عن انعدام قياس الأثر وكسب الثمر.. كيف يفوز الداعون إلى الله؟

تواجه الكثير من المشاريع الدعوية وغيرها مشكلة عدم القدرة على قياس الأثر الذي تتركه جهودهم على الناس من حولهم وعلى المجتمعات التي يعيشون بها. فالنفس البشرية بطبعها لا تطيق بذل العمل والجهد من دون رؤية النتيجة أو الحصول على عائد في المقابل، سواءٌ كان ماديًا أم معنويًا. فعندما يرى العاملون من أجل الإسلام ضعف تأثيرهم على من حولهم، تخبوا شعلتهم وتضعف همّتهم، فكيف نعالج ذلك؟

تشخيص مرض المشاريع الدعوية والعاملين فيها

أصل المشكلة هو الرغبة في تحقيق الهدف ورؤية النتيجة رؤيا العين، فالمرء عندما يدعو الناس إلى الهداية، يتوقّع أن ينضم إليه الناس أو يتأثّروا بأفعاله وأقواله، والمشكلة في المشاريع الدعوية عمومًا هو غياب ميّزة “قابلية القياس”، فعلى عكس المشاريع التجارية التي يُمكن للمُدراء فيها أن يقيسوا النفقات ويقيسوا الأرباح، فيتعرّفوا على النتائج وهل ربحوا أم خسروا، فإنّه لا يوجد الكثير من هذا في نتائج العمل الدعوية إلّا مما يمنْ الله به على عبده، فالذين ينشرون مقالاتٍ دعوية على الإنترنت أو يفتحون مبادرات للرد على الشبهات والتنصير، أو أولئك الذين يجاهدون بأموالهم وأنفسهم في سبيل الله، أو أولئك الذين ينشرون كتابًا أو يفتحون مدرسةً، أو أولئك العاملون بعيدًا عن الأنظار في الخلفية من مترجمين ومحررين وكتّاب صغار وأئمة مساجد ومتصدّقين بأموالٍ صغيرة على الفقراء.. لا يملكون القدرة على معرفة التأثير الذي قاموا به على العالم بطريقة مباشرة، بل كل ما لديهم هو الطيف.

ما هذا الذي أفعله هنا؟ أنا مجرّد شخص أقوم بتدقيق المقالات الدعوية قبل نشرها. مالذي أفعله أنا؟ أطور برامج ومواقع إنترنت تفيد المشاريع الدعوية، لكن لا يحمّلها الكثير من الناس. ماذا أفعله هنا؟ أكتب مقالات لا يشاهدها سوى بضع عشرات من الناس، وليس عشرات الآلاف كما أرغب أنا. هذه المدرسة الصغيرة التي افتتحها لا يأتي إليها سوى 100 طالب، مالأثر الذي ضيعتُ وقتي وجهدي من أجله..؟

تلك هي نماذج من جملٍ يخشى العاملون من أجل الإسلام البوح بها عمومًا إلّا أن أرواحهم تأنّ بها، فعندما يرى المرء أنّه يتعب ويكدّ ويبذل الكثير من الجهد ثم لا يرى النتيجة، يستصغر جهده ويستحقره ويفتح بابًا للشيطان ليدخل منه فيجعله يتكاسل ويماطل في أداء عمله بل وقد يتخلّى عنه، وهو والله عين الاستسلام لهوى النفس.

إن هذا الألم الناتج عن عدم المقدرة على رؤية نتيجة عمل الإنسان وتعبه وسهره لساعات في سبيل نصرة هذا الدين لهو مفهوم، وكثيرٌ من أجيال السابقين تفطّرت قلوبهم ألمًا على موتهم قبل أن يروا النصر أو تمكين هذا الدين، فتجد الواحد منهم قد عمل لعقودٍ في خدمة الإسلام والمسلمين، ومع ذلك، لم يمنْ الله عليه بجعله يرى النصر بعينيه.. فهل هذه خسارة يا ترى؟

هل يجب على المُسلم أن يرى حسنات ونتائج عمله وجهده في الدنيا لكي يفوز؟ هل يجب أن ينتظر ثواب الله مباشرةً بعد قيامه بخدمة دينه، فإمّا أن يرى الناس يتجمهرون حوله ويرزقه الله من حيث لا يحتسب وتدعو له أمم الشرق والغرب.. وإمّا أن يتكاسل ويتخاذل متحججًا بعدم وجود أثر لعمله؟

علاج مرض القلوب والأرواح

العلاج هو استحضار النيّة والأجر ليكونا عند الله. وهو طريق الأنبياء عليهم أفضل الصلوات والسلام، فالأنبياء على عكس جميع البشر، أعطوا ولم يأخذوا، بينما الأقوياء والجبابرة أخذوا ولم يعطوا. فسبحان الله كيف خلّد ذكر الأنبياء وجعل مليارات البشر تذكرهم بخير وإحسان وتتبع طريقهم، بينما أرسل ذكر الجبابرة إلى مزبلة التاريخ! وهذا أول الغيث، وليس آخره.

فالمُسلم مطالبٌ شرعًا بالمشي على الطريق، لا الوصول إلى نهايته. لن يسألك الله سبحانه وتعالى لماذا لم تحرر الأمّة بيديك وأنت حيّ، بل سيسألك لماذا لم تمشِ على الطريق؟

ولعل أكبر مثالٍ على ضعف وخذلان تلك الفكرة (فكرة أنك إذا لم ترى الثمرة في حياتك فهذا يعني أنّها لم تحصل) هو ما نعيشه في واقعنا اليوم. أسيادنا من الصحابة رضي الله عنهم الذين رووا الحديث عن رسول الله كأبي هريرة رضي الله عنه، وأولئك الذين علّموا العلم كابن عباس، ثم التابعين، ثم أتباع التابعين وأئمة المذاهب كأبي حنيفة والشافعي، ثم جهابذة علماء المسلمين كابن القيم وابن كثير وابن تيمية والذهبي وغيرهم.. ها نحن ذا بعد مئات السنين على مواراتهم للتراب، تنهل اﻷمّة من علمهم وفضلهم وتعطيهم جبالًا من حسناتٍ لا يعلم وزنها إلّا الله.

ابن تيمية الذي قضى خمس سنواتٍ في السجن متفرقةّ على 7 مرّات، آخرها بسجن القلعة في دمشق، وألّف الكثير من مؤلّفاته هناك ولم يرى سوى الزنزانة وبضعة مساجين آخرين معه منهم تلميذه ابن القيّم، ثم مات رحمه الله داخل السجن في الظلام.. هل كان يظن يا ترى أنّه وبينما يكتب هذه الكتب، أن تتدارسها وتأخذها الأمّة جيلًا بعد جيل وصولًا إلى يومنا هذا؟ هل كان يظن يا ترى أن يقرأ كتبه تلك مئات الملايين من المسلمين الذين بعده، فيكسب فيها على كل حرفٍ كتبه حسنةً مضروبةً بعدد قارئيه؟ أشكّ والله أنّه فعل.

المشاريع الدعوية وكل القائمين عليها سواء كان من ناحية الصيانة أم التمويل أم العمل فيها بشكلٍ مباشر أو غير مباشر.. كل هؤلاء لديهم نصيبٌ من أجرها بناءً على جهدهم الذين يقدّمونه بها. يدعم ذلك أحاديث رسول الله صلّّى الله عليه وسلّم:

لا تَحقِرَنَّ مِنَ المَعْرُوف شَيْئًا، وَلَو أنْ تَلقَى أخَاكَ بوجهٍ طليقٍ.

فإذا كان مجرّد أن تلقى أخاك بوجهٍ طلق هو أمرٌ حثّ عليه رسول الله صلى الله عليه وسلّم، وأمر باتباعه وعدم تحقيره، فكيف بما هو أعظم من ذلك من الدعوة إلى دين الله وهداية الخلق؟

وكيف نتأمّل بهذا الحديث:

إذا قامت الساعةُ وفي يد أحدكم فسيلة فليغرسها.

حيث يقول لنا الرسول أنّه حتى لو قامت الساعة، يأمرنا أن نعمل ونغرس الفسيلة حتّى أثناء يوم القيامة؟ والمقصود هنا هو أن نزرع الغرس للذين بعدنا فينموا ذاك الغرس أو يحصدوه، فإذا كان ذلك حتّى ونحن على أبواب يوم القيامة ولم يبقى إلّا القليل بعدنا، فكيف بنا الآن والأمّة بأحوج ما تكون فيه إلى فسيلة؟

ثم كيف بأعظم من ذلك هذا الحديث:

فوالله لئن يهدي الله بك رجلاً واحداً خير لك من أن يكون لك حمر النعم.

فإذا كانت هداية مجرّد شخص واحد بهذا الأجر والثواب.. فكيف بعشرات الناس الذين قد يقرأون مقالك، أو يشتركون في مشروعك، أو يكفّون عن ذنوبهم بسبب دعوتك، أو يهتدون إلى الإسلام بسبب كتابك، أو يتمكنون من قراءة عشرات الكتب والمقالات بسبب سهرك على صيانة المواقع أو تطوير البرامج، أو صدقاتك التي تتبرع بها لاستمرار الجمعيات الإسلامية، وغير ذلك الكثير.. فكيف بذلك كلّه؟

ويقول الرسول صلى الله عليه وسلم كذلك:

أحب الناس إلى الله أنفعهم.

وكذلك:

من سنّ في الإسلام سنة حسنة فله أجرها و أجر من عمل بها من بعده من غير أن ينقص من أجورهم شيء.

وقد يساعدك في ذلك “تخيّل الإمكانية” التي قد تُبنى على عملك، فربّما واحدٌ من هؤلاء الشباب الصِغار الذين تعظهم اليوم، قد يكبر غدًا ويصبح ذا سلطانٍ كبير. فإذا نجحت في زرع الورَع فيه فقد أقمت عدل الله في أرضه من حيث لا تدري! ولربّما يكون واحدٌ من زوّار موقعك أو منضمي مشروعك الدعوي أو أولئك الفقراء التي تتصدق عليهم وتطعمهم وتكسوهم.. ربّما يخرج منهم عالمٌ كبير أو شيخٌ أو مجاهدٌ أو داعية أو إمام مسجد، وهؤلاء بدورهم سينقلون كل ما قرأوه عنك واستفادوه منك إلى الأجيال اللاحقة، وكل حرفٍ نقلته لهم فهو لك حسنةٌ مضروبةٌ بعدد الواصلين لها.. فأي ربحٍ أعظم من ذلك في الدنيا؟

بل ويتعدى الأمر ذلك، فكل من اهتدى على يديك أو بسببك أو بسبب وسيلةٍ وفّرتها أنت له، هو أيضًا كل من يهتدي على يديه، ثم كل من يهتدي على أيدي أولئك.. لك أجر وثواب بعدد كل واحدٍ منهم. وليس شرطًا أن تكون القصّة متعلّقة بخروج ذي سلطان أو قوة أو مال أو جاه ينصر الإسلام والمسلمين نصرًا موزّرًا، بل حتّى عموم المسلمين ممن يعمل كحطّاب وخشّاب ونجّار ومهندس وعامل نظافة ومدرّس وأستاذ.. هؤلاء وأولادهم لك في أعناقهم دين طالما كنتَ سببًا في هداية آبائهم إلى الحقّ واهتدوا هم بذلك.

وهذا الأمر معروف حتّى على المستوى العلمي المادّي بـ”تأثير الفراشة”، فيقول العلماء أنّه حتى حركة جناح فراشة صغيرة قادرة على أن تساهم في تشكيل إعصار بعد بضعة أسابيع، والمقصود منه هو معنىً مجازي أنّه حتى أصغر التغييرات والتعديلات في الأنظمة الموجودة سواء كانت المعنوية منها أم الفيزيائية، يمكن أن تتسبب بتغييرات كبيرة جدًا وضخمة مع مرور الزمن على المستوى البعيد، وعلى هذا يكون القياس.

إن العاملين من أجل الإسلام الذين استخفوا بمجهوداتهم وعلّقوها على رؤية النتائج وقعوا في غاية الإشكال والخطأ، فالله سبحانه وتعالى وعدهم بأحسن الوعود وأعطاهم أحسن العهود، فمن تحجج بعدم وجود نتيجة لعمله ليقعد جانبًا فقد خسر ما وعده الله:

وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُمْ فِي الْأَرْضِ كَمَا اسْتَخْلَفَ الَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ وَلَيُمَكِّنَنَّ لَهُمْ دِينَهُمُ الَّذِي ارْتَضَىٰ لَهُمْ وَلَيُبَدِّلَنَّهُم مِّن بَعْدِ خَوْفِهِمْ أَمْنًا ۚ يَعْبُدُونَنِي لَا يُشْرِكُونَ بِي شَيْئًا ۚ وَمَن كَفَرَ بَعْدَ ذَٰلِكَ فَأُولَٰئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ – النور.

فَاسْتَجَابَ لَهُمْ رَبُّهُمْ أَنِّي لَا أُضِيعُ عَمَلَ عَامِلٍ مِّنكُم مِّن ذَكَرٍ أَوْ أُنثَىٰ ۖ بَعْضُكُم مِّن بَعْضٍ ۖ فَالَّذِينَ هَاجَرُوا وَأُخْرِجُوا مِن دِيَارِهِمْ وَأُوذُوا فِي سَبِيلِي وَقَاتَلُوا وَقُتِلُوا لَأُكَفِّرَنَّ عَنْهُمْ سَيِّئَاتِهِمْ وَلَأُدْخِلَنَّهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ ثَوَابًا مِّنْ عِندِ اللَّهِ ۗ وَاللَّهُ عِندَهُ حُسْنُ الثَّوَابِ – آل عمران.

وَمَنْ أَحْسَنُ قَوْلًا مِّمَّن دَعَا إِلَى اللَّهِ وَعَمِلَ صَالِحًا وَقَالَ إِنَّنِي مِنَ الْمُسْلِمِينَ – فصلت.

إن التاريخ ما هو إلّا خليطٌ معقّد من العقائد والأفكار والأحداث المختلفة التي تشكّل وعي الإنسان الحيّ آنذاك. فأي مساهمة لك سواء كانت فكرية أو على أرض الواقع أو على غيرها، ستغيّر حتمًا من مجرى التاريخ على المدى البعيد.. فهذا شيخ الإسلام آق شمس الدين، الذي ربّى وعلّم محمد الفاتح وغرس فيه حبّ الفوز بتزكية النبي صلّى الله عليه وسلّم.. قد فتح القسطنطينية بسببه وإلى اليوم هناك 3000 مسجد فيها.

فصل الختام

إنّ الله قد ابتلانا في هذا الزمان بالكثير من الخبث والشرّ، لكن ما ينساه الكثير من العاملين هو أنّه فتح لهم أبوابًا مساويةً بالحجم بل وربّما أعظم من ذلك لهداية خلقه; فيكفي أن تكتب مقالًا هنا وهناك ليقرأه المئات من المسلمين حول العالم، ويكفي أن تخصص جزءًا من راتبك عبر “الموبايل” لتستخدمه في دعم جمعية خيرية تطعم عشرات الفقراء، ويمكنك بسهولة أن تكتب كتابًا وتنشره اليوم فيصل إلى أقاصي الشرق والغرب.. أبواب الخير مفتوحةٌ على مصرعيها كذلك، وإمكانية الهدي لم تكن أسهل مما هي عليه الآن على مدار تاريخ هذه الأمّة، فعلى ماذا التخاذل والكسل؟

إنّ مهنة “الدعوة” يكفي بها شرفًا أنّها مهنة الأنبياء والمُرسلين، فكيف بمن ينتسب إليها يترك كل هذا الشرف ليقعد مع القاعدين؟ وما تعجّل امرؤٌ شيئًا إلا عوقب بحرمانه.

فلا ييأس الداعون إلى الله والقائمون على هذه المشاريع والعاملون فيها مهما كانت تغييراتهم على من حولهم صغيرة.. بل يستبشروا ويعلموا أن النصر قد حصل منذ أول يومٍ من مشيهم على هذا الطريق.

محمد خطيب

كاتب ومدون في موقع تبيان، ومُتخصص في الهندسة المعلوماتية. أرجو أن يكون كل حرفٍ أكتبه… More »

‫4 تعليقات

  1. جزاكم الله خيرا استاذنا الفاضل على هذا المقال المؤثر والذى جاء فى وقته حيث يحارب من يدعون الى سبيل ربهم بالحكمة والموعظة الحسنة يحاربون ليس فقط من الطغاة الظلمة بل من الذين تعودوا على حياة العبودية والظلم والفساد !1 لا يريدون ان يرفعوا رؤوسهم ويستردوا كرامتهم !! يشعر كثير من الدعاة بفتور الهمة والخذلان ..ولكن هناك قلة قليلة من الثابتين على الحق القابضين على الجمر مستمرون فى طريقهم لايضرهم من ضل واستحب العمى …يعلمون يقينا ان عليهم بذل الجهد وعلى الله بلوغ القصد “ربنا لا تزغ قلوبنا بعد اذ هديتنا وهب لنا من لدنك رحمة انك انت الوهاب”

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى