تاريخ الإسلام في شمال أفريقيا: من الفتح إلى قيام الدولة العبيدية

احتضنت منطقة شمال القارة الأفريقية جزءًا كبيرًا من العالم الإسلامي، وشهدت على امتداد محور الزمن تحولات تاريخية كبرى وقيام دول جمعت شتات المسلمين ثم انهيارها، قد جرت عليها سنن الله في الأرض، إلى أن وصلت إلى ما وصلت إليه اليوم منقسمة لدول وحكومات في مشهد فرقة للأمة الإسلامية يتطلب دراسة واهتمام.

سنتناول فيما يلي تاريخ المنطقة وحاضرها، على أجزاء متتالية، بدايتها منذ الفتح الإسلامي إلى غاية سقوط دولة الأغالبة. والتي تمتد منذ سنة 27هـ إلى سنة 86هـ (من 647 إلى 705م).

الفتوحات الإسلامية الأولى

بدأ البعث الإسلامي في التمدد داخل الديار الأفريقية منذ فتح عمرو بن العاص -رضي الله عنه- مصر وكان ذلك في عهد أمير المؤمنين عمر بن الخطاب -رضي الله عنه-، ثم التفت القائد المظفر إلى برقة، فسيّر لها جندًا بقيادة أمير جيوشه آنذاك؛ القائد الفذّ عقبة بن نافع الفهري، فدخلها على الأرجح صلحًا، ثم اتجه إلى زويلة فاستولى عليها، وجعلها مركزًا تخرج منه سراياه إلى بقية البلاد.

وقاد التخطيط النجيب في عام 23هـ (543م) إلى أن يخرج عمرو بن العاص من مصر في جيش كثيف لفتح أفريقيا ودحر الروم. ففتح برقة وطرابلس وأثناء ذلك ندب عمر بن الخطاب، بسر بن أبي أرطأة لغزو ودّان فتمكن منها صلحًا، لكن أهلها نكثوا العهد بعد خروجه، وبينما كان عمرو يتقدم حتى أصبح على أعتاب التوغل في أفريقيا، جاءه أمر من أمير المؤمنين عمر بالكفّ والعودة إلى مصر.

وجاء قرار عمر في وقت أرهقت فيه معظم الجيوش الإسلامية في بلاد المشرق في دحر دولتي الروم والفرس فخشي الخليفة الراشد على جنده في أفريقيا أن يتورطوا في هذه المنطقة دون أن يتمكن من نجدتهم وإرسال المدد إليهم، فكان أن استجاب عمرو لأمر أميره وترك حامية لحراسة طرابلس من أي عدوان محتمل ثم قفل عائدًا إلى أرض مصر.

وفي عهد عثمان بن عفان رضي الله عنه، كتب الخليفة الجديد لعمرو بن العاص وطلب منه الاستعداد، وأرسل إليه أخاه من الرضاع عبد الله بن سعد بن أبي سرح لولاية الجند في أفريقيا. وفي كتاب النجوم الزاهرة وأنساب الطبقات لابن سعد ذكره باسم الحسام بن الحارث بن حُبيب.

وخرج عبد الله بن سعد إلى أفريقيا في عشرين ألفًا في أواخر سنة 29هـ (649م)، وفتحها في أوائل سنة 30هـ (650م) برفقة أكابر الصحابة وفقهائهم رضي الله عنهم؛ كبعد الله بن عباس وعبد الله بن مسعود وعبد الله بن الزبير وغيرهم رضي الله عنهم، وفي ذلك الدرس والمثل لعلو الهمة والمسابقة لساحات الجد من صحابة رسول الله صلّى الله عليه وسلم.

وتقدم الجيش المبارك في أرض أفريقيا من ناحية قابس، فحاصرها أيامًا ثم اجتازها ليتوغل في عمق البلاد حيث اصطدم مع الروم فسجل النصر المهيب عليهم، ثم اتجه إلى سبيطلة وكان حاكمها الأمير غيرغوار (جرجير) المنشق عن قرطاجنة، فانتهى أمره بالقتل، وسيطر المسلمون على سبيطلة منتصرين على 120 ألف مقاتل من جيش الروم.

واستمر جيش المسلمين في التقدم والفتح، لكن على إثر الفتنة التي اشتعلت في عصر عثمان بن عفان والتي أودت بحياته رضي الله عنه، وما أعقبها من أزمة بشأن قرار الخلافة، كان منطقيًا أن نرى تبعاتها بنقض الأفارقة العهد.

الفتوحات الإسلامية الثانية

بعد أن استتب الأمر في عصر معاوية بن أبي سفيان رضي الله عنه؛ شقيق أم المؤمنين أم حبيبة رضي الله عنها، تجدد البعث لديار أفريقيا بعد 8 سنين من الانقطاع، فأوكل الخليفة الجديد ولاية مصر لمعاوية بن حديج السكوني في عام 46هـ (666م).

وكان أول ما قام به بعد دخوله مصر إرسال والي برقة آنذاك القائد عقبة بن نافع، بهدف رصد أفريقيا ودراستها واختبارها، فسار معه في الحملة التمهيدية 400 فارس أعادوا فتح الديار التي ارتدت عن الإسلام أو نقضت العهد، وكانت سياسة عقبة في الفتح أن يترك بعد خروجه من يعلّم الناس دينهم، فيضمن ثباتهم على بالإسلام، وبعد رحلة من النجاحات حفّتها معية الله وتوفيقه قفل عائدًا إلى زويلة، رافعًا راية الإسلام. واعتمادًا على تقرير عقبة قرر معاوية أن يخرج عامله على مصر في حملة جديدة وهذه المرة في عشرة آلاف مقاتل، كان بينهم من الأكابر عبد الله بن عمر بن الخطاب، وعبد الله بن الزبير رضي الله عنهم، ولما سمع بخبره الروم أخرج قيصر الروم جيشًا من 30 ألف مقاتل؛ مددًا لعامله سبستيان في قرطاجنة.

فسطر المسلمون ملاحم بطولية وانتصارات خالدة، فتحوا على إثرها سوسة وجلولاء واستمر الحال في بطولات وانتصارات مهيبة حتى تم للمسلمين فتح بلاد الساحل وقسم من الوسط والجنوب، بما في ذلك بنزرت وجزيرة جربة. وبينما ارتفع ذكر معاوية بن حديج بالفتوحات المتعاقبة في أفريقيا، استدعاه معاوية فاستجاب له تاركًا البلاد في خطر، فاستغل البربر الظرف وشقوا عصا الطاعة.

الفتوحات الإسلامية الثالثة

فاستلم بعد ذلك عقبة بن نافع الفهري راية الفتوحات وكان عامل برقة وزويلة، وخرج في عشرة آلاف فارس عام 50هـ (670م) ليجد أن الكثير من الأفارقة ارتدوا عن الإسلام وعاثوا في الأرض فسادًا، فأعاد فتح ودّان وقفصة وقسطيلية ومناطق أخرى، ودانت له قبائل البربر بالطاعة، فأسلم على يده الكثير من العباد. وجعل بينهم المعلمين لتعليمهم الدين القويم.

تأسيس مدينة القيروان

كان من إنجازات عقبة إنشاء مدينة القيروان، حيث جمع أصحابه قبيل تأسيسها وخطب فيهم قائلًا: “… إن أهل هذه البلاد ضعفاء الأخلاق تنقصهم العزيمة، إذا عضهم السيف أطاعوا وإذا رُفع عنهم عصوا وعادوا إلى ما كانوا عليه من عاداتهم وأديانهم، ولست أرى أن ينزل المسلمون بين أظهرهم ثم يرتحلوا عنهم رأيًا سديدًا مسلمًا، بل لابد من إقرارهم لتمكين الإسلام في البلاد، وقد رأيت في ذلك أن أبني مدينة للمسلمين تكون عمادًا لهم في أمورهم وملاذًا يصيرون إليه…”.

واختار لهذه المدينة موقعًا لا تطرقه مراكب الروم ولا تملكه على المسلمين، وكان موقعًا كثيف الأشجار فأمر بقلعها وتنظيفها، وبدأ ببناء دار الإمارة والمسجد. وما أن بلغ عام 55هـ (674م) حتى أنشئت القيروان فعمّرت وبُني حولها حصن حصين، وتحولت لمركز تُساس منه البلاد الأفريقية كعاصمة ومركز للجيش.

وكان من بركات هذا المشروع إقبال المسلمين للتعمير والبناء فألفهم الأفارقة وتأثروا بأخلاقهم وبالإسلام، فانصرفوا عن الروم.

إجراءات قيادية

وتمكن عقبة بن نافع من تحقيق استقرار امتد أثره للجوار ومع ما أظهره من عبقرية في الفتح والإصلاح إلا أنه تمت تنحيته مع استلام مسلم بن مخلد الأنصاري ولاية مصر. وجعل بدله مولاه أبا المهاجر. وبغض النظر عن تفاصيل هذا العزل الذي وصفه البعض بالجائر، على الرغم من إهمال القائد الجديد القيروان وانطلاقه من مدينة تكران، وسجنه لعقبة بحسب بعض الروايات، إلا أنه مضى في خطته قدمًا في الفتوحات وتثبيت أقدام المسلمين في أفريقيا وبلاد المغرب، وسارع للعمل وهو لم يلق عنه بعد وعثاء السفر، فخرج بنفسه في الجيش، وفتح العديد من البلاد حتى بلغ تلمسان وأضحى كابوسًا للروم.

لكن الله كتب لعقبة بن نافع مستقبلًا آخر، فبعد سجنه على يد أبي المهاجر على إثر عزله استدعاه معاوية -وفي رواية ابن الأثير يزيد- إلى دمشق فأكرمه بحفاوة وبعد مناقشة بشأن أفريقيا أعاده إلى الولاية من جديد، وأمّره على أبي المهاجر!

عقبة النبيل في القيادة من جديد

رجع عقبة إلى القيروان في عام 64هـ (683م) وعلى عكس ما يعتقد البعض فقد أحسن إلى أبي المهاجر وجعله من ملازميه. وأمره بإعادة العاصمة للقيروان والإعراض عن تكران.

وأعد عقبة بن نافع نفسه لهذه المرحلة خير الإعداد فدعا زهير بن قيس، واستخلفه على القيروان مع ما يكفيه من الجند ثم خاطبه بمحضر بنيه قائلًا:

إني بعت نفسي من الله عز وجل، فلا زلت أجاهد حتى أخلص أفريقيا من مخالب الكفر وإرجاعها دار إسلام أو أقضي دون ذلك.

ومن المهم الإشارة إلى وصيته لأمرائه قبل الخروج حيث أمر بإتمام الإصلاح الذي شرع فيه من تعبيد الطرق وبناء المساجد وتأمين السبل وتفقيه الدهماء وتقليد الأعمال لذوي البصائر والاستعانة بخيرة المجربين منهم.

وخرج عقبة في جيش عظيم إلى مدينة باغاية، أين كان ينتظره بالمقابل حشد عظيم من الروم والبربر. فغلبهم بفضل الله واستمر في فتح ونصر حتى بلغ قسنطينة فسيطر عليها، ثم قصد المغرب الأقصى فاستقبله الكونت أليان (جوليان) حاكم الجزيرة الخضراء في الأندلس بالصلح، واستمر في فتح ونصر حتى ظفر بطنجة، وبعد أن فرغ من السوس الأدنى توجه إلى السوس الأقصى، ففتحها بلدة بلدة حتى بلغ درعة ومليان وهي آخر أرض المغرب على المحيط فأقحم فيه فرسه وناجى ربه مناجاة الأتقياء المتبتلين وهو يقول: “اللهم إنك تعلم أني أريد أن لا يعبد على وجه الأرض أحد سواك، ولو كنت أعلم أن وراء هذا البحر أرضًا لوطأتها، أذكر فيها اسمك العليّ العظيم، اللهم اشهد أني قد بلغت عذرًا”.

استشهاد القائدين معًا

مسجد عقبة بن نافع في القيروان.

وبعد الانتصارات الهائلة التي حققها عقبة، وبعد أن ذاق البربر طعم الحرية ورقي الإسلامي، اصطدم القائد المظفر بخيانة كسيلة، وهو زعيم قبيلتي الأوربة والبرانس.

فحين قفل عقبة عائدًا إلى القيروان أسبق جنده إليها وتخلف عنهم في نحو ثلاثمائة نفر من خاصته، من بينهم أبو المهاجر دينار، فرأى كسيلة بن لمزم في ذلك فرصة مواتية للغدر برجل مؤمن لم يألف الهزيمة، فهاجمهم وقتل عقبة وأبي المهاجر معًا في هذه الواقعة، فكانت خاتمة الفداء. ومما يجدر تسجيله في هذا المقام بفخر، أن أبا المهاجر كان كما حسبه عقبة، فقد رفض أن يترك أميره لوحده عندما طلب عقبة منه الفرار، بل سابقه إلى الشهادة في سبيل الله وأبى إلا النزال فأكرم الله القائدين معًا في نفس المعركة بخاتمة الأبطال.

وأربكت هذه الحادثة الصف الإسلامي فاضطرب، وانتهى الأمر بتمزقه، فاستولى كسيلة على ولاية أفريقيا، وحكمها باسم البربر، إلى أن رجع زهير بن قيس وفتحها من جديد في عصر عبد الملك بن مروان، حيث قلده المهمة بعد إعداده وتجهيزه في سنة 69هـ (688م). فهزم كسيلة وتوسع في البلاد وسيطر على مناطق لم تكن بيد المسلمين من قبل.

الصراع مع الكاهنة

وبعد أن استتب الأمن وأسلمت البلاد لأمر الله، ترك زهير الإمارة، فقد كان الزاهد الناسك المحب للجهاد وملاقاة الأعداء لا يريد أن يألف عيشة الملوك. ومهد بالفعل لمن يخلفه، ثم رجع إلى برقة يتربص بالروم إلى أن قتل مقبلًا غير مدبر أثناء محاولته إغاثة جماعة من المسلمين تعرضوا لاعتداء من الروم، وكان ذلك في عام 69هـ (688م).

في هذه الأثناء اجتمع الأفارقة على زعامة امرأة منهم تسمى الكاهنة من جبل أوراس وتسمى دِهية ابنة ثابتة بنت تيفان، فخرجت تطالب بدم كسيلة، وتدعو لطرد العرب من البلاد، وبينما عزمت على قلب نظام أفريقيا، كان عبد الملك بن مروان منشغلًا بالمشاكل السياسية في المشرق. لكنه سرعان ما انتدب لولاية أفريقيا حسان بن النعمان الغساني. فخرج القائد الجديد برفقة 40 ألف مقاتل، ودخل مصر سنة 76هـ (696م) واختُلف في تاريخ دخوله. لكنه بالتأكيد عمل بجد على افتكاك قرطاجنة من يد الروم. وتحقق له ذلك في عام 78هـ (697م) بعد حرب ضروس. ليدخلها حسان بعد النصر بأخلاق الفاتحين الجليلة.

ثم فتح مدينة تونس، وكانت قد ارتدت بعد أن فتحها زهير بن قيس. وشيّد فيها جامع الزيتونة، وارتفع على إثر ذلك ذكر حسان في البلاد بحسن القيادة والعناية بأمر الجند والرعية وقدرته على التغلب على المكائد والإثخان في الروم.

لكن في هذه الأثناء كانت الكاهنة تترقب تحركاته وتستفيد من استنزافه في قتال الروم، وأخذت تجمع قواتها في جبال أوراس جنوب قسنطينة. ولم يكن تربصها يغيب عن ذهب حسان الذي سارع للخلاص منها بالقتال لكنها هزمته، وكانت هزيمته هذه أشنع ما مني به العرب في أفريقيا، وأول انكسار سجله لهم التاريخ. لكن القائد العربي الأبي الأصيل حمل الإصرار على هزيمتها، فكتب للخليفة يطلب المدد للهجوم عليها من جديد، قائلًا:

إن أمم المغرب ليس لها غاية ولا يقف أحد منها على نهاية كلما بادت أمة خلفتها أمم، وهي من الحفل والكثرة كسائمة النعم.

فاستجاب لطلبه الخليفة ووعده بإرسال المدد، لكنه أثناء انتظاره لهذا المدد عاثت الكاهنة في الأرض فسادًا، وخرّبت المدن وقطعت الأشجار على أمل أن يرهب ذلك المسلمين، فلا يطمعوا في البلاد. وهرب أكثر الأفارقة المنكوبين إلى الأندلس وغيرها. وهكذا تحولت ولاية أفريقيا التي تزدان بجمالها وعمارها إلى خراب! حتى وصل الأمر بأن استغاث الروم بحسان يشكون له ظلم الكاهنة، وتوالت عليه المناشدات بالنجدة ورد عدوان الكاهنة من كل مكان حتى من جموع النصارى.

هزيمة الكاهنة

وانتظر حسان المدد بصبر ومصابرة لمدة 4 سنين أو أكثر فلم يصله إلا بعد أن بلغ دمشق ما فعلته الكاهنة، فسارع عبد الملك إلى إعانة عامله. وما أن وصل الجند، هجم حسان على الكاهنة فهزمها هذه المرة، بعد معركة شرسة حاسمة، ولما تشتت شمل جند الكاهنة فرت هي للنجاة بنفسها، فتبعها حسان حتى ظفر بها في طبرقة. وقضى عليها للأبد بعد أن جعلها بعض الأفارقة آلهة!

وصفت بعد ذلك البلاد لحسان، وأسلم له خلق كثير، ودخل القائد المنتصر إلى القيروان دخولًا يليق بمقام الظفر وذلك في عام 82هـ (701م)، فشرع في إصلاح البلاد من الناحية السياسية، ونظم أمورها وحكمها بالشريعة الإسلامية. كما اعتنى بالقوة البحرية فأنشأ أسطولًا يروم به فتح بلاد الروم خلف البحر.

حسان يرفض العودة للإمارة

وبعد جهود جبارة بذلها حسان في إصلاح البلاد وتقويتها والرقي بها، بلغ عبد العزيز بن مروان -وكان أخو عبد الملك وعامله على مصر- ما وصل إليه حسان من شعبية وشهرة بين أهل أفريقيا، فوشى به للخليفة على أنه يريد الانفصال عنه، فسارع الخليفة لعزله عن الولاية، ثم حين حاول الوليد بن عبد الملك أن ينصفه بعد أن علم أن قائده الفذّ قد ظلم، وأراد أن يرده لعمله والإمارة من جديد رفض حسان ذلك قائلًا:

لا تفعل فإنما خرجت إلى المغرب لإعلاء كلمة الله وقد فعلت وليس مثلي من يخون الله والخلفاء، وأقسم أني لا ألي أبدًا عملًا لبني أمية.

عصر الولاة (86 – 184هـ / 705 – 800م)

ولاية موسى بن نصير

بعد عزل حسان عن أفريقيا ورفضه العودة من جديد، ظهر موسى بن نصير بمساعي عبد العزيز بن مروان على غير رغبة من عبد الملك. فما أن وصل إلى القيروان، دعا الناس إلى المسجد، وخطب فيهم خطبة بليغة، ختمها قائلًا:

وأيم الله لا أريم هاته القلاع والجبال الممتنعة حتى يضع الله أرفعها ويذل أمنعها ويفتحها على المسلمين بعضها أو جمعها أو يحكم الله لي وهو خير الحاكمين.

وانطلق موسى في عمله ابتداءً بتنحية قائدين سابقين فثار عليه البربر، فجمع جيشه وقاتلهم وفي صفوفه أبناء عقبة بن نافع لينتقموا لمقتل أبيهم، واستمر موسى في عراك وصراع مع البربر حتى انتهى الأمر إلى الوفاق بينهما، وإنصاف موسى لهم لقاء إخلادهم لأمره.

وندب طارق بن زياد البربري النفزي للولاية على المغرب، وأقامه بينهم في طنجة مع سبعة عشر ألف فارس من العرب والبربر. وفي هذه الأثناء صعد لعرش الخلافة الوليد بن عبد الملك بن مروان بعد وفاة والده الخليفة.

غزوة الأشراف

أعد موسى مائة مركب وجهزها ثم دعا عساكره ليتأهبوا للغزو في البحر لحماية البلاد من أي غزو خارجي، وعقد اللواء لابنه عبد الله. وسميت هذه الغزوة بغزوة الأشراف؛ حيث لم يتخلف عنها أحد، وهي أول غزوة بحرية للمسلمين في أوروبا بعد استقرارهم في أفريقيا. ولم يخب ظن موسى فقد تكللت غزوتهم بالنجاح وأصابوا من الروم مغانم كثيرة، ثم عاد الجيش ظافرًا إلى أفريقيا.

وكانت تلك خطوة ضرورية لاستباق كيد الروم بعد دحرهم في المشرق والمغرب. وهنا برز القائد الفذ طارق بن زياد الذي فتح الأندلس مع ما كان من تفاصيل طويلة في هذا الباب.

وبعد استلام سليمان بن عبد الملك الأموي الخلافة، وكان ضعيفًا لا يدرك مآلات الأمور ولا معادن الرجال في القيادة، اشتعلت الفتن في المشرق، وسرعان ما تسلل لهيبها إلى المغرب، وكان من ذلك عزل عبد الله بن موسى بن نصير. واستلم بعده -بأمر من الخليفة سليمان- عبد الله بن كريز ولاية أفريقيا، وقيل محمد بن يزيد القرشي، وكانت ولايته تمتد من برقة إلى السودان والمغرب وبحر الزقاق إلى بلاد قشتالة من أرض الأندلس، وخضع له النصارى والبربر فمنهم من اعتنق الإسلام ومنهم من دفع الجزية. وكان في البلاد آنذاك الكثير من النصارى من أهل الذمة استمروا على نصرانيتهم إلى ما بعد المئة الرابعة ثم أسلموا جميعًا. وكان الإسلام هو الدين الغالب.

ولاية إسماعيل بن عبد الله بن أبي المهاجر

بعد وفاة الخليفة سليمان بن عبد الملك استلم شؤون المسلمين الخليفة العادل عمر بن عبد العزيز، فوضع إسماعيل بن عبد الملك بن عبد الله بن أبي المهاجر مولى بني مخزوم على أفريقيا، والذي تعد ولايته من أجمل أيام الدهر على أفريقيا وملحقاتها؛ فقد امتاز بنشر العلم والتهذيب وتوزيع الفقهاء والمعلمين على البلاد بمدد من عمر بن عبد العزيز. ففتح الله عليه وعلى الفقهاء الذين أرسلهم إليه عمر، وحل العلم والاجتهاد محل الجلاد والطراد.

مولى الحجاج في أفريقيا

وارتقت القيروان وتونس وبجاية وتلمسان وإشبيلية واشتهرت بفضل العلم والمعرفة. لكن بعد وفاة عمر بن عبد العزيز ثم استلام يزيد بن عبد الملك الخلافة كان له تبعات مصادمة.

حيث ندب الخليفة الجديد إلى ولاية أفريقيا يزيد بن أبي مسلم، مولى الحجاج. يحمل من العراق ما ورثه عن معلمه الحجاج بن يوسف الثقفي، فشرع في تجريد الأفارقة من حقوقهم وعمل على إرجاع معاملة من أسلم من أهل الذمة في أفريقيا إلى ما كانوا عليه قبل الإسلام فردهم إلى مدنهم وقراهم ووضع الجزية على رقابهم. فأدى ذلك إلى تآمر البربر المسلمين عليه فقتلوه وأعادوا إلى الولاية سلفه ابن يزيد الأنصاري. وأقرهم على ذلك يزيد حتى هدأت البلاد ثم جعل عليهم بشر بن صفوان الكلبي. لكن الأخير لم يستقر إلا مدة يسيرة.

إهمال البربر يستجلب عداءهم

عرفت البلاد بعد بشر الاضطراب بتولي قادة أهملوا البربر واستجلبوا عداءهم. حتى تولى عبيد الله بن الحبحاب الحكم، فاشتعلت في زمانه الحرب بين العرب والبربر وهلك فيها خلق كثير وتعطلت الفتوحات بل وصل الأمر إلى أن فلتت الأمور من يد الولاة العرب، فغضب هشام بن عبد الملك واستبدل ابن الحبحاب بكلثوم بن عياض القشيري.

وسيّر معه جيشًا من 12 ألف مقاتل. لكن بعد أن سار كلثوم إلى وادي سبو في ثلاثين ألفًا من خيرة الجنود، هُزم هزيمة كبيرة على يد البربر، وقتل كلثوم وقادته وبلغ عدد القتلى العرب في هذه الواقعة الأليمة ثمانين ألف مقاتل. وانهزم من بقي منهم، فذهب جند الشام إلى الأندلس وجند مصر إلى أفريقيا وخلا الجو للبربر. فكانت فتنة عظيمة تقلص على إثرها ملك الأمويين في أفريقيا.

غزوة الأصنام

لما بلغ الخليفة هشام مقتل كلثوم وراعه حجم الهزيمة المريرة أمام عصبية البربر التي أثيرت فتنتها في ولاية أفريقيا، كلف عامله حنظلة بن صفوان الكلبي أخا بشر بحكم البلاد، فوصل إلى القيروان عام 124هـ (742م).

وتمكن حنظلة من البربر الخارجين عليه في غزوة الأصنام في عام 124هـ (742م) حتى قال المؤرخون إنه لم يقتل في أي حرب من حروب الفتح أكثر مما قتله حنظلة، حتى أن الناس عجزت عن إحصاء القتلى على يده، وقيل بلغ عدد القتلى 180 ألف فضلًا عن الأسرى بما فيهم القادة، ونقل عن الإمام الليث بن سعد قوله في هذه الغزوة الشهيرة:

ما غزوة كنت أحب أن أشهدها بعد غزوة بدر أحب إليّ من غزوة الأصنام والقرن.

كما ذكر ذلك ابن الأثير وابن عذاري.

انفصال ولاية أفريقيا عن الأمويين

ولكن لم يستقر الأمر لحنظلة بن صفوان الكلبي بعد انتصاره في القيروان، فقد خرج عليه عبد الرحمن بن حبيب بن أبي عبيد الفهري، فرحل حنظلة إلى المشرق والتف العرب ومن بقي على إسلامه من البربر حول عبد الرحمن فدخل بهم القيروان سنة 129هـ (747م) وأعلن فيها استقلاله عن الدولة الأموية لمنع خروج البربر عن العرب. وكان الأمويون آنذاك منشغلين بالفتن في المشرق في حرب الخوارج والعباسيين.

أديان ونحل جديدة لمقاومة الإسلام

ومع إخفاق البربر في طرد العرب والتخلص منهم أظهر دهاتهم أديانًا جديدة لمنافسة الإسلام، كما فعل البرغواطي الذي اخترع دينًا جديدًا بإحداثه تغييرات جذرية على أحكام الإسلام توائم أهواءه.

واستمرت برغواطة ومن والاها على الدين الجديد إلى أن استلم الحكم تميم اليفرني بعد سنة 420هـ (1030م) فهزمهم وحملهم على الإسلام وقضى على النحلة البرغواطية تمامًا كما كان مصير الديانات الأخرى التي ظهرت في المنطقة فكتب الله لها الأفول.

واستولى عبد الرحمن بن حبيب الفهري على الحكم بعد ذلك، فأقره عليه مروان بن محمد بن مروان الجعدي عندما استلم الخلافة، وكان عبد الرحمن موفقًا في جميع حروبه مع البربر والروم وتمكن من إخماد الثورات عليه، فلم ينهزم له جيش، بل دوخهم جميعًا وفرض عليهم الطاعة.

في عصر الخلافة العباسية

ثم سقطت الدولة الأموية وقامت على أنقاضها الدولة العباسية فأقر أبو جعفر المنصور عبد الرحمن على أفريقيا. لكنه خلع بيعة العباسيين عندما اختلفوا على أمر الغنائم والسبي حيث قال عبد الرحمن للخليفة العباسي: “أفريقيا اليوم كلها دار إسلام وقد انقطع السبي والجزية، فلا تطلب مني شيئًا من ذلك”، فغضب المنصور وتوعده. وأعقب ذلك اقتتال وثورة عنيفة للبربر الذين عاثوا فسادًا في الأرض وأحدثوا من الموبقات والمخازي الشيء الكثير ونكلوا بمن أسلم من البربر والعرب، واضطربت البلاد. وفي هذه الأثناء ظهر عبد الرحمن الداخل فاقتطع الأندلس من أفريقيا. بينما انتقلت ولاية أفريقيا من محمد بن الأشعث إلى الأغلب بن سالم بن عقال بن خفاجة التميمي، وكان مع أبي مسلم لما خرج على الأمويين.

فبلغ القيروان سنة 148هـ (765م) واستقام له الحال وخضعت له البلاد. لكنه لم يستمر طويلًا حيث قُتل واستلم الحكم بعده عمر بن حفص بن أبي قبيصة المهلبي وهو ولد قبيصة بن أبي صفرة أخي المهلب. ويقال نسب إليه لشهرته. فنزل في القيروان سنة 151هـ (768م) ومعه خمسمائة فارس، فثار عليه البربر. وكانت لديهم نزعة انفصالية تغذي ثوراتهم.

وذكر الإمام ابن جرير الطبري أن عدد البربر الذين تألبوا على قتال العرب في هذه الواقعة كان 350 ألف وكان عدد فرسانهم 35 ألف. وروى ابن القطان في “نظم الجمان في تاريخ القيروان” أن عدد الوقائع التي تقاتل فيها العرب مع البربر منذ استلام عمر بن حفص إلى انقضاء فتنتهم 375 واقعة، وهي فظائع منكرة يشيب لهولها الولدان.

وقتل البربر عمر بن حفص، فلما بلغ أبو جعفر المنصور ما نزل بالعرب في أفريقيا ومقتل عامله عمر، غضب غضبًا شديدًا وأرسل يزيد بن حاتم في 60 ألف مقاتل، من أفضل جند خراسان والعراق والشام، فقتل البربر الخارجين شر قتلة حتى أحصى ابن الأثير عدد من قتل منهم بثلاثين ألف في المعركة. وتتبع قادته قتلة عمر بن حفص مدة شهر كامل حتى أذاقوهم وبال أمرهم. فانتظمت البلاد على يديه وجددها وعمّرها. ثم خلفه ابن داوود، إلى أن استعمل هارون الرشيد عمه روح بن حاتم المهلبي فتخلى له عن الولاية وكان قد اتهم بالتهاون في أمر إدريس الأكبر.

دولة الأدارسة تقوم في المغرب

اتفق المؤرخون على أن دخول إدريس الأكبر إلى المغرب كان سنة 179هـ (787م) وهو إدريس بن عبد الله بن الحسن السبط ابن علي بن أبي طالب، قدم إلى المغرب بعد مقتل ابن عمه الحسين بن علي بن الحسين بن علي بن أبي طالب في واقعة فخ (وادي في مكة)، أيام ولاية يزيد بن حاتم على أفريقيا. فأحبه البربر وبايعوه وتم أمره بالطاعة له في عام 173هـ (790م) وبايعته قبائل تازة سنة 174هـ (791م)، ليستقل بحكم المغرب الأقصى. وشهدت دولته نهضة علمية حضارية بارزة.

في هذه الأثناء عيّن هارون الرشيد عدة ولاة له في أفريقيا من بينهم الفضل بن روح بن حاتم بن قبيصة المهلبي في عام 176هـ (792م) والذي شهد عصره صراعًا وفتنة عبد الله بن الجارود، التي انتهت بسجنه. واستمرت الولاية مضطربة بولاة ضعفاء يخرج عليهم المتمردون إلى أن استولى إبراهيم بن الأغلب على الحكم ودخل القيروان في حفل عظيم وأقره على الحكم هارون الرشيد، وجعل الولاية وراثية في عقبه. لتبدأ مرحلة الدولة الأغلبية.

عصر الدولة الأغلبية (184 – 296هـ / 800 – 909م)

كان إبراهيم بن الأغلب نعم الوالي الفذّ لأفريقيا، فقد خضعت له قبائل البربر ودانت له بالطاعة واستقامت. فبنى لنفسه مدينة جديدة عاصمة لها سماها العباسية. ومع أن بعض العرب ثاروا عليه إلا أنهم سرعان ما هدأوا.

وكان إبراهيم يرى امتلاك القلوب بصنوف البر أهون عليه من استعمال السيف لكنه ما كان يتأخر عن وضعه في رقاب البغاة إذا لم ينفع فيهم المعروف. وكان من أبرز أعماله إنشاء جيش من الزنج بلغ عدده 80 ألف جندي ليضبط الخلاف بين العرب والبربر. وكان لهذا الجيش دوره الفعال في حسم الخلافات، واستمر إبراهيم يجمع بين الحزم والكياسة إلى أن توفي في عام 196هـ (811م) وذلك بعد أكثر من 12 سنة من الحكم الرشيد ولم يكن قد تجاوز من العمر 56 سنة، وخلفه ابنه أبي العباس عبد الله بن إبراهيم بن الأغلب. وكان على عكس أبيه حتى مات على إثر مرض في عام 201هـ (817م) بعد أكثر من خمسة أعوام في الحكم.

حكم زيادة بن إبراهيم بن الأغلب

استلم الملك زيادة الله بن إبراهيم بن الأغلب. وكان من أعظم ملوك الأغالبة على الإطلاق، حيث قضى على الفتن في داخل بلاده وفتح الفتوحات العظيمة في جنوب إيطاليا وكسر أساطيل الروم وأقام للمسلمين سلطانهم هناك. كما تميزت فترته بتأسيس أسطول بحري للغزو.

وكان قد انتدب الإمام أسد بن الفرات لولاية القضاء في القيروان ثم انتدبه لاحقًا لفتح صقلية إلى أن استشهد بعد بطولات ماجدة.

وبعد الازدهار الباهر لولاية أفريقيا على يديه، مات زيادة الله في سنة 223هـ (838م) فكانت فاجعة عظيمة بعد أكثر من 21 سنة من الاجتهاد والعمل الحثيث وكان عمره عند وفاته 51 سنة. فخلفه أبي عقال الأغلب بن إبراهيم بن الأغلب أخو زيادة الله. فمشى بنفس سيرة أخيه من عمران للبلاد وتركيز على الفتوحات، فأتم فتح جزيرة صقلية وغزو إيطاليا خلال حكمه الذي استمر نحو سنتين فقط، إلى أن توفي في عام 226هـ (840م) وهو في سن الثالثة والخمسين.

توالي الملوك على الحكم

وخلف أبي عقال ابنه أبو العباس محمد بن الأغلب بن إبراهيم بن الأغلب، وكان مظفرًا في حروبه، يعتمد في تدبير الملك على رأي وزيره الأول أبي عبد الله بن علي آل حميد لحداثة سنه. إلى أن ثار عليه أخوه الأمير أحمد فاقتحم على الوزير قصره وقتله ظلمًا سنة 231هـ (845م) وبعد أن استبد بأخيه، خلعه أهل البلاد وأرسلوه إلى العراق حيث مكث فيها إلى أن مات. 

واستلم الملك بعده محمد الأول، فصلحت أمور الناس واستقامت أحوال البلاد وقرب منه الإمام عبد السلام سحنون، فجعله على ولاية الأحكام وقاضي القضاة، وقبل الإمام ذلك بصعوبة ولم يأخذ أجرًا على الولاية واستمر يحتسبها لله حتى مات رحمه الله.

واستمر أبو العباس محمد موفقًا في جميع أعماله حتى توفي في عام 242هـ (856م)، بعد أكثر من 15 سنة من الحكم عن عمر يناهز 36 عامًا.

فتح جزيرة كريت

خلف أبو العباس ابنه أبو إبراهيم أحمد، وكان حسن السيرة، فلما استقرت له البلاد أمر بتجهيز الأسطول لغزو جزيرة كريت، فدارت معركة مهولة بينه وبين الروم تدمر فيها عشرون مركبًا من أسطول أفريقيا لكن خسائر الروم كانت أضعاف ذلك. وانتهت المعركة الشهيرة بفتح جزيرة كريت. فأسند ولايتها عمر ابن أبي الغليظ وبقيت تابعة لدولة الأغلبية. واشتهر عصره بعمران البلاد وتشييد آثارها الباهرة.

وعاشت أفريقيا في عصره أجمل أيامها وأبهجها بذكريات الجود والمآثر. حتى وافاه الأجل المحتوم في عام 249هـ (864م) بعد أكثر من سبع سنين في الحكم ولم يكن قد تجاوز 28 سنة. فخلفه أخوه أبو محمد زيادة الله بن محمد بن الأغلب، وكان حسن السيرة كأخيه لكنه لم يستمر طويلًا فقد مات بعد سنة من توليه الحكم في عز شبابه.

حكم أبي الغرانيق

حمل الأمانة بعد ذلك أبو الغرانيق محمد بن أحمد بن محمد بن الأغلب، وكان حسن السيرة سخيًا إلا أنه مسرفًا، فقد بنى قصرًا لصيد الغرانيق التي شغف بصيدها فأنفق على بنيانه 30 ألف دينارًا كما ذكر ذلك ابن عذاري، إلا أنه كان بالمقابل شغوفًا بالغزو والفتح فسجل انتصارًا مهيبًا على الروم وفتح جزيرة مالطا، واقتطع عدة مناطق من البلاد الإيطالية. واستمر حال أبو الغرانيق حتى مات في سنة 261هـ (875م) بعد أكثر من عشر سنين من الحكم.

وكان قد عهد بالملك لابنه أبي عقال لكنه كان صغيرًا في السن فأناب عنه أخاه إبراهيم بشرط ألا ينازع أبي عقال في الملك عند بلوغه سن الرشد. لكن ما لبث أن استدرجه بعض الطامعين فأعلنوا البيعة له بدل أخيه، وفي عصره فتحت سركوزة.

عصر إبراهيم بن الأغلب وبداية تسلل الباطنية

وكما في كل حقبة من حقب الحكم، خرج الخوارج على الحاكم، منهم أحمد بن طولون من مصر الذي اهتم بغزو أفريقيا فشغل الأغالبة عن الخروج للغزو.

لكن عصر إبراهيم كان فيه الكثير من الظلم والجور وسفك الدماء، فاستمر الخلل والضعف متفشيًا في أفريقيا ليستغل ذلك دعاة الدعوة الباطنية وبدأوا بنفث سمومها في بلاد كتامة أين وجدت لها مرتعًا خصبًا.

فردع صعود الباطنية إبراهيم وأخذ في إصلاح سيرته ورد المظالم للتصدي للباطنية لكنه تحرك متأخرًا حيث نفر الناس منه وفقدوا ثقتهم به، فلم يجد من بد إلا أن يتنازل عن الملك لابنه أبا العباس سنة 289هـ (902م) بعد أن حكم البلاد لأكثر من 28 سنة، كانت أول ستة أعوام منها على ما كان عليه أسلافه من العدل والاستقامة وحسن السياسية مع الرعية ثم أخذ ينتقل سنة فسنة من سيء إلى أسوأ، فتنكر له الناس.

واشتد مع الوقت حرصه على المال فجمع الأموال واستهان كذلك بالدماء، فقتل أخص رجاله وثقاته وحجابه حتى أنه فتك بابنه أبي الأغلب لمجرد ظن ساوره عنه. وقتل بناته صبرًا وقتل ثمانية من إخوته ضربًا بين يديه، وأتى بأحداث في أرض أفريقيا لم يسبقه لها حاكم من قبل مهما بلغ به الظلم. ومما يذكر من ظلمه؛ أنه افتقد مرة منديلًا صغيرًا كان يمسح به وجهه فسقط من يد بعض جواريه فأصابه غلام له، فقتل بسبب ذلك 300 خادمًا. لكن ظلمه انتهى بخروج العرب والبربر عليه فهرب إلى إيطاليا حيث احتجب في قصر فيها حتى مات.

آخر ملوك بني الأغلب

قام أبو العباس بن إبراهيم بن أحمد على حكم البلاد، في وقت أوشكت فيه البلاد على الانهيار بالكوارث والفتن والدعوة الباطنية، وكان الشعب قد كره حكم بني الأغلب فسارع أبو العباس لرأب الصدع للتقرب من أهل العلم والتقوى لعله يصلح ما ورثه من فساد الحال بعد موت أبيه، ونجح إلى حين في التصدي للباطنية وكسب ثقة الشعب من جديد. لكن أمره انتهى بالقتل غيلة على يد اثنان من فتيانه كان يثق بهما، وقيل بطلب من ابنه الذي كان معتقلًا لطمعه في الحكم، ثم ملك بعده هذا الابن وكان اسمه زيادة الله الثالث. فبدأ حكمه بقتل كل من يعارضه أو يحمل عليه حتى أقرب الأقربين.

ولما صفا له الجو قتل قاتلي أبيه وصلبهما كي يقضي على فكرة ربطه بمقتل أبيه التي كانت تسري بين الشعب، ثم قتل عمه وأخاه ووزير أبيه، وأجرى جملة تعديلات في المناصب ثم أمر بتأسيس مدينة وهران على يد عامله محمد بن أبي عون بن عبدوس، وأمده بجماعة من المعماريين الأندلسيين لتبقى تذكارًا لولايته.

الباطنية في أفريقيا

أجرى ملك الأغالبة الجديد مؤتمر ملي (كذا) لنقض الدعوة الباطنية بعد تغلغلها في البلاد، حيث جمع العلماء وأهل الفضل والمكانة في تونس للنظر في الباطنية. فعلى غرار فساد الرافضة في خراسان وفارس والأهواز والبحرين والعراق والشام ومصر، بلغ شرهم لأفريقيا، وكان رأسهم فيها أبو عبد الله الصنعاني، الذي ولد في صنعاء وتربى ونشأ في الكوفة، ثم قدم إلى شمال أفريقيا بسمومه الخبيثة، فاستغل سذاجة الخوارج الأباضية حتى تسلل إلى أهل كتامة، أين عمل على تعليم الصبيان وكسب ثقة القوم الذين انبهروا بحلمه في إقامة دولة ففدوه بالنفس والنفيس.

وكان قد أعجب أهل كتامة قول الصنعاني لهم:

نحن أنصار البيت جاءتنا الرواية عنكم أنكم أنتم أصحاب دعوتنا، المقيمون لدولتنا.

فصدقه شيخهم واتبع أمره وانصاعت له أفخاذ أخرى من أهل كتامة وما أيسر استعباد الدجالين للسذج بزعم الكرامات والخوارق. ثم بدأت مرحلة إعداد الجيوش الكتامية لنصرة الباطنية.

وأخذ أمر الصنعاني يزداد قوة فهزم الأغالبة، ثم استولى على مدنهم تباعًا، وتمكن من زيادة الله في أحواز الأربس سنة 296هـ (909م)، فجمع زيادة الله المنهزم ماله وآل بيته ثم فر إلى المشرق. بينما دخل الصنعاني للقيروان واستولى عليها، ولما استتب له الأمر اتجه إلى سجلماسة بالمغرب الأقصى فأنفذ عبيد الله المهدي الذي كان معتقلًا في المغرب وسلمه مقاليد الحكم. وبدأ تاريخ الدولة العبيدية، بأول أمرائها عبيد الله المهدي.

بداية الدولة العبيدية

وهكذا قدم أول ملوك العبيديين للقيروان في جيش بلغ مائتي ألف بين فارس وراجل في عام 297هـ (910م)، فأخذ البيعة من أهلها وتلقب بأمير المؤمنين.

وهكذا بصعود الدولة العبيدية اندثرت الإمارات والممالك التي عرفتها منطقة شمال أفريقيا؛ مثل إمارة بني مدرار في سجلماسة بعد 260 سنة من الحكم، وكذلك إمارة بني رستم من تاهرت بعد 130 سنة من الحكم، ثم بني الأغلب بعد 112 سنة من الملك فضلًا عن الأدارسة بالمغرب سنة 305هـ (918م) وانتقل مركز الدولة العبيدية إلى مصر بعد دخول الشام والحجاز في طاعتهم. وذلك في عصر أبو تميم معد المعز لدين الله العبيدي، الذي بويع له بعد وفاة أبيه المنصور بالله الأرق سنة 341هـ (953م).

وكان أبرز ما ميّز عصر الدولة العبيدية تعطل الفتح في زمانهم، حيث انقلبت جيوشهم على العالم الإسلامي لتقويض وهدم الخلافة العباسية. ولايزال الباطنية الرافضة منذ التاريخ يتربصون بأهل السنة ويتحالفون مع أعداء الإسلام لأجل ترسيخ حكمهم ونشر سموم دعوتهم الخبيثة. وللقصة بقية.

المصادر

  1. تاريخ شمال أفريقيا (من الفتح الإسلامي إلى نهاية الدولة الأغلبية)
  2. الكامل في التاريخ لابن الأثير
  3. كتاب البيان المغرب في أخبار الأندلس والمغرب [ابن عذاري المراكشي].
  4. كتاب النجوم الزاهرة وأنساب الطبقات لابن سعد

د. ليلى حمدان

كاتبة وباحثة في قضايا الفكر الإسلامي، شغوفة بالإعلام وصناعة الوعي.

مقالات ذات صلة

‫2 تعليقات

  1. السلام عليكم ورحمة الله وبركاته
    احتاج إلى بعض المراجع والمصادر التي تتناول عن تاريخ دخول الاسلام في مالي
    وجزاكم الله خيرا

زر الذهاب إلى الأعلى