قبسات من حياة أم المؤمنين السيدة خديجة

هي خديجه بنت خويلد، كانت من كبار تجار قريش ومن أعالي النساء حسباً ومالاً أولى زوجات الرسول وأول من آمنت من النساء، أو لنتحرى الصدق هي أول إنسان آمن برسالة الإسلام ، لم تتوقف عن الجود بمالها ونفسها ورجاحة عقلها فى خدمة الدعوة إلى الإسلام ومؤازرة النبي صلى الله عليه وسلم .

 قبل نزول الوحي

حينما كان الرسول صلى الله عليه وسلم يلقب بالصادق الأمين، كانت السيدة خديجة تلقب بالطاهرة؛ دلالة على علو مكانتها وشرفها. كانت السيدة خديجة تعمل بالتجارة ولكن ما كانت تخرج لتجارةٍ مسافرةً، ولكن كانت تدفع مالها مُضاربةً للرجال، منها المال، ومن الرجال الجهد. وعندما سمعت -رضي الله عنها- عن أمانة وصدق النبي صلى الله عليه وسلم أرسلته بمالها مع غلامها ميسره. فذهب الرسول مع ميسره فى رحلة التجارة وكان ميسرة يراقبه، وإذ به يلحظ سحابة فى السماء تظلل الرسول أينما ذهب وعندما استراح الرسول بظل شجرة كانت مجاورة لمعبد, جاء الراهب وسأل ميسره من هذا؟ فقال له: محمد من مكة. فقال له الراهب: ما نزل تحت هذه الشجره قط إلا نبي، ويسر الله للنبي تجارته وربح ربحاً وفيراً. وعندما عاد ميسرة إلى السيدة خديجة، حكي لها عن كل ما رآه فى الرحلة, فأعجبت السيدة خديجة بما سمعته وبما عرفته عنه من صدق وأمانة وحسن خلق, وبرغم أن السائد أن الرجل هو من يأخذ خطوة الخطبة، وبالرغم من أنها كانت قد أعرضت عن الزواج بعد وفاة زوجها ورفضت من تقدم من خاطبين، وبرغم مكانتها العالية، أنها تكبره وفى سن أمه؛ فقد كانت هي فى الأربعين من عمرها، وهو فى الخامسة والعشرين من العمر، إلا أننا نجد منها الحكمة فى اختيار زوجها، فلا يهم كل تلك الأسباب أمام حسن الخلق والسيرة الطيبة للشخص، وهذا ما نجد الرسول صلى الله عليه وسلم يأمرنا به فيما بعد فى حديثة صلى الله عليه وسلم قال: “إذا جاءكم من ترضون دينه وخلقه فزوجوه ..”, ولا يهم كل ذلك إن كان الرجل المرجو هو النبي صلى الله عليه وسلم, فأخبرت صاحبتها نفيسة بنت أمية بما يجول فى صدرها، أنها ترى في محمد ما لا تراه في غيره من الرجال، وأنها تريد الزواج منه، فذهبت السيدة نفيسة للرسول تعرض عليه الزواج من خديجة، فقبل صلى الله عليه وسلم بشكل يحفظ ماء الوجه ويبدو كما أنه هو من تقدم، وذهب لأعمامه فوافقوا فرحين؛ لما لها من حسب ومال وجمال وشرف وتمت الخطبة والزواج.

نزول الوحي

كان الرسول صلى الله عليه وسلم يذهب ليتعبد فى غار حراء، وكانت السيدة خديجة تعد له ما يلزم من طعام وشراب وتذهب به إليه، حتى نزل الوحي على النبي صلى الله عليه وسلم فى غار حراء، جاءه سيدنا جبريل فقال له “إقرأ ” فيقول الرسول ما أنا بقارىء إلى نهاية الحدث، فأصاب النبي الفزع والخوف، وعاد ترتعد جنباته، يقول لهم “زملوني زملوني” فزملوه، وبدأ يهدأ ويحكي للسيدة خديجة عن ما جرى له، فما كان منها إلا العقل الراجح واللسان الطيب؛ فلم تشك بصدقه أو تقل أن ما حدث ما هو إلا هلاوس وأوهام، ولم تخف كعادة النساء في مثل تلك المواقف، فهي تعي دور الزوجة تمامًا، فعملت على تهدئة النبي، تضرب مثالاً للزوجة المؤمنة، فهي سكن ومصدر طمأنينة لزوجها، كما أخبر الله تعالى: {وَمِنْ آيَاتِهِ أَنْ خَلَقَ لَكُمْ مِنْ أَنْفُسِكُمْ أَزْوَاجًا لِتَسْكُنُوا إِلَيْهَا وَجَعَلَ بَيْنَكُمْ مَوَدَّةً وَرَحْمَةً}. فنجدها -رضى الله عنها- تقول له: “والله ما يخزيك الله أبدًا، إنك لتصل الرحم وتحمل الكَل وتكسب المعدوم وتُقري الضيف وتُعين على نوائب الحق”، فأراحت قلبة بطيب كلماتها, وذهبت معه لإستشارة ابن عمها ورقة بن نوفل، وكان كبير فى السن وفاقد لبصره. وعندما أخبره النبي بما حدث له قال: أن هذا الناموس الذي أخبر الله به سيدنا موسى، وتمنى لو كان مازال شاباً ليعاصر إخراج قريش له، فقال رسول الله: أو مُخرِجِيَّ هم؟ فرد عليه ابن نوفل قائلاً: ما يأتي رجلاً بمثل ما جئت به إلا عودي، وأن يدركني يومك لنصرتك نصراً مؤزراً.

ومن دلائل كمالها وفطنتها، حينما رأى الرسول سيدنا جبريل فى البيت فقال لها: إني أراه. قالت أتراه الآن؟ قال نعم. فقامت برفع حجابها عن رأسها وسألت النبي: هل تراه الآن؟ فقال: لا. قالت له: هذا والله ملك كريم، لا والله ما هذا شيطان.

لم تتوقف عن مناصرته والوقوف بجواره، فنجدها فى عام المقاطعة تخرج مع المسلمين برغم كبر سنها ووهن جسدها، إلا أنها اختارت أن تصبر مع المسلمين فى حصارهم لمدة ثلاث سنوات، وتركت قومها وما عندهم من مال وقوة.

وقد فتح عليها بالفقه من قبل أن ينزل عليهم، فحينما كانت تذهب بالطعام والشراب لغار حراء، قال سيدنا جبريل: “يا محمد! هذه خديجة تحمل حيساً في حلاب، وقد أرسلني الله إليها بالسلام”، فجاءت خديجة فقال لها الرسول: معك حيس، قالت: نعم يا رسول الله، قال: إن جبريل أخبرني ذاك وأخبرني أن الله أرسله إليك بالسلام، فقالت خديجة: “يا رسول الله، الله السلام ومنه السلام وعلى جبريل السلام”، فنجدها هنا أدركت جلالة الله وأنه هو -عز وجل- السلام ومنه نطلب السلام، فكيف أن نرد عليه السلام كما نفعل مع البشر! على عكس بعض الصحابة كانوا يقولون فى التشهد: السلام على الله، فنهاهم الرسول وقال الله السلام قولوا التحيات لله.

مكانتها

وقد بشرها الله ببيت فى الجنة من قصب لا صخب فيه ولا نصب، ومع ذلك لم تبرح تزود عن الإسلام بكل ما أوتيت من قوة، ولم تضعف عزيمتها ومؤازراتها للنبي صلى الله عليه وسلم. في مناقب فضلها يأتي الكثير من الأحاديث والمواقف، فبعد وفاتها -رضى الله عنها- فى الخامسة والستين بعد أن عاشت مع النبي صلى الله عليه وسلم خمسة وعشرين عاماً من الجهاد بالنفس والمال ومؤازرته؛ فقد كانت تنسيه ما يؤلمه من أقوال وأفعال المشركين, ما إن يذهب إليها إلا وتخفف عنه الحمل، فقد سخرها الله لتثبته وتصدقه, لذا فلا عجب أن لها فى قلب رسولنا الكريم مكانة كبيرة جعلته يقول عنها: “إني رزقت حبها”, ولم يتزوج عليها طوال حياتها. وفى بيان ما ذكر فى فضلها، قول رسول الله صلى الله عليه وسلم: “أفضل نساء أهل الجنة خديجة بنت خويلد، وفاطمة بنت محمد، وآسية بنت مزاحم امرأة فرعون، ومريم ابنة عمران” وفى رواية أخرى: أربع نساء هن سيدات نساء العالمين.

وظل النبي طوال حياته يذكرها بالطيب ويحسن إلى صاحباتها، فيذبح الشاة ويقطع أعضائها ويقول أرسلوا هذا إلى صاحبات خديجة. وعن أم المؤمنين عائشه قالت: “كان النبي إذا ذكر خديجة، أثنى عليها فأحسن الثناء، فغرت يوماً، فقلت: ما أكثر ما تذكرها، حمراء الشدق قد أبدلك الله -عز وجل- بها خيراً منها، قال: ما أبدلني الله خيراً منها، قد آمنت بي إذ كفر بي الناس، وصدقتني إذ كذبني الناس، وواستني بمالها إذ حرمني الناس، ورزقني الله ولدها إذ حرمني أولاد النساء”. وكان قلب النبي يرق شوقاً لها كلما تذكرها، فروى أحمد بن حنبل عن عباد عن عائشة قالت: “لما بعث أهل مكة في فداء أسراهم, فبعثت زينب بنت رسول الله في فداء أبي العاص بن ربيع بمال, وبعثت بقلادة لها كانت لخديجة أدخلتها بها على أبي العاص حين بنى عليها, قالت: فلما رآها رسول الله رق لها رقة شديدة، وقال: إن رأيتم أن تطلقوا لها أسيرها ورتدوا عليها الذي لها فافعلوا, فقالوا: نعم يارسول الله فأطلقوه وردوا عليها الذي لها”.

يقولون “وراء كل رجل عظيم إمرأة عظيمة”، فمن يجحد دور المرأة في تشديد أزر زوجها واحتوائها لما يلاقى من هم وكلل بخارج بيته واهتمامها بأموره وتصديقه في كل ما يفعل أمر هين لا أهمية فيه، فلنقل له إقرأ فى سيرة السيدة خديجة لتعلم مدى عظمة هذا الدور ومدى خدمته لبناء أمة قوية البنيان، فمع أن كفى بالله وكيلاً ونصيراً لمعاونة النبي على الدعوة ومع صناعة الله لنبينا محمد، فإن الله -عز وجل- لم يغفل دور النساء والزوجة في حياة زوجها، فكما لو أن الله وهب النبي محمد تلك الهدية الثمينة لتشاركه أموره وليستشيرها ويحاورها في ما يجري من أمور الدين والدنيا، وليكون كلاً منهما كنف للآخر, واستطاعت هي برجاحة عقلها وحكمتها أن تجاهد مع نبينا ولم تتخاذل أو تخذله يوماً, بل كانت خلفه تجود بمالها ونفسها, حتى سمي العام الذي لاقت ربها فيه بعام الحزن.. فنسأل الله -عز وجل- أن يرزق بنات المسلمين أخلاق أمهات المؤمنين، وأن يجعلهم ذخراً لبناء أمة قوية على نهج أمنا ..أم المؤمنين ..خديجة -رضى الله عنها وأرضاها-.

بقلم : نسمة

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى