الإمام الجنيد البغدادي.. مدرسة صوفية سنية فريدة

لُقِّب بسيد الطائفة، وطاووس العلماء، وتاج العارفين، وشيخ طريقة التصوف، ومُقدّم الجماعة. يستشهد بأقواله علماء السلف، ويقتدي بحاله جمهور الصوفية، فكان مدرسةً وحده. كيف لا وقد جمع بين العلم والعمل، وآخى بين العقل والقلب، وألّف بين الحال والسلوك، ضاربا أروع المثل بالتصوف السني المعتدل؛ القائم على كتاب الله وسنة نبيّه صلى الله عليه وسلم، من خلال مقولته الشّهيرة: «علمُنا مضبوط بالكتاب والسنة».

نسبه ومولده

الجنيد

هو أبو القاسم، الجنيد بن محمد بن الجنيد البغدادي القواريري الخزاز. أصله من نهاوند، إلا أن مولده ومنشأه ووفاته ببغداد، ولذلك يكنى بالنهاوندي البغدادي. أما لقب القواريري، فأخذه عن أبيه؛ لأنه كان يبيع الزجاج، بينما كان هو خزازا، والخزاز هو من يعمل بصناعة الملابس، وهو سيِّدٌ من سادات الصوفية وعلم من أعلامهم.

صَحِب جماعة من العلماء، ودرس الفقه على أبي ثور أحد تلامذة الإمام الشافعي. وصَحِبه أبو العباس بن سريج الفقيه الشافعي. واشتهر بصحبة خاله السري السقطي والحارث المحاسبي، وُلِدَ عام 221 تقريبا وتوفي عام ٢٩٧ﻫجرية. ويذكر المؤرخون أن بغداد خرجت عن بكرة أبيها يوم وفاته، وأن عدد مشيعي جنازته قدر بستين ألف إنسان.

سمع الجنيد «الحديث عن الكثير من الشيوخ، وشاهد الصالحين وأهل المعرفة، ورُزِق من الذكاء وصواب الجوابات في فنون العلم ما لم يُر في زمانه مثله عند أحد من قرنائه، ولا ممن أرفع سنا منه، ممن كان ينسب منهم إلى العلم الباطن والعلم الظاهر، في عفاف وعزوف عن الدنيا وأبنائها». (تاريخ بغداد، 7/242).

وبذلك يعد الجنيد من علماء أهل السنة والجماعة ومن أعلام التصوف في الآن ذاته، إذ جمع بين قلب الصوفي وعقل الفقيه، واستحق أن يلقب بسيد الطائفة.

وكان الجنيد على حال طيبة من العلم والعبادة والزهد، مستقيما على طريقة السلف في الجملة، يعظم الكتاب والسنة، وينهى عن الإحداث والبدعة، وهو «المُربِّي بفنون العلم، المُؤيّد بعيون الحلم، المُنوّر بخالص الإيقان وثابت الإيمان، العالم بمُودع الكتاب، والعامل بحلم الخطاب، الموافق فيه للبيان والصواب.. كان كلامه بالنصوص مربوطا، وبيانه بالأدلة مبسوطا، فاق أشكاله بالبيان الشافي، واعتناقه للمنهج الكافي، ولزومه للعمل الوافي». (حلية الأولياء 10/274).

وكان «هذا التوجه الشرعي، المتسم بالسنيّة في المنحى، والمتصف بالأخلاق في المشرب، هو الذي جعل منهج الإمام الجنيد ينال القبول والاستحسان من الفقهاء والصوفية على السواء، فلم ينكروا عليه شيئا في مسلكه، بل اعتمدوه وساروا على دربه، لما يمتاز به من رسوخ وتمكين، واعتدال وصحو، وربط بين الحقيقة والشّريعة».

الجنيد.. رائد مدرسة التصوف السني

أخذ الجنيد العلم الضروري الذي لا ينال إلا عن طريق النقل، وهو علم الفقه والحديث، على أبي ثور، وكان يُفتي بحضرته وهو ابن عشرين عاما. ولم يكد يبلغ الثلاثين من عمره حتى رأى خاله السري السقطي أنه بات مؤهلا للتدريس والتعليم في حلقات العلم بالمساجد، غير أن الجنيد تخوف من مسؤولية هذه الأمانة ولم يجد نفسه أهلا لذلك، «حتى رأى ليلة في المنام رسول الله صلى الله عليه وسلم، وكانت ليلة جمعة، فقال له صلى الله عليه وسلم: تكلّم على الناس، فانتبه من نومه وأتى باب السري السقطي قبل أن يصبح. فقال له السري: لم تُصدِّقنا حتى قيل لك. وكان أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم حاسمًا، فقعد الجنيد في غد للناس بالجامع». (وفيات الأعيان، 1/347).

وكان جلوس الجنيد رحمه الله في حلقة العلم بالمسجد، يعلّم ويفتي ويناقش ويدرّس سببا في تمكنه من إرساء دعائم العلم الصوفي السني – بعيدا عن الابتداع والشطط – وكانت مجالس الجنيد تعد بمثابة «جامعة بغداد الكبرى، وكان عشاق الأدب يحضرون مجالسه ليتزودوا بالمُضِئ من القول، والمُشرِق من البيان، ويحف به الفقهاء ينشدون لديه القول الفصل والحكم المبين، ويحيط به الفلاسفة ليتفقهوا دقائق الحكمة وأسرار النفوس والأكوان، ويلوذ به المتكلمون ليأخذوا عنه طرائق البحث وفنون الحديث، ويتبعه رجال التصوف، فهو النبع الذي يتدفق رحيقه من عرش الإيمان». (من أعلام التصوف الإسلامي لعبد الباقي سرور، 2/123).

وبذلك كان الإمام الجنيد رحمة الله عليه واحدا من أولئك الذين تركوا بصمات واضحة في الحقل الصوفي عبر أسلوبه الفريد وطريقته في التربية والتهذيب، فهو الذي نادى بالتمسك بالكتاب والسنة واتباع الشريعة في ميدان التصوف، وقال: «الطرق كلها مسدودة على الخلق، إلا على من اقتفى أثر الرسول صلى الله عليه وسلم، واتبع سنته، ولزم طريقته، فإن طرق الخيرات كلها مفتوحة عليه». (تاج العارفين – 152).

وقال أيضًا -(الرسالة القشيرية – 431)- :

علمنا مضبوط بالكتاب والسنة، ومن لم يحفظ القرآن، ولم يكتب الحديث، لا يقتدى به.

وحين سئل الإمام الجنيد- رحمه الله تعالى- عن التصوف ما هو؟ فقال: «التصوف اجتناب كل خلق دني، واستعمال كل خلق سُنِّيّ، وأن تعمل لله ثم لا ترى أنك عملت». (تاج العارفين، 151).

فالتصوف الإسلامي بمفهوم الجنيد هو: الالتزام التام بالشريعة الإسلامية من أجل الوصول إلى مقام الإحسان الذي هو لب الإيمان وروحه وكماله، فالسالك لطريق الله عز وجل لا يمكنه أن يتذوق حلاوة الإيمان إلا إذا أدى الفرائض على أكمل وجه، وواظب على السنن وصلاة الليل وكثرة الصيام والبكاء من خشية الله تعالى والابتعاد عن اللغو وكثرة القيل والقال والميل إلى السكوت والإكثار من ذكر الله عز وجل، وشكر النعمة، ومجاهدة نفسه وكثرة مراقبتها، وتطهير قلبه وعقله ونفسه من كل الرذائل الدنيوية.

تصدي الجنيد لشطط الحلاج

كان مشايخ أهل التصوف الأولون على حال طيب في غالب الأحوال، بما كان لهم من الحرص على السنة واتباع الشرع وصالح العمل. خلافا للمتأخرين من الصوفية الذين ظهرت فيهم أشياء وانتشرت بينهم أقواله أنكرها العلماء، فالأولون منهم خالطوا العلماء وأخذوا عنهم العلم الذي أرشدهم إلى الاستقامة على العمل الصالح واتباع السنة، وإن كانت لهم مسالك تخصهم في الزهد وأعمال القلوب والعزلة والخلوات.

وبعد ذلك انقسمت الصوفية إلى اتجاهين رئيسين: اتجاه عرف بمدرسة السلوك والأخلاق ويعد الجنيد وعبدالقادر الجيلاني من بين أعلامه؛ ثم اتجاه آخر عرف بالتجريد والتحدث في الحقائق، ويلحق به البسطامي والحلاج وآخرون.

وذكر شيخ الإسلام ابن تيمية عن الحلاج أنه: بسط ذكره في تاريخه أبو عبد الرحمن السلمي في «طبقات الصوفية»، وأن كثيرًا مِن المشايخ ذموه وأنكروا عليه ولم يعدوه مِن مشايخ الطريق، وأكثرهم حط عليه. وممَن ذمه وحط عليه أبو القاسم الجنيد، ولم يقتل في حياة الجنيد، بل قتل بعد موت الجنيد.

 ويذكر الحافظ الخطيب البغدادي أن الحلاج جاء إلى الجنيد يسأله فلم يجبه، وقال عنه «إنه مدع». وأضاف الحافظ أن الجنيد قال للحلاج ذات مرة: «لقد فتحت في الإسلام ثغرة لا يسدها إلا رأسك». وبعد ذلك، انفصل الحلاج عن الجنيد وطريقته.

وعُرف عن الجنيد أنه كان يرفض تعريف الصوفية كنوع من اعتزال الناس والانكفاء على الذات والهروب من الحياة بعيدا عن أعين الآخرين وهمومهم، وإنما كان يشارك في الحياة العامة مؤثرا فيها، وهذا يرجع إلى أن انتماء أبي القاسم للسلوك الإسلامي الشرعي كان سابقا على انتمائه الصوفي، وهو ما جنبه الوقوع في الأحوال التي أُنكرت على أغلب المتصوفة.  

رأي كبار أهل العلم في الجنيد

الجنيد

أقرّ الكثير من أهل العلم بمنهج الجنيد في التصوف السني، مثل الحافظ الذهبي رحمه الله الذي يقول عنه في كتاب «تاريخ الإسلام»: «كان شيخ العارفين وقدوة السائرين وعلم الأولياء في زمانه، رحمة الله عليه».

وقال الذهبي أيضا إن الجنيد «أتقن العلم، ثم أقبل على شأنه وتعبد، وقل ما ورى. وحدّث عنه: جعفر الخلدي، وأبو محمد الجريري، وأبو بكر الشبلي، ومحمد بن علي بن حبيش، وعبد الواحد بن علوان، وآخرون». «سير أعلام النبلاء» (11/ 439)

وقال عنه الخطيب البغدادي رحمه الله: «سمع بها الحديث، ولقي العلماء، ودرس الفقه عَلَى أَبِي ثور، وصحب جماعة من الصالحين، منهم الحارث المحاسبي، وسري السقطي. ثم اشتغل بالعبادة ولازمها حتى علت سنه، وصار شيخ وقته، وفريد عصره فِي علم الأحوال والكلام عَلَى لسان الصوفية، وطريقة الوعظ .وله أخبار مشهورة، وأسند الحديث عَنِ الْحَسَن بن عرفة». «تاريخ بغداد» (8/ 168).

وقال عنه أبو نعيم الحافظ رحمه الله -«حلية الأولياء» (13/ 281)-:

كَانَ الْجُنَيْدُ رَحِمَهُ اللَّهُ مِمَّنْ أَحْكَمَ عِلْمَ الشَّرِيعَة. 

وقال عنه ابنُ تيمية في «مجموع الفتاوى»: «كان الجنيد رضي الله عنه سيِّدُ الطائفة إمامَ الهدى… والجنيدُ وأمثالُه أئمَّةُ هدًى».. «مجموع الفتاوى» (٥/ ٤٩١)؛ وقال أيضا: «الْجُنَيْد مِنْ شُيُوخِ أَهْلِ الْمَعْرِفَةِ الْمُتَّبِعِينَ لِلْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ».. «مجموع الفتاوى» (5/ 126).

وتحدث عنه أيضا الإمام بن تيمية وهو بصددِ مناقشة مسألة الإرادة الكونية القدَرية والفرقِ بينها وبين الإرادة الدينية: «وكانت هذه المسألةُ قدِ اشتبهَتْ على طائفةٍ مِنَ الصوفية، فبيَّنها الجُنَيْدُ -رحمه الله- لهم، مَنِ اتَّبَع الجُنَيدَ فيها كان على السداد، ومَنْ خالفه ضلَّ».. «مجموع الفتاوى» (11/ 245)، وقال أيضًا: «كان الجنيد رضي الله عنه سيِّد الطائفة، ومِنْ أحسنهم تعليمًا وتأديبًا وتقويمًا» «مجموع الفتاوى» (10/ 686).

وقال عليّ بن هارون ومحمد بن أحمد بن يعقوب: سمعنا الْجُنَيْد غير مرة يقول: «علمنا مضبوطٌ بالكتاب والسنة، من لم يحفظ الكتاب ويكتب الحديث ولم يتفقّه لا يُقْتَدى به». «تاريخ الإسلام» (22/ 73).

كما قَالَ الجنيد: «الطريق إِلَى اللَّه عز وجل مسدودة عَلَى خلق اللَّه تعالى، إلا عَلَى المقتفين آثار رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ والتابعين لسنته، كَمَا قَالَ اللَّه عز وجل: ( لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ)» . (تلبيس إبليس – ص 12).

تعليق لابن تيمية على مسلك شيوخ الصوفية الأوائل

لكي تكتمل الصورة لا بد هنا للإشارة إلى قول شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله عن شيوخ الصوفية الأوائل وسبب ثنائه عليهم، فقال في كتاب الفتاوى: «وَهَؤُلَاءِ الْمَشَايِخُ لَمْ يَخْرُجُوا فِي الْأُصُولِ الْكِبَارِ عَنْ أُصُولِ «أَهْلِ السُّنَّةِ وَالْجَمَاعَةِ»؛ بَلْ كَانَ لَهُمْ مِنْ التَّرْغِيبِ فِي أُصُولِ أَهْلِ السُّنَّةِ، وَالدُّعَاءِ إلَيْهَا، وَالْحِرْصِ عَلَى نَشْرِهَا، وَمُنَابَذَةِ مَنْ خَالَفَهَا، مَعَ الدِّينِ وَالْفَضْلِ وَالصَّلَاحِ مَا رَفَعَ اللَّهُ بِهِ أَقْدَارَهُمْ، وَأَعْلَى مَنَارَهُمْ، وَغَالِبُ مَا يَقُولُونَهُ فِي أُصُولِهَا الْكِبَارِ: جَيِّدٌ، مَعَ أَنَّهُ لَا بُدَّ وَأَنْ يُوجَدَ فِي كَلَامِهِمْ، وَكَلَامِ نُظَرَائِهِمْ، مِنْ الْمَسَائِلِ الْمَرْجُوحَةِ، وَالدَّلَائِلِ الضَّعِيفَةِ؛ كَأَحَادِيثَ لَا تَثْبُتُ، وَمَقَايِيسُ لَا تَطَّرِدُ، مَعَ مَا يَعْرِفُهُ أَهْلُ الْبَصِيرَةِ؛ وَذَلِكَ أَنَّ كُلَّ أَحَدٍ يُؤْخَذُ مِنْ قَوْلِهِ وَيُتْرَكُ إلَّا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ». «مجموع الفتاوى» (3/ 377) .

هنا يظهر للمتأمل أن كلام ابن تيمية -رحمه الله- في الثناء على الجنيد إنما هو ثناء على طائفة من أوائل المتصوفة المعروفين بالزهد والتقلل من الدنيا، والبعيدين عن المزالق العقدية والانحرافات والسلوكية الخطيرة التي ظهرت على كثير من المتأخرين منهم الذين وقعوا في مزالق عديدة مثل تعظيم القباب والأضرحة، وتقديس المشايخ، وتعطيلِ الشرع والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، والتعلق بالخرافات والمنامات، والغلو في القدر، والفناء في توحيد الربوبية، وغير ذلك.

وبذلك يتضح جليًا أن الصوفية الحديثة ليست امتدادًا للصوفية الأولى، وأن هناك فرق كبير بين حال الفريقين.

من مواعظ الجنيد البغدادي رحمه الله

الجنيد

قَالَ الجُنَيْدُ: كُنْتُ بَيْنَ يَدَيِ السِّرِيِّ أَلْعَبُ وَأَنَا ابْنُ سَبْعِ سِنِيْنَ، فَتَكَلَّمُوا فِي الشُّكْرِ؟ فَقَالَ: يَا غُلاَمُ! مَا الشُّكْرُ؟ قُلْتُ: أَنْ لاَ يُعْصَى اللهُ بِنِعَمِهِ.

قال أبو محمد الجريري: سمعت الجنيد بن محمد يقول: «ما أخذنا التصوف عن القال والقيل، لكن عن الجوع وترك الدنيا، وقطع المألوفات والمستحسنات؛ لأن التصوف هو صفاء المعاملة مع الله، وأصله العزوف عن الدنيا، كما قال حارثة: عزفت نفسي عن الدنيا، فأسهرت ليلي وأظمأت نهاري» (حلية الأولياء – ص: 278).

كتب الجنيد إلى بعض إخوانه: «من أشار إلى الله وسكن إلى غيره ابتلاه الله، وحجب ذكره عن قلبه، وأجراه على لسانه، فإن انتبه وانقطع ممن سكن إليه ورجع إلى ما أشار إليه كشف الله ما به من المحن والبلوى، وإن دام على سكونه نزع الله عن قلوب الخلق الرحمة عليه، وألبسه لباس الطمع، فتزداد مطالبه منهم، مع فقدان الرحمة من قلوبهم، فتصير حياته عجزا، وموته كمدا، ومعاده أسفا، ونحن نعوذ بالله من السكون إلى غير الله».

وقال الجنيد:

لو أقبل صادق على الله ألف ألف سنة، ثم أعرض عنه لحظة كان ما فاته أكثر مما ناله.

وقال رجل للجنيد: علام يتأسف المحب؟ قال: “على زمان بسط أورث قبضًا، أو زمان أنس أورث وحشة؟”.

وقال يوسف بن محمد القواس: سمعت الجنيد بن محمد، يقول: «إن الله عز وجل يخلص إلى القلوب من بره حسبما خلصت القلوب به إليه من ذكره فانظر ماذا خالط قلبك؟».

قال علي بن هارون بن محمد: «سمعت الجنيد بن محمد يدعو بهذا الدعاء فجاءه رجل فشكا إليه الضيق، فعلمه وقال له قل: اللهم إني أسألك منك ما هو لك، وأستعيذك من كل أمر يسخطك.. اللهم املأ قلبي بك فرحا، ولساني بك ذكرا، وجوارحي فيما يرضيك شغلا، اللهم امح عن قلبي كل ذكر إلا ذكرك، وكل حب إلا حبك، وكل ود إلا ودك، وكل إجلال إلا إجلالك، وكل تعظيم إلا تعظيمك، وكل رجاء إلا لك، وكل خوف إلا خوفا منك، وكل رغبة إلا إليك، وكل رهبة إلا لك، وكل سؤال إلا منك، اللهم اجعلني ممن لك يعطي، ولك يمنع، وبك يستعين وإليك يلجأ، وبك يتعزز، ولك يصبر، وبحكمك يرضى، اللهم اجعلني ممن يقصد إليك قصد من لا رجوع له إلا إليك..»

وكتب إلي جعفر بن محمد، وأخبرني عنه محمد بن عبد الله قال: سمعت الجنيد، يقول: «يا ذاكر الذاكرين بما به ذكروه، ويا بادئ العارفين بما به عرفوه، ويا موفق العاملين لصالح ما عملوه، من ذا الذي يشفع عندك إلا بإذنك، ومن ذا الذي يذكرك إلا بفضلك».

يقول الجنيد رحمه الله: «أعلم خلقه به أشدهم إقرارا بالعجز عن إدراك عظمته، أو تكشف ذاته لمعرفتهم بعجزهم عن إدراك من لا شيء مثله، إذ هو القديم وما سواه محدث، وإذ هو الأزلي وغيره المبدأ، وإذ هو الإله وما سواه مألوه، وإذ هو القوي من غير مقو، وكل قوي فبقوته قوي، وإذ هو العالم من غير معلم، ولا فائدة استفادها من غيره، وكل عالم فبعلمه علم. سبحانه الأول بغير بداية، والباقي إلى غير نهاية، ولا يستحق هذا الوصف غيره، ولا يليق بسواه، فأهل الخاصة من أوليائه في أعلى المعرفة من غير أن يبلغوا منها غاية ولا نهاية. والعامة من المؤمنين في أولها ولها شواهد ودلائل من العارفين على أعلاها، وعلى أدناها. فالشاهد على أدناها الإقرار بتوحيد الله، وخلع الأنداد من دونه، والتصديق به وبكتابه، وفرضه فيه ونهيه. والشاهد على أعلاها القيام فيه بحقه واتقاؤه في كل وقت، وإيثاره في جميع خلقه، واتباع معالي الأخلاق، واجتناب ما لا يقرب منه..» (حلية الأولياء، 10/ 276-277).

وسئل الجنيد عن أي شيء تنهى الحكمة؟ فقال: «الحكمة تنهي عن كل ما يحتاج أن يعتذر منه.. فقال له السائل: فبم تأمر الحكمة؟ قال: تأمر الحكمة بكل ما يحمد في الباقي أثره، ويطيب عند جملة الناس خبره، ويؤمن في العواقب ضرره. قال: فمن يستحق أن يوصف بالحكمة؟ قال: من إذا قال بلغ المدى والغاية فيما يتعرض لنعته بقليل القول، ويسير الإشارة، ومن لا يتعذر عليه من ذلك مما يريد، لأن ذلك عنده حاضر عتيد. قال: فبمن تأنس الحكمة وإلى من تستريح وتأوى؟ قال: إلى من انحسمت عن الكل مطامعه، وانقطعت من الفضل في الحاجات مطالبه، ومن اجتمعت همومه وحركاته في ذات ربه، ومن عادت منافعه على سائر أهل دهره.. (حلية الأولياء، 280/10 )

وسئل الجنيد عن قوله تعالى: ﴿لا أحب الآفلين﴾، قال: لا أحب من يغيب عن عياني وعن قلبي، وفي هذا دلالة أني إنما أحب من يدوم لي النظر إليه والعلم به، حتى يكون ذلك موجودا غير مفقود. وكذلك رأينا أن أشد الأشياء على المحبين أن يغيب عنهم من أحبوه وأن يفقدوا شاهدهم. (حلية الأولياء ، 283/10. )

وقال أبو جعفر الفرغاني: سمعت الجنيد يقول: أقل ما في الكلام سقوط هيبة الربِّ جلّ جلاله من القلب، والقلب إذا عَرِيَ من الهيَبْة عري من الإيمان. (سير أعلام النبلاء، 68/14 )

وقال الجنيد رحمه الله تعالى -طبقات الشافعية الكبرى، 264/2-:

المسير من الدنيا إلى الآخرة سهل هيِّن على المؤمن، وهجران الخلق في جنب الحق شديد، والمسير من النفس إلى الله صعب شديد، والصبر مع الله تعالى أشد. 

لما حضرت الجنيد بن محمد الوفاة أوصى بدفن جميع ما هو منسوب إليه من علمه، فقيل: ولم ذلك؟ فقال: أحببت أن لا يراني الله وقد تركت شيئا منسوبا إليّ، وعلم الرسول صلى الله عليه وسلم بين ظهرانيهم.. (تاريخ بغداد، 8/ 176-177)

وتوفي أبو القاسم الجنيد في بغداد سنة 297 للهجرة، وهو في سكرات الموت أخذ يتلو القرآن، فقيل له لو رفقت بنفسك، فأجاب: «ما أحد أحوج إلى ذلك مني الآن وهذا أوان طي صحيفتي». (البداية والنهاية – 14/ 768)  

وقال أبو بكر العطار: حضرت الجنيد أبا القاسم عند الموت في جماعة من أصحابنا، وكان قاعدا يصلي ويثني رجله إذا أراد أن يسجد فلم يزل كذلك حتى خرجت الروح من رجله فثقلت عليه حركتها فمد رجليه، فرآه بعض أصدقائه ممن حضر ذلك الوقت يقال له البسامي وكانت رجلا أبي القاسم تورمتا، فقال: ما هذا يا أبا القاسم؟ قال: «هذه نعم الله، الله أكبر، فلما فرغ من صلاته قال له أبو محمد الجريري: يا أبا القاسم لو اضطجعت، فقال: يا أبا محمد، هذا وقت منة، الله أكبر، فلم يزل ذلك حاله حتى مات رحمه الله».

المصادر

  • كتاب حلية الأولياء وطبقات الأصفياء.
  • كتاب مجموع فتاوى ابن تيمية.
  • كتاب تاريخ بغداد.
  • كتاب سير أعلام النبلاء.
  • كتاب البداية والنهاية.
  • كتاب طبقات الشافعية الكبرى.
  • كتاب وفيات الأعيان.
  • الإمام الجنيد.

تبيان

تبيان، مجلة رقمية تتناول ما يُهم أمّتنا ومشاكلها وقضاياها الحقيقية

مقالات ذات صلة

تعليق واحد

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى