جديدًا من الخيانة والعمالة. ولا يمكن أن نساعد في حماية المقدسات الإسلامية، ونصرة إخواننا، ونحن عاجزون عن نصرة أنفسنا، والانتصار من الظالمين والطواغيت الذين أصبحوا صهاينة أكثر من اليهود أنفسهم !

والشعوب لا تقود أنفسها، بل لا بد من “قيادة رشيدة” -لا قيادة رعناء- تُوظف الغضب توظيفًا صحيحًا، وتجمع طاقات وتضحيات الشعوب في اتجاه واحد، وغاية واحدة، ومشروع للتغيير متكامل، بعيدًا عن “البراجماتية السياسية”، و”العمل من خلال خطة العدو”، و”العصبية الجاهلية”. لا بد من عصبة على الحق، تعد العدة، وتستكمل القوة اللازمة لمواجهة الطغاة والطواغيت.

فلا بد من ميلاد الجيل الذي يحرر القدس -راجع كتاب: هكذا ظهر جيل صلاح الدين، وهكذا عادت القدس-، ولميلاد هذا الجيل عليه أن يتحرر من “أمراض الاستبداد” وتطهير الذات، وتغيير ما بالنفوس، حتى يتغير ما بواقعهم.

إن “التغيير الاجتماعي” يحصل بصورة غير ملحوظة -خاصة لدى الجيل الذي يقع في عهده هذه التغيرات-، ولا بد أن نكون في حالة دائمة من البناء الإيجابي، والتراكم الصحيح للوعي. بغض النظر عن معرفة أي جيل سيقع في عهده الانتصار والتمكين، فكل حركة صحيحة على الصراط المستقيم، هي مساهمة كبرى في الانتصار للدين والحق.

وأما الفسوق عن “أمر الله” بدلًا عن “الاستقامة” على أمره، وتحول الشعوب إلى “قوم فاسقين”، فقد أصبحوا إذًا هم والطغاة والمجرمين سواء. والفسوق عن أمر الله -في أمور الحياة- يكون في متابعة الظالمين، والرضا بأفعالهم، وعدم الرغبة في مقاومتهم، والاستسلام لهم، والحفاظ على شرعية وجودهم.

والاستقامة على أمر الله هي الشهادة لله بالحق، والقيام بالقسط، ومحاربة القوم الفاسقين والظالمين والطغاة والطواغيت، والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، والتعاون على البر والتقوى لا الإثم والعدوان.

إننا لا نعرف ماذا نفعل؟ وإلى أين نتجه؟ وإلى مَن نقصد؟ وهذه الحالة من التيه، وبقاء هذه التساؤلات حية، لهو دليل على “اليقظة” بعد الغفلة. ولا بد أن تظل هذه اليقظة مستمرة خاصة إذ لم نجد إجابة شافية لهذه التساؤلات، فهذه مرحلة الإعداد والابتلاء بصدق القصد والنية والرغبة الحقة في الجهاد والمقاومة. أما إذا عدنا للغفلة مرة ثانية -بعد اليقظة- فقد يأسنا من رحمة الله، واستسلمنا عند أول خطوة على الطريق، وموعدنا إذًا مع تيه جديد لا نصر مجيد.

منابرنا المحتلة

منبر رسول الله -صلى الله عليه وسلم- هو منبر الحق والعدل، والقيام بالقسط، والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، منبر المساواة بين الناس بالقسط، ولكن الطغاة احتلوا منبر رسول الله في كل بلد -إلا من رحم ربي، وقليل ما هم- وشرعنوا الكفر والفسوق والعصيان، وشرعنوا الفحشاء والمنكر باسم الله ورسوله -صلى الله عليه وسلم-، واللهُ ورسوله منهم براء. فالله لا يأمر بالفحشاء والمنكر، تعالى الله عن دجلهم علوًا كبيرًا.

لقد تم توظيف منبر رسول الله -صلى الله عليه وسلم- بل توظيف ما يسمى “المؤسسة الدينية”؛ لتكون أحد دعائم الظلم والعدوان على الدين والأمة. فإذا كان المسجد الأقصى تحت الاحتلال الصهيوني، فمساجدنا الأخرى تحت احتلال الطغاة والبغاة، يخدعون من خلالها الشعوب؛ لتظل مُغيبة عن حقوقها، وعن ضرورة جهادها، حتى أصبح دورها هو: إما شرعنة الظلم والعدوان، وتعبيد الناس للطواغيت. وإما تغيب الناس بقضايا تافهة، وإيغال صدورها بسفاسف الأمور.

فمعركة التحرير معركة كبرى، وطويلة، تحتاج إلى مجاهدة في عالم النفوس، ومجاهدة في عالم الواقع بكل تعقيداته، والله لا يُضيع أجر المحسنين، والعاقبة للمتقين.

أحمد طه

كاتب ومهتم بالشأن الإسلامي.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى