الأمة وخيارها الجماهيري في لحظات التحرر

كان للمسلمين صولاتٌ في إطار تدافع الحق والباطل، بلغ خلالها المد الإسلامي مبلغًا عظيمًا، حتى كانت شمس مساحة البلاد التي سادها نور التوحيد لا تغرب، ودوت تكبيرات المآذن في بقاع مترامية جمعت بها أجناسًا وأناسًا في صفوف الصلاة، مولِّين وجوههم جميعًا لأول بيتٍ وُضع للناس. كما عاشت الأمة لحظاتٍ تاريخية هبطت فيها حتى هيمن أعداؤها عليها، لكن رغم بشاعة ما مُورِس على المسلمين طيلة الدهور قديمًا وحديثًا، بقي الإسلام حيًا في عمق الجماهير، وكامنًا في وجدان المسلمين، خاصة عندما أتيحت لهم حرية الاختيار بين ما عمل عدوها على زرعه فيها وبين دينها.

فهل من نماذج توضح كيف كان خيار الأمة بعد محاولات الاجتياح والتغريب؟ وما مدى نجاح المحاولات المتواصلة لتهجين الأمة؟ وهل هي أحداث عابرة أم حرب متكرر؟ وما أهم التحديات المعاصرة التي يواجهها المسلمون؟

نماذج من محاولات التغريب

تتعدد الوقائع التي تؤكد موقف الشعوب المسلمة في لحظات تحررها، نطرح منها أربعة نماذج، هي:

  1. غزو التتار لبلاد المسلمين.
  2. الإسلام في ظل حكم الشيوعية.
  3. الجزائر بين استعمارين: داخلي وخارجي.
  4. تونس بين الاستعمار ووكلائه.

1. الهجمة التترية – المغولية على بلاد المسلمين

عم البلاء الليالي والأيام بقوم كان الدمار وسفك الدماء من غير تفرقة عندهم في قمة الهوان؛ فكان اجتياح التتار للعالم الإسلامي [1] من أكبر الحوادث التي عجز المؤرخون عن وصف وحشيتها والإلمام بهول مصابها.

فالتتار، وهم قوم يسجدون للشمس ويأكلون الميتة، زحفوا على حصون المسلمين واحدًا بعد واحد، واقترفوا فيها أبشع ما يمكن أن يُقترف، في فترة انصرف فيها ملوك المسلمين للهو والمجون؛ وقد وقع في المسلمين من المحن ما تذهل له الأذهان، وترى بين سطور من أرّخوا لتلك الهجمة شفقةً على أمة في طريقها للاضمحلال والفناء [2]، فقد عظم عتاد وقوة العدو ما أصاب المسلمين بالرهبة، وظنوا أنه لا يُقهر و أن لا طائل من مواجهة الترسانة التترية لبعد الفارق بينهما، تلك المعادلة التي تتكرر في الأزمنة قديمها وحديثها، معادلة ما عندهم وما عندنا من العتاد، معادلة نتيجتها:

﴿لا طاقة لنا اليوم بجالوت وجنوده﴾.

فاجتمع على المسلمين ترهل الحكام [3] وانصرافهم لملذاتهم، والعامل النفسي بدخول الرعب في صفوفهم من الإبادات المتتالية[4]، وتحالف الصليبيين مع التتار لإسقاط عاصمة الخلافة [5]. كلها عوامل تنبئ بالفناء القريب، لكن آلت الأحداث إلى عكس ما تراه العين التي تشاهد الأسباب، ويغيب عنها تدبير مسبب الأسباب وسنن النصر والهزيمة؛ فقيض الله القلوب التي التفت حول القائد قطز [6]، الذي أبدل حالة الرعب والهوان إلى مبادرة وإعلان حرب لتنقلب المعادلة، وينزاح الغمام لرجال أخلصوا نواياهم، وأخذوا بالأسباب، وتحرروا من خشية عدوهم.

وبعد ليلة الخامس والعشرين من رمضان، أشرقت شمس يوم المواجهة على موقعة عين جالوت التي علا فيها صوت التكبير مع اصطكاك السيوف، حتى انخلعت همم التتار، وزُلزِلوا زلزالًا كبيرًا ليصبح همهم الفرار والنجاة، وتكون عين جالوت [7] بدايةً للخروج من الهوان وسقوط أسطورة التتار، وبدايةً لتحول الأمة التترية ودخولها في الإسلام.

2. المسلمون في ظل حكم الشيوعية الروسية

أدى النمط الإلحادي للاتحاد السوفيتي بعد الثورة البلشيفية [8] إلى صدام مع المسلمين، فبعد دهر كان القيصر فيه مثالًا للطغيان الصليبي، جاء عهد الشيوعية لتروي أبشع قصص التمييز والإقصاء للتواجد الإسلامي، ولتكون كل شعائر المسلمين ومساجدهم ومدارسهم وحجاب نسائهم وتعلمهم لشرعهم من المحظور الممنوع، ويحول أتباع ماركس وستالين ولينين عشرات الآلاف من مساجد ومدارس أرض البخاري ومسلم إلى مراقص وخمارات ودور دعارة، وصودرت المصاحف، ومُنعت الكتب والمراجع الدينية بعد أن ابتدأ الشيوعيون بجمعها وحرقها، فأتلفوا كل ما وجدوه من الكتب العلمية التي بلغت أكداسًا تشبه الجبال؛ حتى كان خوف المسلمين على المصاحف يدفعهم إلى إخفائها داخل الجدران.

ونُصبت تماثيل رموز الشيوعية، وفُرض التعليم الإلحادي اجباريا على أطفال المسلمين، وأُلغيت علاقاتهم مع غيرهم من إخوانهم من مسلمي العالم. وكانت وسائل الإعلام متمثلة في ثلاث قنوات شيوعية لا يمكن التقاط غيرها، ليصبح واقعهم معزولًا في داخل سياج من القيود تمنعهم من ممارسة دينهم من جهة، وتطلق الإباحية المادية من جهة أخرى، مع تسهيل الانضمام للحزب الشيوعي.

في هذا المناخ المظلم، أشرقت عزائم المسلمين الذين اختاروا التمسّك بدينهم الذي منّ الله به عليهم [9]، وقدّموا مثالًا متميزًا للثبات والمجازفة في سبيل إبقاء الإسلام حيًا عبر أجيال داخل السجن الكبير.

ومن النماذج الفريدة التي ابتكرها مسلمو روسيا، التعليم السري المعروف باسم نظام الحجرات، الذي يتمثل في سفر الطلاب بين المدن لمسافات تبلغ آلاف الكيلومترات، أين يدخلون في نظام تعليم داخل سراديب وحجرات، فيها يتعلمون القرآن، وأحكام الصلاة والصوم، والأحكام الضرورية، ويأخذون دروسًا في سيرة المصطفى صلى الله عليه وسلم، ودروسًا في سيرة خلفائه الراشدين رضي الله عنهم، ويتعلمون اللغة والصرف والنحو، ويمكثون لمدة ثلاث سنين، لا يخرجون أسبوعيًا إلا مرة واحدة للاستحمام، ولا يزورون أهاليهم إلا مرة في الصيف. هذه الحجرات التي لا يعلم بها حتى الجيران، بل في أحيان لا يعرف الطالب اسم شيخه حتى لا تكشفهم المخابرات [10].

بعد تفكك الاتحاد السوفيتي، عاش المسلمون لحظة تحرر من قيود الشيوعية الجاثمة على صدور الموحدين لعقود، تجلى ذلك في أحداث عدة، منها تنظيم اعتصام في ساحات مدينة دوشمبة، عاصمة طاجكستان، تكون من 450 خيمة، اعتصم بها المسلمون محتملين هطول الثلوج أكثر من عشرين يومًا، وكانت مطالبهم:

  • أن تكون الأحرف العربية مكان اللاتينية.
  • أن يكون ذبح المواشي على الطريقة الإسلامية.
  • أن يكون يوم الجمعة يوم الإجازة الأسبوعي.
  • أن يكون يوم العيد يوم إجازة رسمية.
  • أن يفسح لبناء المساجد ويرفع عنها الضرائب.

وها هم المسلمون اليوم بالملايين في الدول المحيطة بروسيا يشكلون أغلبية سكانية [11]، وتزداد أعدادهم، ويتوزّعون على أكثر المناطق الغنية بالثروات الطبيعية.. ولا تدري لعل الله يحدث بعد ذلك أمرًا.

3. الجزائر درّة صامدة أمام استعمارٍ خارجي وداخلي

خاض الجزائريون على مدار 132 سنة، بين 1830م و1962م، شوطًا استعماريًا نزل فيه الجيش الفرنسي بكل طلائعه العسكرية والثقافية والتنصيرية والتغريبية، حاملًا معها الحقد الفرنسي على الإسلام، والمطامع الاقتصادية، وإدراك الغرب لقيمة الجزائر داخل الأمة الاسلامية.

أرض الجزائر التي هب فيها عصف المقاومة مذ وطأ الفرنسيون ترابها، فانطلق المجاهدون من المساجد والزوايا الصوفية والتفوا حول الأمير عبد القادر [12] الذي خاض معهم غمار المواجهة، فكان تحرير غرب الجزائر خطوة أوصلت هذا الموكب المقاوم إلى حصار العاصمة، حيث نزلت فرنسا بكل ثقلها وبطشت بكل وحشية بالشعب الجزائري، وقُبِض على الأمير المجاهد وتم نفيه إلى سوريا.

بدأ الاحتلال بعدها مرحلة الاستيطان وحرب الهوية الجزائرية، في اتجاه مألوف عند الفرنسيين في كل مكان تدخله زبانية جنودهم بغرس سمومهم من رواسب مسميات الحضارة [13]. وسعيًا إلى فرنسة المجتمع، باستهداف لغته ودينه وموروثه التاريخي والأخلاقي المحافظ.

شهد هذا القرن أبشع جرائم التصفية التي نفذتها آلة القتل الفرنسية في العزل من النساء والشيوخ والمدنيين، فاعتبرت فرنسا الجزائريين رعايا! نعم، رعايا ليسوا مواطنين كالفرنسيين المتمتعين بكل الحقوق التي يضمنها لهم القانون الاستعماري.

ارتكب العدو الغازي كافة ما يدل على زيف ادعائه بحمل الحضارة في العالم. أي حضارة هذه التي يكون فيها دم المسلم مستباحًا لنزوات الجنود الغاصبين [14]؟ وأي فنون هذه التي يتباهى بها عسكر فرنسا بقطعهم لرؤوس الجزائريين [15]؟ وأي حرية مرأة تتفاخر بها فرنسا وهي التي لم تُمحى جرائمها في اغتصاب الحرائر وبيعهن في المزاد العلني؟ وأي ازدهار هذا الذي حولت معه فرنسا مزارع القمح والمواد الأساسية الجزائرية إلى مزارع عنب توفر من ورائها إنتاجًا لخمورها مقابل موت المسلمين جوعًا؟ وأي تقدّمٍ هذا الذي صاحبه الموت بالمجاعة والكوليرا، والذي بقيت صوره أشباحًا تلاحق لعنتها عاصمة العطور المزعومة، وحفرت حقيقتها البشعة في ذاكرة التاريخ الحر؟

اقرأ أيضًا: من تاريخ حروب الإرهاب باسم نشر الحضارة، فرنسا في الجزائر!

وفي هذا المناخ برز الشيخ عبد الرحمن بن باديس [16] الذي كان من نعم الله على هذا الشعب؛ إذ أسس جمعية العلماء المسلمين التي قدمت خدمات محورية بحفظها للهوية الإسلامية العربية للجزائر، وفيها تربى جيل أوقد الثورة في وجه الاحتلال، والتي استمرت من سنة 1954م حتى إعلان الاستقلال.

كانت الثورة الجزائرية إسلامية الطابع، روت أصول الكرامة بدماء الملايين. ولكن فرنسا كانت قد ربت جيلًا من العملاء المتفرنسيين، ومكرت بجعلهم خلفائها، فورثها حزب جبهة التحرير الممثل للتيار الفرنكفوني فواصل محاربة الإسلام والهوية الجزائرية. ومع مرور الوقت، ازداد نفوذ العسكر الحاملين للجنسية الفرنسية من أعضاء الحزب ليرتموا أكثر فأكثر في أحضان فرنسا، وليشرفوا على نهب الثروات، الأمر الذي أنتج وضعًا اقتصاديًا متأزمًا، تصاعد معه مستوى الفقر في بلد تملك من الغاز والبترول ما يؤهلها أن تكون من أغنى الدول المنتجة للنفط.

أدت الأزمات الاقتصادية إلى حالة احتقان، بلغت ذروتها حين طالب الشيخ مصطفى بويعلي الحكومة بوقف الفساد، والعودة بالبلاد للهوية الإسلامية العربية، وذكّرها بشعارات الجهاد التي قامت عليها ثورة 1954. ومالبث أن أعلن الجهاد في وجه الفرنكفونيين، إلى أن قتلته الحكومة سنة 1974م. ثم تواصل النهب حتى فجرت الأزمة ثورة الخبز سنة 1988م، والتي دفعت الرئيس الشاذلي بن جديد إلى إعلان إلغاء نظام الحزب الواحد، وفتح الباب أمام تشكيل الأحزاب والمشاركة في الحياة السياسية.

شهدت الساحة الجزائرية في هذه اللحظة التاريخية فسحة من الحرية أنتجت نشاط كبير، أُنشِئت خلالها الصحف وأُسِست الأحزاب. وكان حماس مختلف الطيف الإسلامي بارزًا بعد طول عهد بالكبت وتكميم الأفواه الذي مارسته القوى القومية واليسارية منذ الاستقلال.

بعد بروز مكونات إسلامية وبداية نشاطها، عمت المجتمع الجزائري صبغة من الحيوية، وانهمر الجزائريون بعفوية لتأييد الخيار الإسلامي؛ فكانت نتائج الانتخابات البلدية صادمة للقوى العلمانية في الداخل والخارج بعد فوز الجبهة الإسلامية للإنقاذ في مرحلة أولى بأغلبية، بينما لم تتحصل الأحزاب العلمانية والشيوعية إلا على الفتات، وانطلق المسلمون في مباشرة خدماتهم في البلديات؛ حيث رأى فيهم الشعب من البذل والطيبة ما افتقدوه طيلة الحقب السابقة. وبدأ الإسلاميون في التحضير لخوض الانتخابات التشريعية، أين دقت نواقيس الفزع والخطر عواصم الاستعمار والقوى الغربية وأذيالهم خوفًا من هذا التفوق الذي عبّر عن خيار الأمة وبقاء تمسكها شعبيًا بدينها رغم كل المشاريع التغريبية الممارسة على جزائر الإسلام، التي أرادوها فرنسية، وأبت أن تكون إلا محمدية.

فتحركت قوى العسكر بإيعاز من القوى الصليبية، ووقع الانقلاب العسكري على الديمقراطية، وفُتِحت السجون، وبُنيت المعتقلات الصحراوية، وبدأت حقبة جديدة من فصول الديمقراطية العربية المدعومة غربيًا، ملؤها الإرهاب وقمع الشعوب واغتصاب الحقوق وتزييف الحقائق وفرض خيارات وأهواء المستعمر من جديد على شعب قال كلمته، فيالها من ديمقراطية دموية انقلابية ترحب بها فرنسا وتخطط لها وتدعمها!

4. تونس منارة الاسلام

لتونس تاريخ طويل من حمل لواء الاسلام ونصرة أهله وبث الدعوة في العالم، كما كانت مركزًا علميًا مشعًا عبر جامع الزيتونة [17] الذي مثل قِبلة لطلاب العلم والذي ساهم بدور كبير في تكوين العلماء والقادة وكان مرتكز أساسي في حفض الهوية الاسلامية وتمتينها داخل البلاد وخارجها، كما كان له دور في القضايا الكبرى المصيرية التي فيها تهديد الغزو الفكري الغربي خلال الحملات الاستعمارية المتتالية… أدركت فرنسا قيمة تشبث الشعب التونسي بدينه وقيمة الزيتونة كمؤسسة دينية مستقلة ووقوفها كسد منيع لرغبات التغريب وتحويل المجتمع الى كيان هجين لا صلة له بماضيه ولا وجهة مستقبلية له الا قيم الغرب ومعتقداته.

وبعد كدح ساهم فيه المجاهدون بالسلاح في وجه الآلة العسكرية الفرنسية، أدى الى إنهاكها وارتفاع خسائرها، اضطرت فرنسا الى جلاء عساكرها ليخلفها أحد المتربيين على ثقافتها المنبهرين بزيف رقيها والمنخلعين عن الجذور الحضارية الاسلامية، فألت رئاسة جمهورية الاستقلال المزعوم للحبيب بورقيبة، الذي شرع في محاربة كل القيم الحضارية التي وجد عليها المجتمع مستبدلا إياها بفتات المائدة الغربية، ففرض نزع الحجاب وألغى التعليم الزيتوني والديني وألغى نظام الأوقاف وأوقف المحاكم الشرعية ودفع المؤسسات التربوية نحو الفرنسة حيث أصبح تعليم اللغة الفرنسية مقرر منذ السنوات الابتدائية، مقابل تهميش العربية، وحلل الافطار في رمضان وكانت له شطحات وتخبطات كثيرة في سبيل سلخ الشعب وفصله عن كل ما يربطه بأصوله ومجد ماضيه، كان هذا من مقدمات تقديم البلاد التونسية لمستعمرها في قيد من التبعية يسهل معه استنزاف خيراتها وسرقة ثرواتها عبر اتفاقيات مهينة أمضاها بورقيبة عميل فرنسا الوفي ليبيح للغزاة نهب البلاد تحت حراسة أمنية مقنعة بالقانون.

أصبحت تونس بعد تشكيل ملامح دولة ما بعد الاستعمار في يد الهيمنة الخارجية التي يعمل لصالحها جنود من العملاء في السياسة والاعلام والتعليم والاقتصاد ودخلت تونس نفق العلمانية التي أصبحت عبء أثقل كاهل شعب ارتوت جذوره من نبع الدين الحنيف، وصاحب هذا التغريب قيام نظام دكتاتوري يعتمد طغيان الرأي الواحد للرجل الواحد فالحزب الواحد والخبر الاعلامي الواحد.

وفتحت السجون لكل كلمة حق، وقمع كل رأي خالف الفرعون، وعاشت البلاد حقبة من الوحشية داخل المعتقلات لم يسبق أن شهدتها بذلك التجبر، كان نصيب أصحاب الخلفية الاسلامية الأكبر فيها من حفلات التعذيب وأعدادهم أكثر في لائحة القتلى والمطاردين.

ثم وَرِث نظام بورقيبة دكتاتورٌ جديد، بعد ما هرم الأول، فأل الحكم الى زين العابدين بن علي، بعد انقلاب أبيض هندسته الاستخبارات الأمريكية [18] والغربية قطعت به أحلام الاسلاميين في البلوغ للسلطة في 1987/07/07م.

فواصل هذا مشوار سلفه فأسس دولة بوليسية تعتمد نظام الرجل الواحد والرأي الواحد والحزب الواحد، وأكمل طريق التغريب وحرب الهوية والدين [19] وفتح الأبواب للنهب والسرقة، فكان لعائلة الرئيس ومقربوه الامتياز في نهب أموال الشعب ومقدراته، وعاشت تونس حقبة استبداد وتفقير كان الناظر اليها يقول أن الشعب تغرب ولا يمكن بحال أن يثور على هذه القبضة الحديدية، حتى جاءت الثورة التونسية لتفاجئ الجميع، خرج الشعب يطالب بالحرية والكرامة وما لبثت الجماهير حتى زعزعت نظام الدكتاتور وكسرت حاجز الخوف وماهي الا أيام حتى هرب الطاغية خوفا من المد الشعبي المتصاعد فاستشعر الشعب لأول مرة زيف الأوهام التي كان يصورها الدكتاتور، ورغم ما تعرض له المجتمع من تهجين بقوة الحديد والنار والاعلام والتعليم خلال الاحتلال الفرنسي المباشر وفي مرحلة الاحتلال غير المباشر ما سمي بالاستقلال، الا أن الشعب بين أنه يقف في صف عقيدته وقد تجلى هذا عندما أتيح له الاختيار والحرية، فكانت الساحة الشعبية تشهد عودة شبابية كبيرة الى الالتزام، وسياسيا وقع اختيار الحزب الاسلامي، اعتقادا أنه سيحكم بالتشريع الاسلامي، وقد فاز بأغلبية.. أغلبية لم تكن وفية لجماهير اختارت عن طريقها خيار الهوية والجذور الاسلامية، فدخل الحزب الاسلامي في دوامة الديمقراطية والتدحرج في التنازلات.

ما مدى نجاح المحاولات المتواصلة لتهجين الأمة، وهل هي حوادث عابرة أم حرب متكررة؟

رأينا فيما سبق نماذج لمحاولات طمس الوجود الإسلامي، أو تغييب المسلمين وتحويلهم عن دينهم من أطراف خارجية أو داخلية، أو من اجتماع القوى الداخلية وتواطئها مع العدو الخارجي. لكن رغم عظم الكيد والمكر الذي رافق الحملات الغازية ومسلسل الخيانات والعمالة الداخلية، ورغم كمية الإفساد الذي شمل كل ما يمكن أن يوثق الفرد أو المجتمع بجذوره، ورغم مختلف الإغراءات المطروحة لتهوين التفلت والعمل على التقيد بدوام التبعية للغرب، بقيت الأمة جماهيريًا منحازة لدينها. وقد تختفي ملامح هذا الانحياز جماهيريًا تحت ضغط الحدث العاجل ووراء ستار الإعلام المضلل، وخلف أغلال الطغيان المتجبر ونزعة الفرعونية.

وقد يتراكم الرماد فوق الشعلة إلى أن يتوهمها ناظرها قد خمدت، بل قد يذهب المراقبون أو من يحترقون لوعة على حال المسلمين إلى أن الإفساد والاستبداد قد تمكن من طمس معالم هذا الدين، وأنه في طريقه إلى الزوال، وأن هذه الفرقة لن يجتمع شملها ولن تتوحد جهودها، وأن عدوها باستعلائه وعتاده وكيده قد أسر الأمة للأبد، وقد حقق مبتغاه وانتهت القصة، ليسقط المسلم في فخ الاستسلام للواقع المرير، وينسى أنه منتصرٌ ما لم يستسلم، وأن الأحزاب سيهزمون ويولون الدبر، وأن المعركة قد حسمت بوعد الله لأمة التوحيد؛ فيلهيه ظاهر الأحداث عن دوره فيها. وقد يعتقد أنها وقائع منفردة غير متصلة في التاريخ عبر مسار الصراع الأزلي بين الحق والباطل، وأن كسرى وقيصر وهولاكو، ولينين وأتاتورك وشارل ديغول، وبدر وأحد والخندق، والقادسية واليرموك وعين جالوت و… هي أحداث وشخصيات متناثرة لا صلة بينها ولا رابط مع ما تحياه الأمة من غزو وهيمنة اليوم. فقد أعلنها الجنرال مورو حين دخل القدس فقال: “ها قد عدنا يا صلاح الدين”، وكأنه يقول هذه جولة من الصراع القديم الجديد. وها هو بوش يزل مرة [20]، ثم تتابعت زلاته ليعلنها صراحة أنها حرب صليبية [21]، حربٌ تختفي اليوم خلف شعارات جديدة لنفس المكيدة، تحمل طابعها الخارجي والداخلي، لها أصلها المتصل بجذور الصراع، منه ترتوي، وعلى شاكلته ستحسم.

﴿وَاللَّهُ غَالِبٌ عَلَى أَمْرِهِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ﴾.

لمحة عن التحديات المعاصرة التي يواجهها المسلمون

تعيش الأمة اليوم حملة احتلال معاصر يمثل تحديًا جديدًا للمسلمين، تحديًا لصد هذه الموجة الاستعمارية العاتية، حملة متعددة الأهداف، على اعتبار أن أرض الإسلام تحوي خزان الثروة الطبيعية للكرة الأرضية، الأمر الذي يجعل مطامع الغزاة في الهيمنة على منابع النفط الموجودة فيها هدفًا استراتيجيًا، وبالتالي عسكرة المناطق التي يمر منها النفط لبقية العالم؛ ما يعني تواجدًا عسكريًا مكثفًا يخنق الدول النفطية، ويتحول إلى مهدد فعلي وتواجد خارجي دائم له قواعده وأساطيله.

وبالتالي، يكون تدجين الشعوب الإسلامية من أولويات قوى الغصْب العالمية؛ لما في الدين الإسلامي من عوامل التحرر والانعتاق من كل غازٍ خارجي وطاغية داخلي، ولكون الإسلام هو السد المنيع المتبقي أمام آلة المسخ الغربية المعاصرة للفطرة البشرية، وللرصيد الأخلاقي الإنساني، مع تغذية هاجس الصليبية في غزوها المقدس المزعوم القادم تحت مصطلح صراع الحضارات، وتوجيه الصراع عبر تشويه القيم وإفراغ المفاهيم من مقتضياتها في إطار حرب أفكار يقودها العقل الاستعماري لهز الدين في نفوس المسلمين وكنسه من وجدانهم، واستلاب روحه الدافعة المتحررة لإنتاج مسلم معاصر مستهلك لكل الشذوذ الغربي، منسلخ عن دينه، محايد في قضايا أمته المصيرية، وبث أذناب المحتل من المهزومين أمام الحضارة الغربية من أبناء العرب ليشككوا في ثوابت الدين، ويعملوا بكل جهودهم لزرع الريبة فيما استقر عليه الضمير المسلم، ولتنمية الغثائية عبر السيطرة على المؤسسات الدينية الرسمية والمناهج التعليمية، وتوجيه المنابر الإعلامية والثقافية، والعمل على الإلهاء المتواصل.

وإجمالًا، تواجه الأمة الإسلامية اليوم صراع بقاء ومعركة تستهدف ثوابتها: صراعٌ يمثل جولة جديدة تستوجب حشد كل الجهود والطاقات على اختلافها واختلاف تخصصاتها وميادين نشاطها، وهو رهان جديد ينتظر روح المسلم المتعالية على الصعوبات والمتحدية للعوائق والعقبات. صراع يستوجب أن تذوب الخلافات الجانبية، وتوجه الأنظار إلى الهدف السامي، هدف تحرير الأمة من المهيمن الخارجي الذي يدعم بقاء أذنابه ووعملائه على رأس الدول الإسلامية، ثم تحرير الشعوب من ربقة العبودية والطغيان، ثم العودة بها إلى الصفوف الأولى ومكانها الطبيعي؛ لتقود البشرية بالمنهج الرشيد.

المصادر

مؤمن سحنون

أرجو أن أكون من الساعين لأن ننال يوما الحرية، الحرية بمعناها الشامل لأمة تعرف رسالتها.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى