بين حذف مفاهيم من صميم الدين وعلمنة الإسلام: كيف تُستخدم الهيئات الدينية في إفساد الدين؟

تعتمد الأنظمة الاستبدادية منذ الأزمنة الأولى على ذات الأعمدة في تثبيت أركانها وإحكام سطوتها على الشعوب، وتُعتَبر الهيئات الدينية منذ العصور الوثنية إلى اليوم العمود الأهم والأبرز والأكثر تأثيرا في الناس لمكانة الدين في قلوب الرعية، فإذا كان هذا العمود لصالح الحاكم دام ملكه وإذا تمرد عليه زال حكمه وسقط عرشه، فقد سقط حكم فرعون يوم هَزم موسى سحرتَه وكهنته، يومها ظهر باطله أمام العامة وظهرت علامات سقوط أطغى طواغيت الأرض.

أما في عصرنا هذا، فلم يقتصر دور المؤسسات الدينية في عالمنا الإسلامي  على إصدار فتاوى تحت الطلب وعلى أهواء الملوك، بل وصلت بهم الدناءة إلى التجرؤ على نصوص قرآنية محكمة التنزيل قطعية الدلالة والورود، لم يتجرأ على التشكيك فيها أحد منذ تمام رسالة محمد صلى الله عليه وسلم.

فإلى جانب شطحات الأزهر في مصر والدول الأخرى بشرعنة البطش والطغيان، وافقت دار الإفتاء في تونس مقترح رئيس الجمهورية الذي فاجأ المسلمين وغير المسلمين من العرب والعجم، ومقتضاه المساواة بين الجنسين في الميراث وجواز زواج المسلمة التونسية من غير المسلم في سابقة خطيرة تمس المسلمين في ثوابت دينهم. فهل المؤسسات الدينية الرسمية في بلادنا هي مؤسسات تحافظ على الدين أم هي بوق من أبواق التدجين وآلية من آليات الفساد والإفساد؟

نماذج من فساد المؤسسات الدينية في بلدان العالم الإسلامي

  • مصر

لقد حول الطغاة الأزهر من منارة علمية إلى مجرد مزار تاريخي ومؤسسة وظيفية يستعملها المستبدون عند الحاجة، فمن أزهر صادع بالحق ناشر للعلم إلى أزهر خادم للسلطان مُزين للباطل، فمنذ بداية الحكم العسكري لمصر بانقلاب 1952، دُجِّن الأزهر وأصبح مؤسسة من مؤسسات العسكر، غُيِّرت مناهجه ومهامه وتحول إلى بوق من أبواق السلطة، فكان الأزهر اشتراكيا في عهد “عبد الناصر” وشجع رأس المال في عهدي “السادات” و”مبارك”، وكان موقفه مرتبكا من ثورة يناير، إذ اتخذ منها موقفا معارضا ثم فاترا ثم مؤيدا، وكان موقفه ضبابيا من حكم الإخوان المسلمين قبل أن  يتحول إلى صراع انتهى بوقوف شيخه “الدكتور أحمد الطيب” داعما وشريكا في الانقلاب على الرئيس السابق “المنتخب” محمد مرسي.

ويؤيد الأزهر جرائم السيسي في الشعب المصري معتمدا على نفس التعلات كمحاربة الإرهاب والتطرف، وأصدر مشايخه الفتاوى بإهدار الدماء المعصومة كما رأينا في ميداني “رابعة” و “النهضة”، وقد تمادى مفتي الديار المصرية السابق “علي جمعة” في تأييده للعسكر ومدحه لانقلابهم، ودعا في كلمة ألقاها أمام السيسي ووزير داخليته لإطلاق النار على المتظاهرين الرافضين للانقلاب وقال لفظا [اضرب في المليان، وإياك أن تضحي بأفرادك وجنودك من أجل هؤلاء الخوارج، فطوبى لمن قتلهم وقتلوه، فمن قتلهم كان أولى بالله منهم… فإنهم لا يستحقون مصريتنا ونحن نصاب بالعار منهم، ويجب أن نتبرأ منهم براءة الذئب من دم ابن يعقوب] وقال إن الرُّؤى تواترت بتأييد العسكر من قبل رسول الله صلى الله عليه وسلم! وقد برر حرق المساجد باستدلالات نزلها على هواه وعلى هوى سامعيه من سفاحي العسكر.

لقد رأينا دور الأزهر وشيوخه كمؤيدين للعسكر والسيسي من موقع “الفاعل” لكنه قام بنفس الدور من موقع “المفعول به” أيضا، فرغم كل ما سلف من إفراط وغلو في خدمة الاستبداد والدعاية له، أصبح الأزهر مؤخرا شماعة السيسي الجديدة لتبرير فشله السياسي والأمني، فبعد تواتر الهجمات في مصر شنت الأجهزة الإعلامية الموالية للنظام حملة على الأزهر واعتبرته “داعشي الهوى” و “مفرخة للإرهاب” وطالبت السلطة بضرورة استئصال بعص البرامج وعدم تدريس الآيات التي تدعو للجهاد وتتعرض لليهود والنصارى لأنها تحرض على الكراهية وتحث على الصراع بين الحضارات وقد لمح السيسي في أكثر من خطاب أن هناك أزمة دينية يجب معالجتها بتجديد الفكر الديني في اسرع وقت ممكن.

اقرأ أيضًا: ماذا وراء الحديث المتجدد عن تجديد الخطاب الديني في مصر؟

  • السعودية

لقد أبدعت الهيئات الدينية الرسمية السعودية وتفننت في تحريف المفاهيم الإسلامية خدمة لملوكهم وتبريرا وتزيينا لباطلهم والأمثلة على ذلك كثيرة نذكر أهمها وأكثرها ضررا للمسلمين وتأثيرا في واقعهم:

شرعنت هيئة كبار العلماء وجوزت  الحملة الصليبية على العراق وحصار الجزيرة العربية برا وبحرا وإنزال الآلاف من الجنود الأمريكيين والبريطانيين على أرض الحجاز في ما يسمى زورا وبهتانا “عملية تحرير الكويت”، واعتبر الشيخ أبو بكر الجزائري وهو من أبرز أعضاء هذه الهيئة أن قدوم الأمريكان إلى جزيرة العرب من أكبر نعم الله على هذه الأمة وأنه يتطلب سجدة شكر وقد صدر البيان الختامي لما يعرف بمؤتمر مكة سنة 1991 والذي شارك فيه أكثر من 400 عالم من الهيئات الرسمية الدينية العربية كالأزهر، اعتبروا فيه أن القوات الغازية هي قوات صديقة وهم “مستأمنين” شرعا وان كل من سيتصدى لهم هم من المعتدين والخوارج.

اعتبرت هذه المؤسسة الدينية حكومة (علاوي) حكومة شرعية، فبعد سقوط نظام “صدام حسين” وتولية الأمريكان لعلاوي في العراق، زار هذا الأخير السعودية وأصدرت هيئة كبار العلماء فتوة تعتبره فيها ولي أمر شرعي تجب طاعته وهو المولى من قبل الأمريكان!

ومن تناقضات هذه الهيئة دعمها للجهاد الأفغاني ضد الاتحاد السوفياتي ومحاربة نفس هذا الجهاد لما أصبح ضد الأمريكان، وكأن الروس مشركون والأمريكان مسلمون ينشرون الإسلام ويبشرون به! فلم يكن دعمهم للجهاد ضد الروس إلا طاعة لحليف مملكتهم “الأمريكان” وليس طاعة لله، فسقوط الاتحاد السوفياتي سيجعل من أمريكا المتحكم الوحيد في العالم وهذا ما حصل فعلا، ولما تحولت البندقية في وجه الغزاة الجدد تجندت هذه الهيئة وأصدرت فتاويها التي تُشوه المجاهدين وتُمجِّد الأمريكان باعتبارهم قوات صديقة ومستأمنة كما ذكرنا سلفا.

وما زالت الهيئات الدينية الرسمية في السعودية إلى اليوم تُشرعن الطغيان وتشوه الشرفاء في كل مكان، فهي تُفتي لصالح السبسي في مصر ولحفتر في ليبيا، وحركة حماس لديهم حركة خارجية إرهابية من وجهة نظرهم، ولم نسمع بصدور فتوة رسمية تندد بجرائم الصهاينة في فلسطين وحصارهم المسجد الأقصى ولا تنديدا واحدا بجرائم الأمريكان وقصفهم للمسلمين العزل في سوريا والصومال والعراق واليمن.

  • تونس

يُعتبر ديوان الإفتاء في تونس أعلى مؤسسة دينية في البلاد، ويقوم بدوره الوظيفي في خدمة السلطة التنفيذية وتغليف قراراتها العلمانية المتطرفة على أكمل وجه، وعُرفت منذ تأسيسها بمواقفها المثيرة للجدل ومخالفتها للنصوص القرآنية الصريحة وشذوذ شيوخها على إجماع علماء الأمة في أكثر من مسألة.

صدرت مجلة الأحوال الشخصية سنة 1956، وصدرت فيها تشريعات مخالفة للشريعة الإسلامية فاجأت التونسيين وكل المسلمين في العالم، حيث مُنع تعدد الزوجات وجُعل من الطلاق إجراء قانونيا لا يُقضَى فيه إلا عن طريق القضاء الوضعي، وأصدر بورقيبة قانونا يسمح للتونسيين بالتبني وللمرأة بالإجهاض، ودعا بورقيبة الشعب التونسي للتبرك بقبور الأولياء الصالحين عوض الذهاب للحج باعتباره إهدارا للمقادير المالية من العملة الصعبة ووصل به التطاول على الإسلام بإصداره منشورا سنة 1981 يمنع ارتداء الحجاب واعتبره مظهرا طائفيا لا يتماشى مع الحداثة والتطور ولم تُعارض دار الإفتاء هذه القرارات المعتدية على حدود الله إلا في حالة واحدة.

منع بورقيبة سنة 1962 الصيام بدعوى زيادة الإنتاج وقام بشرب الماء على شاشة التلفزيون الرسمي، فعارض الشيخ الطاهر بن عاشور هذا القرار وخرج على الإذاعة الرسمية وتلا آية الصيام ثم قال “صدق الله وكذب بورقيبة” وتمت إقالته من دار الإفتاء.

ها هي تونس تعيش اليوم واقعة أخرى لا “بن عاشور” لها، حيث أصدر ديوان الإفتاء بيانا يساند فيه مقترحات الرئيس “الباجي قائد السبسي” التي دعا فيها للمساواة بين المرأة والرجل في الميراث والسماح للتونسيات المسلمات بالزواج من غير المسلمين، وهي المرة الأولى التي تساند فيها هيئة دينية رسمية هكذا قرارات.

وبارك المفتي “عثمان بطيخ” ما سماها “اجتهادات” الرئيس علما وأنه تناقض مع نفسه، فقد رفض السنة الماضية نفس المقترح حين تقدم به النائب في البرلمان “مهدي بن غربية” واعتبره مخالفة صريحة للنص القرآني، لكن الشيء من مأتاه لا يُستغرَب، فلهذا المفتي ملف في دائرة القضاء المالي بتهمة اختلاس أموال الحجيج في السنة الفارطة، وهو نفسه مفتي الطاغية بن علي والمُقر والمُؤيد لكل جرائمه في حق التونسيين والملتزمين بدينهم خاصة، وهو الذي لا يعارض الاعتداء جنسيا على المرأة التونسية في بيوت البغاء المرخص لها قانونيا، فكيف له أن يدعي أن مقترحات الرئيس في مصلحة المرأة وهو الذي لا يغار على عرضها وشرفها!

ما هي حقيقة الدين؟

لم يكن الإسلام دينا كهنوتيا، ولا يقر بوجود وسائط بين الخالق والمخلوقين على عكس النصرانية واليهودية، فكلمة كهنوت مشتقة من كلمة “كوهين” بالعبرية، ومعناها خادم الرب والمؤتمن على شريعته، واستبدت الكنيسة عصورا من الزمن باسم هذا التفويض الإلهي المفترى والمكذوب، وشاركت في الحكم مع الأباطرة، فعاشت أوروبا عصورا مظلمة ومتخلفة، فنهبوا أموال الرعية وافتكوا أراضي الفلاحين ومارسوا حكما إقطاعيا همجيا، وزادوا من شقاء الفقراء بنهب القليل الذي لديهم باسم صكوك الغفران ومحو الذنوب، دون أن ننسى محاكم التفتيش التي تنكل بكل ثائر وبكل معارض، فالبابا هو “ظل الله في الأرض” فحكمه من حكم الله، فهو المعصوم الذي لا يخطئ، والقاضي الذي لا يظلم كما يفترون.

ما أشبه عصور أوروبا المظلمة بأيامنا هذه، وها نحن نرى تحالف الملوك والهيئات الدينية في عالمنا الإسلامي على نهج الكهنة والأباطرة، فبعد عزل الإسلام عن السياسة والحياة بالحديد والنار، صنع الطغاة هذه المؤسسات الدينية للتحكم في عواطف الناس حسب أهوائهم وتبعا لإملاءات أسيادهم في الغرب، فالأصل هو أن لا مؤسسات دينية في الإسلام، فقد قال تعالى: (وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذَا دَعَانِ فَلْيَسْتَجِيبُوا لِي وَلْيُؤْمِنُوا بِي لَعَلَّهُمْ يَرْشُدُونَ) [البقرة: 186].فالعلاقة مع الله مباشرة دون حواجز، فلا وساطة لفئة أو فرد أو مؤسسة.

المؤسسات الدينية في العالم العربي: عملاء لا علماء

وقد تعمَّد الطغاة حصر الإسلام في مؤسسات “رسمية” تتبعه كي يحجبوا شموليته عن العامة، فيصبح دينا كهنوتيا قيصريا متناسين قول الله تعالى (قُلْ إِنَّ صَلاتِي وَنُسُكِي وَمَحْيَايَ وَمَمَاتِي لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ * لا شَرِيكَ لَهُ وَبِذَلِكَ أُمِرْتُ وَأَنَا أَوَّلُ الْمُسْلِمِينَ) فالإسلام شامل لكل مجالات الحياة، هو دين الله في كل مكان وفي كل زمان، حكمه ماض في كل ملك وسلطان، وليس دينًا موسميا نتذكره في المناسبات حسب الأهواء  الملكية والدعايات السياسية.

يقول الأستاذ “طارق حسن السقا” في دراسته حول المؤسسة الدينية في العالم العربي [إن المؤسسة الدينية في كل بلدان العالم الإسلامي وبغير استثناء ليست سوى ديكور يتم في بلاط الحكام، ويقتصر دور هذه المؤسسة على تجميل الحكام أكثر من أي شيء آخر فضلا عن كونها مؤسسة قاصر لا سلطان ولا حرية لها وليس لها أن تلقي بدلوها في خصوصياتها إلا بعد موافقة السلطة وهي مؤسسة مقيدة، مسلسلة، محصورة.]

يرتبط أداء المؤسسات الدينية في عالمنا الإسلامي بطبيعة وجودها وطبيعة واضعيها، فهي تابعة للسلطة التنفيذية، وتُسند لها الوظائف مباشرة من الرئيس أو الملك، فيُعيَّن شيخ الأزهر في مصر وإمام جامع الزيتونة وجامع عقبة بن نافع في تونس وإمام المسجد الأموي في سوريا وإمام جامع القرويين بفاس في المغرب عن طريق حكام هذه البلدان، ويُعيَّن القائمون على الإفتاء بمراسيم رئاسية أو ملكية، وهذا ما يفسر لنا العلاقة الحميمية المبنية على الولاء والطاعة المطلقة بين هذه الهيئات والسلطة التنفيذية، فهي علاقة مبنية على المنفعة والمصلحة.

تدعم هذه الهيئات السلطة وتُفتي لصالحها وتُغرقها الأخرى في الأموال وتُغريها بالخيرات المادية والاجتماعية من خلال المناصب العالية والقرب من الأسر السلطانية وولاة الأمور، فلا ينطق هؤلاء بكلمة حق واحدة عند سلطان جائر ولا يقدمون لهم النصح ولا ينهونهم عن ما نهى الله، فالإسلام دين مناهض للظلم لا مقر له كما جعله كهنة العصر

لقد بان للقاصي والداني و للعالم والجاهل حقيقة هذه الهيئات الدينية وحقيقة القائمين عليها من علماء السلاطين وشيوخ الفتنة والضلالة، فقد فضخهم الله في أكثر من واقعة واختبرهم في أكثر من موضع، فافتروا عليه وحرفوا كلامه وتعدوا حدوده، فعلينا كمسلمين التبرؤ منهم كما تبرأ منهم رسول الله صلى الله عليه وسلم، وهو القائل عليه الصلاة والسلام [سيكون من بعدي أمراء، فمن دخل عليهم فصدقهم بكذبهم، وأعانهم على ظلمهم، فليس مني، ولست منه، وليس بوارد على الحوض، ومن لم يدخل عليهم، ولم يعنهم على ظلمهم، ولم يصدقهم بكذبهم، فهو مني وأنا منه، وهو وارد على الحوض] أخرجه الترمذي وقال صلى الله عليه وسلم [الفقهاء أمناء الرسل، ما لم يدخلوا في الدنيا ويتبعوا السلطان، فإذا فعلوا ذلك فاحذروهم]، فعلى كل غيور على دينه وأمته الحذر منهم وتحذير الغافلين منهم ومن باطلهم.


المصادر

دعوة المقاومة الإسلامية، عمر عبد الحكيم.

دراسة حول المؤسسة الدينية، طارق حسن السقا.

بيان دار الإفتاء التونسية

اللقاء المسرب لفتاوى علي جمعة أمام السيسي كاملا

محمد بن أبي عامر

طالب جامعي وناشط حقوقي، مدون مستقل، مهتم بالشؤون الدولية ومنخرط في معركة الوعي، مهتم لآلام… More »

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى