كيف انتشر الموت الأسود عبر طريق الحرير

هذا المقال هو ترجمة بتصرف لمقال History.com بعنوان: How the Black Death Spread Along the Silk Road

طريق الحرير هو شبكة طرق التجارة البرية والبحرية، وهي تربط الصين والشرق الأقصى بأوروبا، وهذا من عام١٣٠ قبل الميلاد.

وفي عام ١٤٥٣م أصبح طريق الحرير مصدراً حيوياً لكلٍّ من الأقمشة والسلع الجلدية إلى التوابل والأحجار، وقد ربطت هذه الشبكة الواسعة بين المجتمعات، كما سمحت لهم بمشاركة الابتكارات، مثل صناعة الورق وتكنولوجيا الطباعة، بالإضافة إلى تشارك اللغة والثقافة والمعتقدات الدينية.

ولكن هذا الطريق السريع في العصور الوسطى كان له إرثٌ أسود وقاتل. لقد مكّن هذا الطريق العظيم أحد الأوبئة المميتة الأولى -الطاعون الدبلي الذي عُرفَ لاحقاً بالموت الأسود- من الانتشار على طول طريقه، والوصول في نهاية المطاف إلى حافة أوروبا، حيث قتل في هذا الانتشار أكثر من ٥٠ مليوناً بين عامي ١٣٤٦ – ١٣٥٢ميلادياً.

ويقول مارك ويلفورد في هذا الصدد، وهو أستاذ في جامعة شمال أيوا، ومؤلف كتاب الجُغرافيا لعام ٢٠١٨: “تسبب طريق الحرير، لأول مرة، بالانتقال المستمر والمتواصل للأمراض المستوطنة إلى آسيا الوسطى وعلى طول الطريق إلى أوروبا”.

ووضح ويلفورد أيضاً: أنَّ أحد الأسبابِ التي جعلت طريق الحرير يُساعدُ على انتشار الميكروبات المسببة للأمراض هو أنه -بالرغم من اسمه- لم يكن مجرَّدَ طريقٍ واحد، أو مسارٍ واحد، إنَّما كان الجزء البري من طريق الحرير في الواقع هو عبارة عن مجموعة من المسارات والطرق التي انقسمت، ثُمَّ أُعيدَ ربطها عبر سهولِ آسيَا الْوسطَى، لتبدو تقريباً كما الأوعية الدموية في جسم الإنسان، أو حتى العروق في أوراق النباتات.

وبسبب هذا نشأت على طول الطريق محطّات مختلفة مثل القرى والبلدات والبُؤر الاستيطانيّة، وكانت هذه المحطّات تُسمّى بالمستوطنات.

وكانت قوافِل التُّجّار والجِمال تنتقِل ذهاباً وإياباً بين القرى والمستوطنات، وكانوا يبيعون سلعهم مقابل سلع أخرى، أو مقابل الذهب والنّقود وهذا ممّا ساعد أكثر في انتشار العدوى.

هكذا، كما توضّح الصّورة، كان يمر التّجار مع حيواناتهم أيضًا على طول هذا الطريق، ناقلين للطاعون الدبلي، الذي انتشر في ذلك الوقت ببطء، وبشكل تدريجيّ بين القرى والمستوطنات. ولِسوء الحظ أيضاً، فقد كان المسافرون ناقلين للعدوى كذلك، ممّا جعلَ بعض الباحثين يشيرون إلى هذا الطريق كالمصدر الأول والأساسيّ الذي تسبب بانتشار الطّاعون في ذلك الوقت.

وفي دراسة أُجريت عام ٢٠١٥م، رجَّحَ علماء نرويجيون وسويديون، أن التقلبات في مناخ سهول آسيا الوسطى تسببت في موت أعداد كبيرة من القوارض في المنطقة -الجرذان والفئران- وهذا الأمر قد جعل البراغيث التي تحمل بكتيريا تدعى (يرسينيا بيستيس) وهي التي تسبب مرض الطاعون الدبلي، تُغادر أجساد الجرذان وبقيّة القوارض وتسعى للعثور على أجساد جديدة للعيش داخلها، مثل الإبل وراكبيها من البشر.

ووفقاً لنظرية أجراها العلماء، استغرق نقل العدوى بين القوافل في طريق الحرير قرابة عقدٍ كامل حتى تمكن الطاعون من الانتشار تدريجياً باتجاه الغرب وصولاً إلى حافّة أوروبا.

 ويقول وولفورد أيضاً: “إنّ ميناء كَفة الذي يقع على البحر الأسود، والذي يُعرف الآن باسم فيودوسيا، يعدّ نقطة الانطلاق الأولى لمرض الطّاعون الدّبلي في العصور الوسطى، إذ انتشر المرض عبره من آسيا إلى أوروبا، وهذا عام ١٣٤٦ ميلاديًا.” كما يقول أيضاً: “غادر سكان مدينة جنوة والبندقية ميناء كَفَة بالقارب، وهم في طريقهم إلى صقلية نقلوا العدوى إلى القسطنطينية وأثينا، لكنّي أظن أن الطّاعون كان قد وصل أيضاً إلى القسطنطينية عبر طرق بريّة.”

وتدّعي أحد الروايات الشّهيرة التي انتشرت في القرن الرابع عشر أنّ الطّاعون الدّبلي قد دخل إلى ميناء كَفَة عن عمد، وهذا عبر هجوم حرب بيولوجية منغولية ضمنت إلقاء جُثث مصابة بالطّاعون على حدود وأسوار المدينة.

وسواء صدقت هذه الرواية أم لا، فإنّنا في نهاية المطاف أمام حقيقة واحدة، وهي أنّ الطّاعون الدّبلي كان في ذلك الوقت كارثة في الشرق كما هو كارثة في الغرب. 

فالإحصائيات تشير إلى أنّ الطّاعون قتلَ ٢٥ مليون شخص في آسيا وشمال أفريقيا، هذا فقط بين عامي ١٣٤٧-١٣٥٠م. إضافةً إلى المذبحة التي تسبب بها في أوروبا.

وفي هذا الصدد يوضح كريستوفر آي بيكويث الأستاذ المتميز في جامعة إنديانا بلومنجتون ومؤلف كتاب “إمبراطوريات طريق الحرير”: “لقد قُتِلَ على يد هذا المرض الكثير من الحكام المغول وحكّام لدول الأخرى، كما قُتِل جنود في الجيش وتدهورت الاقتصادات المحلية”.

ويقول وولفورد: “أعتقد أنه يمكن تقديم دليل جيّد مفاده أن الموت الأسود انتَشَر في وقتٍ تعرَّضت فيه صحّة الفقراء للخطر بسبب المجاعات والفقر وطبيعة الفلاحة في ذلك الوقت”.

وفي ديكاميرون، الرواية التي كُتِبت عام ١٣٤٥م، يصف جيوفاني بوكاتشيو الموت الأسود، الذي وصل إلى فلورنسا عام ١٣٤٨م. 

وفي وصف دقيق يوضّح الكاتب كيفيّة تطوّر الضحايا المصابة بهذا المرض، أولاً تورّم الفخذين والإبطين، ثمّ يبدأ المرض في نشر نفسه سريعاً بكامل الجسد، وبعد ذلك يبدأ شكل المرض في التغيّر، وتظهر بثور سوداء ومنتفخة في كثير من الحالات على الذّراع أو الفخذ أو في أيّ مكان آخر، وتبدأ البثور قليلة وذات حجم كبير، ثم كثيرة وحجمها أدق من قبل.وكتب بوكاتشيو، أنه بين شهري مارس ويوليو من تلك السنة الفظيعة، لقيَ أكثر من ١٠٠,٠٠٠ من سُكّان المدينة حتفهم، وتراكمت أجسادهم خارج أسوار المدينة. وتركت القُصور الكبرى والمنازل الفخمة، بحيث كانت المدينة خاوية على عروشها على حد تعبير بوكاتشيو.

بدون المعرفة العلمية الحديثة والمضادات الحيوية، كافح الأوروبيون من خلال التجربة والخطأ لإيجاد طرق لمحاربة الانتشار الواسع للبكتيريا. 

ويقول وولفورد: “حدث تلاشي الطاعون واختفاؤه بسبب الاستخدام المشترك للحجر الصحي ومستشفيات الطاعون، وأيضاً بفضل الاستخدام البدائي للأقنعة من قبل الأطباء، وإنشاء الحجر الصّحي وإغلاق الحدود”.

لكن هذا الموت الأسود لم ينته بالكامل. فقد عادت سلالات مختلفة من نفس البكتيريا لتدمر أوروبا مراراً وتكراراً، واستمرت في هجومها المدمّر حتى القرن الثامن عشر. بالإضافة إلى ذلك، كما ذكرت مجلة ساينس في عام٢٠١٦، وجد الباحثون أنّ سلالة من المرض التي تطوّرت في أوروبا وصلت في النهاية إلى الشرق، وقتلت ملايين الأشخاص في الصين، وحدث هذا في القرن التاسع عشر.

هكذا تزامن انتشار الموت الأسود مع بداية عالم أصغر وأكثر ارتباطًا وتكاملاً، ويرجع السبب في ذلك جزئيًا إلى طريق الحرير. حيث انتشرت الميكروبات على طول طريقه بسهولة، بالضبط كما انتشر الناس و الاختراعات والأفكار في ذلك الوقت.

هبة الحريري

طالبة علم شرعي، مهتمة باللغة العربية وقواعدها.

‫5 تعليقات

  1. ما شاء الله، ترجمة احترافية، أحسنتِ بإنتقاء الكلمات المُستخدمة للحصول على المعنى الأقرب، وبإختيار الموضوع، شيق ومفيد❤️!

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى