حكايات من تاريخ المسلمين تحول الاستضعاف فيها إلى نصر وتمكين

لم يفقد النبي، صلى الله عليه وسلم، الأمل يوما، ورغم الخطوب والشدائد لم يهن له عزم، وكان أفضل وأعظم من علّم أصحابه وأمته معاني التفاؤل وحسن الظن في الله والثقة في وعده، كيف لا وهو رسول من عند الله الذي وعده بنصر دينه وإعلاء كلمته وهو لا يخلف الميعاد.

كانت المهمة العظمى للنبي صلى الله عليه وسلم تتمثل في إخراج الناس من الظلمات إلى النور، من ظلمات الشرك والجهل والظلم والضلال واليأس، إلى نور التوحيد والعلم والعدل والهدى والأمل. فلم يكن غريبا إذن أن ينشأ في فترة أحاطت بها الظلمات من كل الجوانب الدينية والاجتماعية والسياسية والاقتصادية، وينجح في إصلاح هذه الجوانب مجتمعة، إذ كانت مهمته أن يمحو عتمة ظلام الجاهلية بنور فجر الإسلام، ويأخذ بأيدي البشرية إلى الطريق السوي، حتى لو رأى الناس استحالة ذلك.

وبذلك كانت بعثة النبي محمد صلى الله عليه وسلم نقطة تحول فريدة في تاريخ البشرية، دخل فيها أبناء آدم مرحلة جديدة من النضج، وتغلبوا على ضعفهم البشري بما كان يحمل من كل عوامل اليأس من النهوض والإصلاح، إلا أن النبي الكريم والإنسان العظيم محمد بن عبدالله نجح بما يحمله من قرآن وإيمان في إصلاح نفوس من حوله من البشر وأصلح تبعا لذلك واقع البشرية من حوله ومن بعده.

ولذلك كانت من أهم سمات النبي عليه الصلاة والسلام الأمل والتفاؤل وقوة العزم وعلو الهمة وقوة الإرادة على إتمام رسالته، وزرع هذه المعاني في نفوس أصحابه خلال أوقات الشدة حتى يعبر بهم إلى بر الأمان، حتى تتعلم أمته من هذه المواقف كيف تتجاوز الصعاب التي تقابلها وكيف تتحول من مراحل الاستضعاف إلى النصر والتمكين عبر قلوب مؤمنة ونفوس مطمئنة حتى وإن كانت الظروف من حولهم مضطربة.

وقد سنَّ الله تعالى النظر في سِيَر الأوَّلين والآخرين؛ لمعرفة أسباب الظفر والتمكين، وأسباب الفشل والتراجع، للاعتبار بالتاريخ، فمن لم يعتبر بتاريخ من قبله، أصبح هو عبرة لمن بعده، وفي هذه السطور نستعرض بعض النماذج من المواقف التي انتقل فيها المسلمون من الاستضعاف إلى النصر والعزة رغم أن الصعاب التي تحيط بهم كانت تجزم بغير ذلك:

غزوة الخندق.. نقطة فاصلة في تاريخ المسلمين

وتسمى أيضا غزوة الأحزاب، ووقعت في شوال من السنة الخامسة للهجرة، الموافق مارس 627م، حين تحزبت الأحزاب وتداعت الجموع على المسلمين، فخرجت قريش وكنانة وأهل تهامة من الجنوب، وتقابلوا مع بني سليم وخرجت من الشرق قبائل غطفان وتقابلوا مع بني أسد. واتجهت هذه الأحزاب الكافرة صوب المدينة حتى تجمع حولها جيش يبلغ عدده عشرة آلاف مقاتل، وكان هذا العديد أكثر من عدد سكان المدينة كلهم!

وفضلا عن ذلك، التحق بهذه الأحزاب الخارجية يهود بني قريظة من داخل المدينة بعد أن نقضوا عهدهم مع رسول الله -صلى الله عليه وسلم. اجتمعوا جميعا لسبب واحد وهو القضاء على المسلمين وإنهاء دعوة الإسلام في مهدها. وذلك في وقت كان يعاني فيه أهل المدينة من جوع شديد، وبرد وزمهرير، وعدة قليلة.

وسط هذه الصعوبات التي زلزلت المؤمنين زلزالا شديدا، وافق النبي صلى الله عليه وسلم على فكرة الصحابي الجليل سيدنا سلمان الفارسي بحفر خندق حول المدينة، وخلال حفر الخندق قابل المسلمون صخرة كبيرة لم يستطيعوا كسرها، فجاء النبي عليه السلام وشارك معهم في تكسير الصخرة، ورغم هذه الأجواء الصعبة والتحديات المتلاحقة بشرهم بالنصر والفتح المبين، وقال: «بسم الله، فضرب ضربة كسر منها ثلث الحجر، وقال: الله أكبر، أعطيت مفاتيح الشام، والله إني لأبصر قصورها الحمر من مكاني هذا، ثم قال: بسم الله، وضرب ثانيةً فكسر ثلث الحجر، فقال: الله أكبر، أعطيت مفاتيح فارس، والله إني لأبصر المدائن وأبصر قصرها الأبيض من مكاني هذا، ثم قال: بسم الله، وضرب ضربة كسرت بقية الحجر، فقال: الله أكبر، أعطيت مفاتيح اليمن، والله إني لأبصر أبواب صنعاء من مكاني هذا».

لم يمر وقت طويل حتى أرسل الله ريحًا هدمت خيام الأحزاب وفرقت شملهم وأوهنت جمعهم، ورجعوا خائبين مختلفين، بعدما فشلوا في تحقيق هدفهم، بينما عاد المسلمون أكثر قوة وأمضى عزما وأنقى صفا، بعدما كانت الغزوة سببا في كشف خيانة يهود بني قريظة وإجلائهم من المدينة، وبذلك تعتبر غزوة الخندق من أهم غزوات المسلمين التي غيّرت مجرى التاريخ الإسلامي بأكمله، فهي الغزوة التي تحولت بعدها موازين القوى بين المسلمين والمشركين ، فأصبح المسلمون هم الطرف الأقوى وفي موقف الهجوم وليس الدفاع حتى أن النبي صلى الله عليه وسلم قال بعد الغزوة: «الآن نغزوهم ولا يغزوننا، نحن نسير إليهم».

معركة الزلاقة.. نجم مضيء في ليل الأندلس

تراجعت أحوال المسلمين في الأندلس بشكل خطير في القرن الخامس الهجري بسبب تفكك روابط الحكام وانقسامهم إلى ملوك طوائف يتآمر بعضهم على بعض، حتى تحالف بعضهم مع عدوهم ملك قشتالة ألفونس السادس، الذي استغل تلك الفرقة في الإيقاع بين حكام الأندلس.

وبلغت المأساة ذروتها حين سقطت «طليطلة» بأيدي ألفونسو السادس، ونقل إليها عاصمة ملكه، واستتبع سقوطها استيلاءُ الإسبان على سائر أراضي مملكة طليطلة. أطمع ذلك ألفونسو بباقي ممالك الطوائف، واتجهت أطماعه إلى «إشبيلية» حيث يحكمها آنذاك «المعتمد ابن عباد»، ورغم ضعفه وترفه إلا أنه كان عاقلا باستنجاده بقائد دولة المرابطين «يوسف بن تاشفين»، ولما عاتبه أحد المقريبن وحذره من أن ابن تاشفين قد ينقذه اليوم إلا أنه قد يرث ملكه غدا، فقال قولته الشهيرة: «لأن أكون راعيا للإبل عند ابن تاشفين خير من أن أرعى الخنازير عند ألفونسو».

غير أن «ابن تاشفين» كان أسمى من أن يستولي على ملك «ابن عباد» بعد أن أنقذه من مخاطر الهزيمة أمام ألفونس، عبر معركة الزلاقة التي وقعت في عام 479 هـ، وغيرت مسار التاريخ في ذلك الوقت. حيث أعادت للأندلس هيبتها وردت المكائد الصليبية في نحرها.

وكان عدد جيش المسلمين نحو ثلاثين ألف جندي، بينما استعد النصارى لقدوم يوسف بن تاشفين بجمع عدد ضخم من المقاتلين، بلغ في بعض التقديرات أكثر من ثلاثمائة ألف مقاتل، وفي النهاية واجه ألفونسو وجيشه هزيمة تاريخية، إذ لم ينجو منهم سوى نحو خمسمائة جندي صحبوا ألفونسوا وقت فراره، فيما أباد القتل والأسر مَنْ عداهم من أصحابهم، وبعض الروايات تقول بأن الذين نجوا أقل من الثلاثين. وغنم المسلمون كل ما لهم من مال وسلاح ودواب وغير ذلك.

فيما استشهد من المسلمين فيها حوالي ثلاثة آلاف رجل. كان انتصار المسلمين في الزلاقة نصرًا عظيمًا ذاعت أنباؤه في الأندلس والمغرب، واستبشر المسلمون به خيرًا عظيمًا.

ونتج عن هذا المعركة الحاسمة توقُّف ملوك الطوائف عن دفع الجزية لألفونس، وأنقذ هذا النصر غرب الأندلس من غاراته المدمرة، وأفقدهم عددا كبيرا من قواتهم، وأنعش آمال الأندلسيين وحطم خوفهم من النصارى، ورفع الحصار عن سرقسطة التي كادت تسقط في يد ألفونس، وحالت هذه المعركة دون سقوط الأندلس كلها في يد النصارى، ومدت في عمر الإسلام بالأندلس حوالي قرنين ونصف.

معركة تل حارم 599 ه.. عودة هيبة المسلمين أمام الصليبيين

مرت بالمسلمين في تاريخهم فترات من الضعف والفرقة والشتات، حتى طمع فيهم أعداؤهم، ومن رحمة الله بهذه الأمة أن قيّض لها بين الفينة والأخرى رجالًا يذودون عن حماها ويعيدون لها هيبتها وكرامتها، ومن هؤلاء الملك العادل نور الدين محمود زنكي الذي عرف بعدله وتقواه وورعه وعبادته وحبه للجهاد.

وكان نور الدين قد انهزم من الصليبيين في سنة 558 هـ في المعركة التي عُرفت بـ «البقيعة»، بعدما باغتهم الفرنج وهجموا عليهم قبل أن يتمكنوا حتى من ركوب الخيل أو أخذ السلاح، وأكثروا فيهم القتل والأسر، واستطاع نور الدين أن ينجو على فرسه حتى نزل على بحيرة «قدس» بالقرب من حمص.

وبعدها بدأ نور الدين رحمه الله بتجهيز قواته، استعدادًا لمواجهة الفرنج والأخذ بالثأر، وفي العام التالي سنة 559 هجرية خرج الصليبيون من «عسقلان» لقتال أسد الدين شيركوه بمصر، فاستغل نور الدين فرصة خروجهم، وراسل الأمراء يطلب العون والنصرة فجاؤوا من كل فَجّ، وكتب إلى الزُهَّاد والعباد يستمدّ منهم الدعاء، ويطلب أن يحثوا المسلمين على الغزو والجهاد في سبيل الله.

ولما اجتمعت الجيوش سار نحو «حارم» – وهو حصن حصين في بلاد الشام ناحية حلب – في شهر رمضان من هذه السنة فحاصرها ونصب المجانيق عليها، ثم تابع الزحف للقاء الفرنج الذين تجمعوا قريبا من الساحل مع أمرائهم وفرسانهم بزعامة أمير أنطاكية.

وقبيل المعركة انفرد نور الدين بنفسه تحت تل «حارم»، وسجد لله ومرَّغ وجهه وتضرع وقال: «يا رب هؤلاء عبيدك وهم أولياؤك، وهؤلاء عبيدك وهم أعداؤك، فانصر أولياءك على أعدائك» ….. «أيش فضول محمود في الوسط» وهو يعني أنك إن نصرتنا فدينك نصرت فلا تمنع النصر عن المسلمين بسببي، ثم قال: «اللهم انصر دينك ولا تنصر محمودًا، من محمود الكلب حتى يُنصر»؟!.

وبدأ القتال والتحمت الصفوف، وأحاط المسلمون بالفرنج من كل جانب، وألحقوا بهم هزيمة مدوية، وخسائر فادحة قُدِّرت بعشرة آلاف قتيل، ومثل هذا العدد أو أكثر من الأسرى، وكان من بين الأسرى أمير «أنطاكية» ، وأمير «طرابلس»، وحاكم «قيليقية» البيزنطي، وقد أسر جميع الأمراء عدا أمير «الأرمن».

وفي اليوم التالي استولى نور الدين على «حارم» بعد أن أجلى الفرنج عنها، وكان ذلك فتحًا كبيرًا، ونصرًا مبينًا أعاد للمسلمين الهيبة في قلوب أعدائهم، وأعز الله جنده وأولياءه في هذا الشهر المبارك.

موقعة حطين.. تحرير القدس وإعادة وحدة الأمة الإسلامية

أكثر من 90 عامًا عانت فيها مدينة القدس من أغلال احتلال الصليبيين، وولدت أجيال وماتت وزهرة المدائن تئن تحت وطأة تفرق المسلمين وتقاتل أمرائهم وتجبر أعدائهم، حتى نجح نور الدين محمود في إعادة نهضة المسلمين في العديد من العواصم والحواضر الإسلامية وعلى رأسها دمشق وحمص وحلب والقاهرة، إلا أن جهوده كادت تضيع بعد وفاته ولم يكن هناك من يملأ الفراغ الذي تركه، حتى تقدم صلاح الدين ليكمل المسيرة، ويعيد الوحدة، وكان الطريق شاقا لتحقيق هذا الهدف وإعادة الأمل.

وفي نحو عشر سنوات (ما بين عام 570هـ ، 1174م ، وعام 579هـ ، 1183م)، أقام صلاح الدين الأيوبي دولة قوية من أجل تحقيق هدفه الرئيسي وهو قتال الصليبيين وإخراجهم من الأراضي الإسلامية، وهو ما نجح فيه بعدما دخل في سلسلة من المعارك ضدهم تمكن من تحقيق النصر فيها.

وبعد انتصاره في معركة حطين (21 من ربيع الآخر 583هـ = 1 من يوليو 1187م) ووقوع ملك القدس وكبار قادة الصليبيين في الأسر، سقطت المدن والقلاع التي أقامها الصليبيون تباعًا في أيدي صلاح الدين مثل «طبرية» و«عكا» و«قيسيارية» و«نابلس» و«يافا» و«بيروت».

أصبح الطريق ممهدًا لصلاح الدين الأيوبي لدخول وفتح المدينة التي طالما حلم بفتحها وتحريرها، حيث قام بحصارها حصارًا قويًا من يوم الـ 20 من سبتمبر حتى استسلمت في النهاية.

لم تكن هزيمة الصليبين في حطين هزيمة طبيعية، وإنما كانت كارثة حلت بهم؛ حيث فقدوا زهرة فرسانهم، وقُتلت منهم أعداد هائلة، ووقع في الأسر مثلها، حتى قيل: إن من شاهد القتلى قال: ما هناك أسير، ومن عاين الأسرى قال: ما هناك قتيل.

وغدت فلسطين عقب حطين في متناول قبضة صلاح الدين، فشرع يفتح البلاد والمدن والثغور الصليبية واحدة بعد الأخرى، حتى توج جهوده بتحرير بيت المقدس في (27 من رجب 583هـ = 12 من أكتوبر 1187م).

عين جالوت.. القضاء على أسطورة المغول

لنحو أربعين سنة، أفسد جيش التتار (المغول) في الأرض إفسادًا عظيمًا، وقتلوا مئات الآلاف من المسلمين، وأشاعوا الرعب فيمن تبقى، فقد وحدَّهم جنكيز خان وأقام لهم دولة قوية، بدأت في اكتساح ما جاورها من البلاد، وكانت نكبة العالم الإسلامي كبيرة من قبلهم؛ فاستباحوا البلاد وقتلوا العباد، وأسقطوا الخلافة الإسلامية في بغداد سنة 656هـ، وكانوا يقومون بمجازر رهيبة في كل بلد يدخلونها؛ حتى يأس الناس من هزيمتهم، إذ لم يتصدَ لهم جيشٌ إلا هزم، وأصبح يقينا لدى أغلب الناس «أن التتار جيش لا يهزم أبدا».

وظل الحال كذلك حتى وقعت المعركة الفاصلة الأولى التي يهزم فيها المغول منذ عهد جنكيز خان المؤسس! إنها معركة عين جالوت التي وقعت في يوم الجمعة الخامس والعشرين من رمضان المبارك عام 658 هـ الموافق عام 1260 م.

كان قائد معركة عين جالوت «سيف الدين قطز» الذي وحد المماليك والعرب تحت راية واحدة من أجل صد الزحف التتري، وإيقاف شلالات الدم التي تسبب بها المغول في كل أرجاء الأرض.

أصدر قطز أوامره لقائد الجيش أن يعد العدة للغزو، فانشغل الناس بالاستعداد للجهاد، وخرج قطز بالجحافل المصرية في رمضان 658هـ، يتقدمهم العلماء والشيوخ، وانضمت إليهم العساكر الشامية، أما المغول فإن من تدبير الله أن هولاكو اضطر للعودة لفارس بعد وفاة ملك المغول، فترك القيادة لمساعده «كتبغا».

وصل قطز إلى غزة، والقلوب وجلة، والناس تترقب، فسارع إلى مهاجمة قوات التتار الموجودة، واستعاد غزة منهم؛ فارتفعت همم المسلمين، ورأوا لأول مرة التتار يفرون من أمامهم! ووصلت فلولهم إلى «كتبغا» تخبره بالهزيمة.

رأى قطز أن أنسب مكان لخوض المعركة هو سهل عين جالوت، وبينما قطز في عين جالوت ينتظر العدو إذا بأعداد غفيرة من المتطوعين الفلسطينيين يخرجون من القرى والمدن؛ ليلتحقوا بالجيش المسلم. إذ كان الناس يتشوقون للجهاد في سبيل الله ولا ينقصهم إلا القائد المخلص الذي يرون فيه أملًا لإنقاذ الأمة من هذا البلاء العظيم.

وبالفعل كتب الله النصر للمسلمين في هذه المعركة، ولقي التتار هزيمة مفصلية في عهد هولاكو بن طولوي بن جنكيز خان الذي أحدث المجزرة الشهيرة في مدينة بغداد عام 1258، والتي قتل فيها الخليفة المعتصم بالله، إلا انه لقي الهزيمة الساحقة بعد عامين فقط في معركة عين جالوت التي قضت على أسطورة جيش التتار.

معركة «وادي لكة».. التمهيد لفتح الأندلس

وتسمى كذلك معركة شذونة ووادي بَرْبَاط 92هـ=711م

من جبل طارق انطلقت جيوش الفتح الإسلامي لفتح بلاد الأندلس، وبعدما عبر طارق بن زياد إلى شبه جزيرة أيبيريا بدأ يستعد للمعركة؛ فكان أول ما صنع أن بحث عن أرض تصلح للقتال، حتى وجد منطقة تُسمى وادي بَرْبَاط، وتُسَمِّيها بعض المصادر أيضًا وادي لُكَّة وكذلك معركة شذونة.

وكان لاختيار طارق بن زياد لهذا المكان أبعاد إستراتيجية وعسكرية مهمة؛ فقد كان مِن خلفه وعن يمينه جبل شاهق، وبه حَمَى ظهرَهُ وميمنته؛ فلا يستطيع أحد أن يلتفَ حوله، وكان في ميسرته أيضًا بحيرة فهي ناحية آمنة تماما.

ثم وضع على المدخل الجنوبي لهذا الوادي أي في ظهره فرقة قوية بقيادة طريف بن مالك؛ حتى لا يُباغت أحدٌ ظهرَ المسلمين؛ ومن ثَم يستطيع أن يستدرج قوات النصارى من الناحية الأمامية إلى هذه المنطقة، ولا يستطيع أحدٌ أن يلتفَّ من حوله.

ومن بعيد جاء لُذريق قائد جيش النصارى في أبهى زينة؛ يلبس التاج الذهبي والثياب الموشَّاة بالذهب، وقد جلس على سرير محلًّى بالذهب يجرُّه بغلان، على رأس مائة ألف من الفرسان، بينما عدد جنود جيش المسلمين اثني عشر ألفًا فقط.

وفي يوم الأحد 28 من شهر رمضان سنة 92هـ= 19 من يوليو سنة 711م دارت المعركة بين الفريقين والتي تعد من أشرس المعارك في تاريخ المسلمين، واستمرت المعركة الطاحنة قرابة ثمانية أيام، وانتهت بانتصار المسلمين بقيادة طارق بن زياد وهزيمة ساحقة للقوط الغربيين الذين فروا من أرض المعركة.

وبعد ذلك استمر زحف طارق بن زياد والمسلمين، وفتحت المدن الواحدة تلو الأخرى، حتى وصل إلى مدينة طليطلة.

بلاط الشهداء.. فرنسا تخسر النور وتعيش في ظلام القرون الوسطى

قال روجيه جارودي: «إن فرنسا خسرت خسارة كبيرة بانتصار شارل مارتل على المسلمين في موقعة بلاط الشهداء (توربواتييه) ولو انتصر المسلمون فإن المدنية كانت ستتقدم قرنين على الأقل».

بقراءة هذه العبارة لواحد من المفكرين الفرنسيين يتجلى لنا عظم وأهمية هذه المعركة الحاسمة التي نشب أوارها في الثاني من رمضان سنة 114هـ، بقيادة عبد الرحمن الغافقي (وأصله من غافق وهي قبيلة يمنية).

لم يكن وصول المسلمين إلى أبواب باريس وبلوغ فتوحاتهم قلبَ أوروبا وليد الحظ السعيد أو المصادفة، بل كان مبنيًا على إيمان وتخطيط، وعزيمة تقهر الجبال قوة وثباتًا، ورسالة أرادوا إيصالها إلى مشارق الأرض ومغاربها غير طامعين بملذات الدنيا ومغرياتها.

لما تولى عبد الرحمن الغافقي الأندلس في سنة 112 هـ هاجم الفرنج مواقع إسلامية، حينها تحرك المسلمون للمواجهة وكانوا ما بين 50 و80 ألف مقاتل.

جمع عبد الرحمن جنده في «بنبلونة» شمال الأندلس، وعبر بهم في أوائل سنة (114هـ = 732م) جبال ألبرت ودخل فرنسا، وحقق انتصارات متوالية على الفرق الفرنسية التي واجهها في طريقه، وهذا ما دفع شارل مارتل لتجهيز جيش عرمرم تجاوز أضعاف عدد المسلمين (400 ألف مقاتل).

كانت الغلبة للمسلمين وكادوا أن ينتصروا نصرًا حاسمًا، لكن فرقة من فرسان الفرنجة اقتحمت الصفوف، حاول الغافقي أن يعيد النظام ويمسك بزمام الأمور ويرد الحماس إلى نفوس جنده، لكن الموت لم يسعفه بعد أن أصابه سهم غادر أودى بحياته فسقط شهيدًا في الميدان، فازدادت صفوف المسلمين اضطرابًا والجنود ذعرًا وانهزامًا. وصبروا حتى أقبل الليل فانتهزوا فرصة ظلام الليل وانسحبوا.

يزعم كثير من المؤرخين الأوروبيين أن المعركة كانت منجاة لأوروبا وشعبها من دخول المسلمين فاتحين. بيد أن العديد من المؤرخين الأوروبيين ينظرون بعين الإنصاف والحقيقة إلى نتائج هذه المعركة وأنها كانت إخفاقًا في ثوب نصر مؤزر؛ وقال جوستاف لوبون (حضارة العرب: 117): «لنفرض جدلًا أن النصارى عجزوا عن دحر العرب فماذا كان يصيب أوروبا؟» ، بينما قال «أناتول فرانس» أحد شعراء البلاط الفرنسي: ليت شارل مارتل قطعت يده ولم ينتصر على عبد الرحمن الغافقي، إن انتصاره أخّر المدنية عدة قرون.

الجهاد البحري.. يصد غارات أوروبا على شمال إفريقيا

بعد عقود دامية من الحملات الصليبية وحروب المغول والتتار من الشرق والحملات الصليبية من الغرب، من القرن الثاني عشر وحتى الرابع عشر الميلادي، وتزامن ذلك مع سقوط الأندلس ومعاناة المسلمين شمال غرب إفريقيا، عاشت الأمة الإسلامية فترة من الضعف ظن معها البعض أن عُمْر الأمة أوشك على النفاذ.

غير أن الأمة استعادت عافيتها رويدا رويدا في عدد من العواصم العربية وبعد بزوغ نجم الدولة العثمانية، وفي تلك الفترة ظهر ما يسمى بظاهرة «الجهاد البحري» والتي تعود وفقا لمؤرخين، إلى أواخر القرن التاسع ميلادي، لكنها ازدهرت مع القرن الخامس عشر، عندما كان البحارة المسلمون من شمال إفريقيا يتصدون لغارات السفن الأوروبية على دول شمال إفريقيا.

وبلغت فترة «الجهاد البحري» ذروتها خلال القرن السادس عشر بعد انضمام الموريسكيين، الأندلسيين المطرودين من قبل المماليك القشتالية الإسبانية، إلى حركات الجهاد البحري المزدهرة بالشمال الإفريقي آنذاك للانتقام، فبرز العديد من قادة الجهاد البحري المشهورين، مثل «خير الدين بربروس»، و«عروج بربروس»، و«تورجوت رايس»، و«مراد رايس».

والمقصود بالجهاد البحري  هو كل عمل حربي تقوم به سفينة أو مجموعة سفن تابعة لدولة مسلمة بهدف التصدي لسفن دولة أخرى معادية، وهو مفهوم مغاير تماما لمفهوم القرصنة.

واستنادًا لهذا التوصيف العلمي يمكن القول بأن هجوم السفن الإسلامية ضد السفن النصرانية جهادًا بحريًا إسلاميًا بامتداد الجهاد الإسلامي من الأرض إلى البحر لأن المسلمين استندوا إلى مبدأ الجهاد الإسلامي في محاربة أعداء الإسلام سواء في الأرض أو البحر .

ولهذا يطلق على العمليات البحرية التى قام بها المسلمون في مياه البحر المتوسط ضد سفن أسبانيا والبرتغال وما يسمى فرسان القديس يوحنا طوال القرون الخامس عشر والسادس عشر والسابع عشر والثامن عشر والتاسع عشرجهادًا بحريًا إسلاميًا جاءت بدايته ردًا على اعتداءات القوى النصرانية الصليبية على المسلمين في «الأندلس» – إسبانيا- وملاحقتهم في أثناء فرارهم من الاضطهاد إلى أقطار شمال افريقيا.

نختم هذا العرض السريع بالتذكير بقول ابن القيم رحمه الله: «ومن ظن إزالة أهل الكفر على أهل الإسلام إزالة تامة فقد ظن بالله السوء». وعلى مر العصور وتقلب الدهور قول الصادق صلى الله عليه وسلم «بشر هذه الأمة بالسناء والرفعة والتمكين»، لكن الأمر مشروط بشروطه، ومقيد بقيوده {إِن تَنصُرُوا اللَّهَ يَنصُرْكُمْ} [سورة محمد: 17].

تبيان

تبيان، مجلة رقمية تتناول ما يُهم أمّتنا ومشاكلها وقضاياها الحقيقية

مقالات ذات صلة

تعليق واحد

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى