كيف تدهور واقعنا بغياب الخلافة؟ – الجزء الثاني

الجاذبية التاريخية للهجرة إلى بلاد الخلافة الإسلامية

1-عندما كانت الدولة العثمانية وشمال إفريقيا مقصداً لهجرة الإنجليز:

يقول الأستاذ نبيل مطر إن طاقة عصر النهضة في أوروبا دفعت الإنجليز نحو الاستكشاف شرقاً باتجاه الدولة العثمانية وغرباً باتجاه أمريكا، وقد أهمل المؤرخون علاقتهم المثلثة بشمال إفريقيا وأمريكا رغم أهميتها وتفوقها على بقية العلاقات في بداية الاستيطان في أمريكا، وكان هناك منذ منح الامتيازات الأجنبية لإنجلترا سنة1580 عدد من الإنجليز يسكنون المشرق العثماني وشمال إفريقيا أكثر من عدد الإنجليز المهاجرين إلى أمريكا، وكانت دوافع عبور “الإنجليز التعساء القلقين” البحر المتوسط إلى شمال إفريقيا هي نفسها دوافع عبور الأطلسي إلى أمريكا، أي البحث عن الفرص والثراء السريع، وكان القراصنة والتجار يجدون أن الفرص في شمال إفريقيا أكثر من الفرص في أمريكا، وكان كثير من الإنجليز “يهاجرون” إلى المسلمين ويعتنقون الإسلام، وظلت أعداد الإنجليز الموجودين في شمال إفريقيا أكبر من عددهم في أي مكان في العالم حتى أمريكا برحابتها إلى ما بعد منتصف القرن السابع عشر، ورغم أن الإنجليز وحدوا في نظرتهم بين الهندي والمسلم فإنهم فضلوا العبور من لندن إلى إسطنبول أو الجزائر على العبور من مستعمرة فرجينيا في أمريكا إلى الأراضي الهندية، وتمكنوا من فرض أنفسهم الثقيلة على الهنود ولكنهم اضطروا لتعديل أنفسهم مع المسلمين بما يناسب شروط المسلمين “الكافرة”، وكانت الأفكار الاستعمارية الإنجليزية تنجح في قمع الهنود ولكنها لم تنجح في قمع المسلمين إذ يمكن للسلطان العثماني أن يقابل كل جرائم الإنجليز بمثلها كما فعل عندما أمر بذبح التجار الإنجليز ومصادرة أملاكهم انتقاماً من هجوم الأسطول الإنجليزي على تونس[4].

كيف تدهور واقعنا بغياب الخلافة؟- الجزء الأول

2-اللجوء إلى العثمانيين زمن ضعفهم:

حتى في زمن الضعف والتراجع، كانت بلاد المسلمين هي الملجأ الذي يتطلع إليه الهاربون من ظروف بلادهم السياسية والدينية رغم الظروف الاقتصادية الصعبة التي كانت الدولة تعيشها في آخر أيامها، وعلى عكس الفكرة التي تصنعها أحداث اليوم، كانت الخلافة هي الحضن الذي يؤوي الجميع، وفي هذا يقول المؤرخ دونالد كواترت المتخصص في التاريخ العثماني في حديثه عن الهجرة إلى الدولة العثمانية في القرن التاسع عشر: “أما المهاجرون غير الطوعيين، أي المهاجرون اللاجئون، فكان من ضمنهم مسيحيو البلقان الباحثون عن ملاذ ديني، والذين استقروا بأعداد صغيرة في كل من الرومللي (أي أوروبا العثمانية) والأناضول، وهرب عدة مئات من المؤمنين القدامى (طائفة مسيحية أرثوذكسية اعترضت على إصلاح الكنيسة في روسيا في القرن السابع عشر) الذين كانوا قد هربوا من روسيا إلى مناطق الدانوب أثناء القرن الثامن عشر مرة أخرى إلى الأناضول سنة 1878 حين صارت تلك الأقاليم جزءاً من دولة رومانيا (أي أن المسيحي هرب من المسيحي ولجأ إلى المسلم)، وفي منتصف القرن توطنت مجموعات من البولنديين والمجريين والقوزاق بالقرب من استانبول وفي الأقاليم الأوروبية ومناطق غربي الأناضول، غالباً بعد إخفاق الثورات في بلادهم، وبينما كانت هجرات هؤلاء المسيحيين إلى الدولة العثمانية مدهشة، إلا أن أهميتها تخفت أمام الهجرات المسلمة الكبرى في فترة ما بعد سنة 1850 (أي أن الخلافة كانت ملجأ يتسابق الناس إليه ويتضاءل المدهش فيه إلى جانب الأكثر إدهاشاً)”[5].

3-اعتدال الهجرة من الدولة العثمانية في أضعف حالاتها: 

وعندما تراجع اقتصاد الدولة في قرنها الأخير اختار كثير من رعايا الدولة الهجرة إلى الولايات المتحدة كما يقول المؤرخ دونالد كواترت، ففي الفترة الواقعة بين 1860-1914 هاجر 1.2 مليون عثماني إلى أمريكا، ولكن الدولة العثمانية لم تكن فريدة في هذا الوضع لأنه في كل مكان في عالم البحر المتوسط وشمال أوروبا كانت الهجرة مزدهرة بحثاً عن حياة أفضل، وفي تسعينيات القرن التاسع عشر هاجر أكثر من أربعة ملايين شخص من أوروبا، وفي العقد التالي هاجر 7.5 مليون شخص، وكانت نسبة الهجرة العثمانية قليلة مقارنة بغيرها، ففي نفس الفترة السابقة هاجر من إيطاليا وحدها ستة ملايين شخص يؤلفون 18% من السكان مقابل 5% فقط من الدولة العثمانية، وكانت الهجرة العثمانية في معظمها لأسباب اقتصادية وما لبث ثلث المهاجرين أن عادوا إلى بلادهم (400 ألف) بعد الحصول على ثروات مناسبة وقاموا باستثمار خبراتهم وأموالهم في مشاريع محلية، ثم قفز عدد المهاجرين بشكل حاد في زمن الاتحاد والترقي[6].

ويقول الدكتور زين نور الدين زين نقلاً عن تقرير بريطاني سنة 1894 جاء فيه حديث عن مظاهر التطور في الحياة اللبنانية وارتفاع أجور العمال “ويبدو أيضاً أن مظاهر هذا الغنى والازدهار مرده إلى رجوع عدد غفير من الذين كانوا قد هاجروا إلى البرازيل والولايات المتحدة وأستراليا لسنوات خلت، وبعد أن جمعوا ثروات عظيمة بشتى الطرق عادوا إلى أوطانهم ليتمتعوا بالعيش الهانئ ما دام عندهم المال الكافي”[7].

والسؤال الآن: كم هي نسبة الراغبين في الهجرة من البلاد العربية واللجوء إلى دول الغرب في عصر التجزئة؟ ولعل الأسهل هو السؤال عن نسبة الراغبين في البقاء في بلادهم.

4-الانضمام للخلافة بين الحلم والقسر: 

قرأت عمن يريد أن يثبت وجوب قتال الممتنعين عن الانضمام إلى الخلافة، فلماذا لا يكون البحث أولاً عن جعل الانضمام إليها حلماً عند الآخرين كما كان قديماً وحديثاً وفقاً لما سبق؟ الغرب يبني جنة حصرية يحلم الناس بالوصول إليها والحياة فيها ولو صاروا خدماً، فلماذا لا نبني بقدراتنا الهائلة والمبعثرة جنة يحلم الناس أن تصلهم كراماً لا أن يصلوها خدماً؟ إن تسخير قدراتنا الهائلة في هذا المشروع لبناء الأمة النموذج بدل رميها تحت أقدام الاستعمار والاستهلاك لهو أفضل استثمار، وبدلاً من أن تكون ثرواتنا الهائلة مسخرة لبناء جنة الغرب للغربيين وحدهم، يجب أن تكون مسخّرة لبناء مشروع أمتنا للعالمين جميعاً، ولماذا لا نجعل الناس يقاتلون الظالمين للانضمام إلينا بدلاً من أن يقاتلوننا معهم، وأن يهاجروا للانضمام إلينا على الرحب والسعة بدلاً من الموت بين أمواج البحار، وأنا أتحدث هنا عن واقع كان قائماً بالفعل حتى في زمن الضعف والتراجع فضلاً عن زمن القوة والعز وليس حلماً خيالياً.

 مكانة الدولة العثمانية في التاريخ:

1-في التاريخ العام:

“إن المواقف منقسمة تجاه فكرة الإمبراطورية ، وقد نُظر تقليدياً إلى الإمبراطوريات الرومانية والصينية والعثمانية بصفتها علامات بارزة للتقدم في التاريخ البشري، وكان يُنظر للإمبراطوريات الاستعمارية الحديثة بنفس المنظار، ولكنها شُجبت بقوة أيضاً كونها عند التأمل فيها افتقدت أية شرعية أخلاقية” كما يقول المؤرخ البلجيكي جان لوك فالوت[8].

2-في تاريخ المسلمين:

عندما ألغى مصطفى كمال أتاتورك الخلافة الإسلامية ذهل كثير من المسلمين وعلمائهم، وكتبوا يعتذرون عن إعجابهم السابق ببطولاته ويشنعون عليه فعله ويطرون المآثر التاريخية للخلافة، ومما كتبه عنها الشيخ محمد شاكر (من أبرز علماء الأزهر ووالد المحدث أحمد شاكر والأديب محمود شاكر) في المقطم: “وهي البقية الباقية من مجد الإسلام وعهد النبوة الأولى، وهي العزاء الوحيد الذي كنا نتعزى به في نكبات الأيام وصروف الليالي”[9].

وفي المعنى نفسه قال أمير الشعراء شوقي:

حَسَب أتى طول الليالي دونه****قد طاح بين عشية وصباح

3-في رؤية الأعداء:

عندما أرادت بريطانيا الهيمنة على الهند قضت على منصب الإمبراطور المغولي (1857) وانتحلت الملكة فكتوريا لقب إمبراطورة الهند بدلاً منه لتحويل ولاء الهنود إليها، وعندما أرادت الدول الكبرى الهيمنة على المشرق العربي الإسلامي وتحطيم الكتلة الإسلامية قضت على منصب الخلافة الإسلامية لتقتسم البلاد العربية وتمنح فلسطين للصهيونية، أما عندما أرادت أمريكا بناء اليابان بعد هزيمة الحرب الكبرى الثانية لتكون معقلاً رأسمالياً ضد المد الشيوعي في شرق آسيا أبقت على منصب الإمبراطور وحافظت عليه ليكون مرجعية لليابانيين.

النتيجة:

الدول الكبرى تعرف ما الذي يبني الأمم أو يحطمها، وهي تتصرف على هذا الأساس وفقاً لمصالحها المتقلبة، والخلاف بيننا وبينها ليس مجرد سوء تفاهم بل تناقض من الجذور.

تقويم الدكتور عبد الوهاب المسيري لدور الدولة العثمانية وموقعها من الحضارة الغربية:

رغم أن المفكر الراحل الدكتور عبد الوهاب المسيري لم يكن متخصصاً في التاريخ العثماني، فقد قاده الاهتمام بالحضارة الغربية وعلاقتنا بها وسعيه لبناء مشروع حضاري بديل إلى وضع يده على جروح غائرة في تعامل أجيالنا مع هذا التاريخ ضمن عملية استلابها التي تحتاج إلى تقويم، ومن هذه العيوب الانحياز الأعمى للتاريخ الغربي على حساب التاريخ العثماني، وقراءة تاريخنا بعيون غربية، ودعا إلى إعادة التوازن لأنظارنا وإنصاف إنجازات العثمانيين، فقد قال في حديثه عن العلمنة الشاملة والفكر إن علمنة التاريخ في العالم الثالث تأخذ شكل تزايد الاهتمام بالتاريخ الغربي وتفاصيله وافتراض المركزية الأوروبية فينشأ المرء وهو يعرف كل شيء عن التاريخ “المشرف” للثورة الفرنسية ولكنه لا يعرف شيئاً عن إنجازات الدولة العثمانية[10]، ويقول أيضاً في حواراته: “وحينما ظهرت الدولة العثمانية كان الغرب ينظر إلى الشرق الإسلامي في رهبة وخوف واحترام، فقد كانت دولة قوية لها رموزها وأسلحتها، وعندها من الحضارة والتقدم والتكنولوجيا ما يجعلها قادرة على أن تعطي بمقدار ما تأخذ”[11]، وعن مرحلة ضعفها يقول منتقداً مصطلح “الرجل المريض” الذي يصف فيه الغرب الدولة العثمانية في القرن التاسع عشر واقتبسناه من الغربيين دون نقد: “الصورة التي يجسدها المصطلح تجعلنا ننظر بكثير من الاشمئزاز على أسوأ تقدير وبكثير من الشفقة دون أي احترام على أحسنه، وننسى تماماً أن الدولة العثمانية كانت تحمي شعوبها، رغم ضعفها واستبدادها، من الهجمة الاستعمارية الغربية التي عصفت بالعالم بأسره”[12].

المصادر:

[4] -نبيل مطر، الأتراك والإنكليز والمغاربة في عصر الاستكشاف، المؤسسة العربية للدراسات والنشر، بيروت، 2012، ترجمة: د. محمد عصفور، ص 163-217.

[5] – خليل إينالجيك (تحرير)، التاريخ الاقتصادي والاجتماعي للدولة العثمانية، دار المدار الإسلامي، بيروت، 2007، ترجمة الدكتور قاسم عبده قاسم، ج 2ص 537.

[6] -نفس المرجع، ص 533-535.

[7] -زين نور الدين زين، نشوء القومية العربية مع دراسة تاريخية في العلاقات العربية التركية، دار النهار للنشر، بيروت، 1986، ص 50.

[8] – Robert Aldrich (Ed), The Age of Empires, Thames & Hudson, London, 2007, p. 220.

[9] -الدكتور محمد محمد حسين، الاتجاهات الوطنية في الأدب المعاصر، مكتبة الآداب، 1962، ج 2 ص 38.

[10] -د. عبد الوهاب المسيري، العلمانية الجزئية والعلمانية الشاملة، دار الشروق، القاهرة، 2002، ج2 ص132.

[11] -الدكتور عبد الوهاب المسيري، حوارات (3): الهوية والحركية الإسلامية، دار الفكر، دمشق، 2009، تحرير: سوزان حرفي، ص 20.

[12] -الدكتور عبد الوهاب المسيري، حوارات (1): الثقافة والمنهج، دار الفكر، دمشق، 2009، تحرير: سوزان حرفي، ص 344-345.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى