أُمهات خالدات في التاريخ الإسلامي بآلاف الرجال – الجزء الثاني

لا زلنا نستكمل سرد مقتطفات من نماذج لأمهات خالدات في التاريخ الإسلامي. يُرجِع كثيرٌ من العلماء السببَ في تماسُك المجتمع الإسلامي، وانتصاره على الغزاة في مراحل الضعف التاريخي التي مر بها العالم الإسلامي إلى المرأة المسلمة، وتمسُّكها بدينها وعقيدتها الإسلامية، آثرت من كان لها ولد، أن يكون من أبناء الآخرة لا من أبناء الدنيا، وأن يكون من جياد الخيل وأنفسَها، وأكثرها عراقة وأصالة، لأنها بينما كانت تهز مهده بيمينها، كانت تُعد سواعده بيسارها، فلا يكن عيشه كـعيش البعير، بل إن كثيرًا من كبار حاملي الدعوة هم غرس أمهاتهم، فهـا هو دورك بنت الإسـلام، فأقدمي.

أسماء بنت أبي بكر

هي الأم التي ربت ابنها عبد الله بن الزبير بن العوام -رضي الله عنهما-، ثم هي نفسها الأم التي قد فقدت بصرها، وتجده مصلوبًا مقتولًا فتحتسبه عند الله، من البداية إلى النهاية عطاء، تميزت بالسخاء، كلما جاءها شيء أخرجت شيء، تزوجت الزبير بن العوام وليس له من مال ولا أرض ولا مملوك إلا فرس، كانت ناجحة في بيت أهلها، ناجحة كـ زوجة وناجحة كـ أم.

قال عروة بن الزبير: “دخلتُ أنا وأخي -عبد الله بن الزبير- قبل أن يُقتل بعشر ليال على أمي وهي وجعة، فقال عبد الله كيف تجدينك؟ قالت: وجعة. فقال عبد الله: إن في الموت لعافية (كان يقصد موته هو) يصبرها. فضحكت وقالت له: لعلك تشتهي موتي فلا تفعل. ثم قالت: والله ما أشتهي أن أموت حتى تأتيني على أحد طرفيك إما أن تُقتل وتستشهد فأحتسبك وإما أن تظفر فتقر عيني بنصرك. إياك أن تُعرض عليك خطة فترفضها، ثم تقبلها مخافة الموت”.

هكذا يربي المسلمون أبناءهم، من الفطرة أن تقلق الأم على ابنها، ولكن عليها أن تُخفي قلقها وألمها حتى تجيد تربية أبنائها رجالًا مجاهدين.

قالت له: “يا بني أنت أعلم بنفسك فإن كنت على الحق فاصبر عليه ولا تسلم نفسك وممن معك لعصبة من بني أمية، وإن كنت لست على الحق فلبئس العبد أنت، أهلكت نفسك وممن معك”، فقال: “والله يا أماه ما جورت في حكم الله أبدًا وما أحببت الدنيا قط، لا تفتري عن الدعاء لي”.

ثم دعت ربها قائلة: “اللهم إني أسلمته إليك فاجعل عزائي فيه حسنا، اللهم ارحم طول قيامه وظمأه في هواجر مكة والمدينة صائمًا، وبره بأبيه وأمه”.

تتجلي هنا فطرتها الجميلة، فطرة الأمومة مع حُسن التربية لله، فلم تُظهر ضعف قلبها أمام ولدها حتى لا تُضعف قلبه، فقط ناجت الله بضعفها. عند قتله أبى الحجاج إلا أن يصلبه ذهبت إلى هناك حيث ابنها، جاءها الحجاج يقول: “أوصاني بك أمير المؤمنين خيرًا يا أماه!” فقالت:

أنا لست لك بأم، أنا أم هذا المصلوب، وعند الله تجتمع الخصوم.

عـائشة الحرة والدة أبو عبد الله الصغير آخر حكام الأندلس

نظرت عائشة الحرة إلى ولدها أبي عبد الله الصغير، وقد سمعا معًا صهيل الخيل فوق الهضبة والتي سميت فيما بعد بهضبة زفرة العربي الأخيرة، نزلت على إثر تنهداتها، دمع من عيني ولدها الأمير المخلوع أبو عبد الله، حيث صار عزاؤه هو البكاء حينها نظرت إليه أمه قالت له:

نعم ابكي، ابكي كالنساء ملكًا مُضاعًا، لم تحافظ عليه كالرجال.

كانت قطرات الدموع هذه هي آخر عهد المسلمين بالأندلس، وآخر عهد أبي عبد الله نفسه بهذه البلاد، بلاد الفردوس المفقود.

رزقت عائشة من السلطان أبي الحسن بولدين أبو عبد الله محمد الصغير وأبو الحجاج يوسف وكان من المقرر أن يتولى أبو عبد الله الحكم، لكن كان هناك عادة الزواج من النصرانيات ربما هي بتدبير من قشتالة بدأها عزيز بن موسى بن نصير وأوردته تلك النصرانية مورد المهالك، و زرعت إيزابيلا (ثريا) أمام عين السلطان أبي الحسن فتزوجها وصارت ثريا تخطط لانتزاع الملك وقد رزقت بـ سعد ونصر، وفي يوم وقع أبو عبد الله الصغير في الأسـر، ولم يكن من المجاهدين الصابرين وكانت كل مطالبه هي العرش!، وصار مهيئ لفعل ما يُطلب منه حتى لو خالف دينه، أما الملكة عائشة فكانت تسعى لاسترداده سريعًا حتى لا يقع تحت تأثير النصارى ونفوذهم.

فخرج والناس تحسبه مجاهدًا صابرًا بينما كان هو ضعيفًا متهالكًا لا يفكر إلا في الحكم وأن يوقف القتال حتى تسير أمور البلاد. بعد تسليم قصر الحمراء، وسقوط الأندلس ونفي آخر ملوكها إلى قرية من قرى الأندلس، لم تكن تطيق الجلوس معه، وعندما تضطر لهذا كانت تقول: “لقد غامرت بحياتي لأنقذك من الموت، وبذلت غاية جهدي حتى لا يضيع منك الملك، ثم ضيعته بلا مبرر أو ثمن”.!

وتتركه وتذهب إلى شؤونها، تقضي وقتها في الصلاة وقراءة القرآن، وتقول لمن صحبنها إن الله لن يغفر لهم ما صنعوه وإنهم أتعس بيت في العالم، وكانت تخرج إلى الفلاحين المنتشرين في تلك القرى تحاول أن تقدم ما يمكنها من طعام ومال، وكانت تكلم أبا عبد الله الصغير في هذا الأمر فيتشاغل عنها أو يسفه هذه الأفكـار، وكان في أعماقه يدرك أن هؤلاء لو تعلموا لأدركوا المصيبة التي حلت بالمسلمين وأنه سبب هذه النكبة التي لم يحدث مثلها في بلاد الإسلام.

وفي يوم استدعت الوزير أبا القاسم عبد الملك، تخبره أنها تريد عزل ابنها عن العرش، فتعجب قائلًا: أي عرش؟! قالت: “عرش الملوك من بني نصر في غرناطة، لأنه لا يصلح لمثل هذا الجهاد الطويل مع القشتاليين، نريد أن نجمع أنصارنا من كل بلاد الأندلس فيثوروا على فرناندو وهذه المرة لن يكون صلح أو تسليم، لكنه كان جبانًا”، وقال: “تلك الأفكار تعرضنا للقتل!”

وكانت الملكة مريم زوجته تبكي كثيرًا وتقول: “كان الشعب يستطيع الصمود أمام الحصار لو وزعوا سلاحًا على الشعب لوجدوا جيشًا كبيرًا، ولكنه يخاف على عرشه وكان له أعظم من الإسلام، لكنه يفنى على أية حال”، وقبل موتها أوصت الملكة عائشة أن يتربى أولادهـا على الإسلام والقرآن، ثم تساقط دمعها وهمست بضعف: “لا تجعليه يسير في جنازتي”.

ثم جاءه الوزير بأوراق هي عقود بيع أرضه وضياعه التي نفي إليها، إلى الملكين الكاثوليكيين فرناندو وإيزابيلا وأن عليه المغادرة إلى أرض المغرب، في البداية غضب ورفض، وقال أن معاهدة التسليم لم تنص على شيء من هذا، وقال: “ماذا لو رفضت؟” أشار الوزير أبا القاسم إلى عنقه كناية عن الذبح وقال: “لا يمكنك الرفض يا مولاي”!

لقد بذلنا غاية جهدنا لتحسين الشروط، والمخالفة جزاؤها القتل، أما الملكة عائشة، لم تقبل التوقيع على أي من هذه العقود وأدت صلاة العشاء في تلك الليلة ودخلت فراشها، وفي الصباح وجدوها في فراشها قد فاضت روحها الأبية الطاهرة، هل قتلها أعوان فرناندو خنقًا، أم ماتت همًا وكمدًا؟ الله وحده يعلم.

أم السلطان محمد الفاتح

كانت أم السلطان محمد الفاتح تأخذه وهو صغير وقت صلاة الفجر، لتريه أسوار القسطنطينية وتقول له: “أنت يا محمد تفتح هذه الأسوار اسمك محمد كما قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم- والطفل الصغير يقول: كيف يا أمي أفتح هذه المدينة الكبيرة؟! فتقول بحكمة: بالقرآن والسلطان والسلاح وحب الناس.”

توقفت كثيرًا أمام ذلك الرد القصير الحكيم، بتلك العناصر الأربعة التي جمعتها، فـفي محاولاتنا كلها غالبًا ما نركز على جانبٍ ونهمل الباقي. 

والدة عبد الرحمن الناصر

أمير المؤمنين عبد الرحمن الناصر الذي ولى الأندلس وهي ولاية تميد بالفتن، وتشرق بالدماء، فما لبثت أن قرت له وسنت لخشيته، ثم خرج في طليعة جنده، فافتتح حصنًا في غزوة واحدة. ثم أمعن بعد ذلك في قلب فرنسا وتغلغل في أحشاء سويسرا، وضم أطراف إيطاليا، حتى ريض كل أولئك له، ورجف لبأسه، وبعد أن كانت قرطبة دار إمارة يذكر الخليفة العباسي على منابرها، وتمضي باسمه أحكامها، أصبحت مقر خلافة يحتكم إليها عواهل أوروبا وملوكها، ويختلف إلى معاهدها علماء الأمم وفلاسفتها. وسر هذا كله أمه التي ربته، فقد نشأ عبد الرحمن يتيمًا قتل عمه أباه، فاعتنت أمه بتربيته.

الخنساء: أم عمرو تماضر بنت عمرو بن الحارث

عندمـا أخذ المسلمون يحشدون جندهم، ويعدون عدتهم زحفًا للقادسية، كانت الخنساء مع أبنائهـا الأربعة، تزحف مع الزاحفين للقاء الفـرس! وفي خيمةٍ من آلاف الخيام، جمعت الخنساء أولادهـا الأربعة، لتُلقي إليهم بوصيتها فقالت: “يا بني، أسلمتم طائعين، وهـاجرتم مختارين، والله الذي لا إله إلا هو إنكم بنو امرأة واحدة، ما خنت أباكم ولا فضحت خالكم، ولا هجنت حسبكم ولا غيرت نسبكم!، وتعلمون ما أعده الله للمسلمين من الثواب الجزيل في حرب الكافرين، واعلموا أن الدار الباقية خيرٌ من الدار الفانية يقول تعالى: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اصْبِرُوا وَصَابِرُوا وَرَابِطُوا وَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ)، فإذا أصبحتم غدًا إن شاء الله سالمين، فاغدوا إلى عدوكم متبصرين بالله على أعدائه منتصرين”.

فلما أشرق الصبح واصطفت الكتاب وتلاقى الفريقان، أخذت تتلقى أخبار بنيها وأخبار المجاهدين، وجـاءها النبأ بالاستشهـاد فقالت:

الحمد لله الذي شرفني بقتلهم، وأرجو من ربي أن يجمعني بهم في مُستقرِ رحمته.

والدة الإمام سفيان الثوري

سفيان الثوري هو فقيه العرب ومحدثهم وأمير المؤمنين في الحديث، كان وراؤه أمًا صالحة تكفلت بتربيته والإنفاق عليه فكان ثمرتهـا.

يقول: “لما أردت طلب العلم قلتُ: يارب، لابد لي من معيشة ورأيتُ العلم يذهبُ ويندثر فقلت أفرغ نفسي في طلبه وسألتُ الله الكفاية (أن يكفيه أمر الرزق)” فكان من كفاية الله له أن قيض له أمه التي قالت له: “يا بني، اطلب العلم وأنا أكفيك بمغزلي”.

بل والأكثر من ذلك، أنها كانت تتعهده بالنصح والوعظ لتحضه على تحصيل العلم فكان مما قالته له ذات مرة: “أي بني، إذا كتبت عشرة أحـرف، فانظر هل ترى في نفسك زيادة في خشيتك وحلمك ووقارك، فإن لم تر ذلك، فاعلم أنها تضرك ولا تنفعك”، هكذا كانت أمه فكان سفيان.

والدة أبو الفرج الجوزي

نشـأ يتيمًـا، حيث فارقه والده وهو بعد ابن ثلاثة أعـوام، ولما كبر أرسلته أمه وعمته إلى مسجد أبي الفضل بن ناصر وهو خاله، فاعتنى به وأسمعه الحديث، وحفظ القرآن، ولما بلغ الرشد صار ينتقي من الشيوخ من هو أمثل من غيره وأكثر إفـادة.

النوار بنت مالك والدة زيد بن ثابت

كان زيد بن ثابت صغيرًا واشتاقت نفسه للجهاد وهو بعد ابن ثلاثة عشر عامًا، وحين حاول أن يخرج للحرب في بدر، أرجعه رسول الله -صلى الله عليه وسلم- لصغر سنه، فعاد يبكي -رضي الله عنه-، فلما رأته أمه -رضي الله عنها- لم تطيب خاطره بكلماتٍ فحسب، فهي تهتم بابنها وتدرك عمق إمكانياته ومواهبه فقالت له:

إن لم تستطع أن تجاهد بالسيف والدرع في المعركة كما المجاهدون فباستطاعتك أن تخدم رسول الله -صلى الله عليه وسلم- والإسلام بالعلم الذي عندك.

لقد كانت القراءة والكتابة مزية لدى زيد -رضي الله عنه- ويحفظ الكثير من آيات القرآن الكريم فاستطاعت الأم الواعية أن تفتح لصغيرها بابًا آخر بعدما أُغلق بابُ الجهاد مؤقتًا.

فقال له رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: “اذهب فتعلم لغة يهود، فإني والله ما آمنهم على كتابي، فذهب زيد وتعلم لغة يهود في أقل من 17 ليلة!” وبعد ذلك جعله رسول الله -صلى الله عليه وسلم- من كتبة الوحي وكفاه ذلك شرفًا، وبعد وفاة رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، أوكل إليه أبو بكر -رضي الله عنه- مهمة جمع القرآن الكريم، وكان عمره ثلاثة وعشرين سنة!، فرضي الله عنه وعن أمه.

خديجة يوسف

كاتبة مهتمة بالشـأن الإسلامي.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى