الاستثمارات الأجنبية سبيلٌ لنهب الثروات وإملاء الشروط: الدولة العثمانية نموذجًا

في كتابها عن “الاستثمار الأجنبي في الإمبراطورية العثمانية: التجارة والعلاقات الدولية 1854-1914” تقدم البروفيسورة نجلا جيكداجي V. Necla Geyikdağı ملخصًا لتاريخ المصارف الأجنبية في الدولة العثمانية يتضمن المعلومات التالية…


تاريخ المصارف الأجنبية في الدولة العثمانية

1-كانت مصر هي البلد العثماني الأول الذي قام فيه البريطانيون بتأسيس مصرف أجنبي، وكانت مهمة “بنك مصر” الذي تأسس في سنة 1855، هي إقراض الطبقة الحاكمة في مصر بفوائد مرتفعة وتحويل الضريبة التي تدفعها مصر لإسطنبول إلى بريطانيا بعدما رُهِنت لضمان أول قرض حصلت عليه الدولة العثمانية في سنة 1854، وقد جعل انتشار زراعة القطن في مصر أثناء الحرب الأهلية الأمريكية ومشروع قناة السويس وتبذير الخديوي من التمويل عملًا مربحًا فصار بنك مصر يوزع أرباحًا على مساهميه وصلت إلى 7%، وقد تأسس المصرف الأنجلو مصري في سنة 1864.

2-في سنة 1856 أسس البريطانيون المصرف العثماني لتسهيل التجارة الحرة وانتهى في سنة 1863 ليُخلِيَ مكانه للمصرف العثماني الثاني الذي كان مركزه في إسطنبول ويعمل بصفة مصرف رسمي ولكن إدارته بلجنتين واحدة في باريس والأخرى في لندن، ولكن بعدما فقد البريطانيون نفوذهم في الدولة العثمانية في نهاية الثمانينات بعد احتلالهم قبرص ومصر آلت الإدارة إلى الفرنسيين.

3-كان مركزه في إسطنبول وامتدت فروعه إلى أوروبا العثمانية والأناضول وجزر بحر إيجة وقبرص وسوريا والعراق وشمال إفريقيا والجزيرة العربية ومصر.

4-كانت توقعات العثمانيين من إنشاء المصرف أكبر من ذلك وتتصل بتسهيل القروض للدولة.

5-في زمن السلطان عبد العزيز (1861-1876) كان ثمة سبع مصارف أجنبية.

6-في سنة 1874 فتح أهم مصرف فرنسي قبل الحرب الكبرى الأولى فرعًا في إسطنبول، ثم امتدت فروعه إلى إزمير والقدس ويافا والإسكندرية والقاهرة وبورسعيد، وبين 1881-1914 أُنجِزت 24 عملية إقراض هامة من أصل 34 بفعل أو توجيه مصارف فرنسية.

7-في نهاية القرن التاسع عشر، وفي سبيل خدمة التجارة الألمانية افتتح المصرف الألماني فروعًا كان أكبرها في إسطنبول وحلب، وبهذا لم تعد تجارة ألمانيا تعتمد على المصارف البريطانية، وبدعم من الحكومة الألمانية قام المصرف بدعم مشاريع صناعية وتجارية في الدولة العثمانية أهمها سكة حديد الأناضول، وفي سنة 1899 افتُتِح مصرف فلسطين الألماني بصفته أول مصرف ألماني في شرق المتوسط وكانت له فروع في المدن الفلسطينية الرئيسة بالإضافة إلى بيروت ودمشق وطرابلس.

8-افتُتحت مصارف برؤوس أموال يونانية أيضًا، وكانت مقراتها في أثينا أو بحر إيجة ولها فروع في جزره وفي إسطنبول وسالونيك والإسكندرية وإزمير.

9-تُعَدِّدُ المؤلفة أهم المصارف الأجنبية وعددها 16 ما بين مصارف لها مراكز في الدولة العثمانية أو لها فروع أو ممثلون في الدولة، وتتوزع جنسياتها على بريطانيا وفرنسا وألمانيا والنمسا وهنجاريا وإيطاليا واليونان وروسيا.

10-لم يقم الإنجليز بدور كبير في قطاع العمليات المصرفية في الدولة العثمانية، ولكن المؤسسات المالية اليهودية عمِلت من بريطانيا على تسهيل الاستيطان اليهودي في فلسطين بواسطة بعض المصارف التي موَّلت إنشاء مؤسسات استيطانية هناك (في زمن تميَّزَ بكثرة التوترات السياسية العالمية التي شغلت الحكم العثماني فانهمك في معالجة التدخلات المسلحة والمؤامرات السياسية أكثر مما هو متوقع في ما يخص الأخطار الثانوية التي تضخمت بعد انهيار الدولة العثمانية، وهو أمر طبيعي في سياق الأحداث، ولا يمكن توقع العكس في ظل تلك الظروف القاهرة لاسيما بعد عجز الأجيال اللاحقة عن فعل جذري ومؤثر بل وجدنا مشاركة عهود السلطات الليبرالية والاشتراكية واليسارية واليمينية والقومية والوطنية وإسلام التجزئة المتناغمة جميعًا مع الإرادة الاستعمارية في تمكين وتشريع الوجود الصهيوني الذي غرسته الأمم المتحدة)، وقد ارتفعت آمال الصهاينة من “عهد الحرية” بعد الثورة ضد السلطان عبد الحميد سنة 1908 وشهد هذا العهد أيضًا زيادة في عدد المصارف الأجنبية العاملة في الدولة.

11-كان النشاط المصرفي الروسي ضئيلًا في الدولة العثمانية نظرًا للأحوال السياسية المضطربة السائدة في روسيا آنذاك.

12-قامت المصارف بالوظائف التالية: الإقراض وتمويل المشروعات الصناعية ودعم الشركات الصناعية الأجنبية، وكانت تحرص على احتكار امتيازات المشاريع واستخدام الأموال التي تقدمها في الشراء من دولها وليس من دول أخرى وهذا لم يمنع من مشاركة مستثمرين أجانب من مختلف البلدان عندما يلائم ذلك مصالح المصرف المعني.

13-قال كتاب أمريكي صادر عن وزارة التجارة الأمريكية في سنة 1926 إن كل المصارف الأجنبية تقريبًا كان لها تاريخ طويل سري أو علني في التآمر الأجنبي لاقتسام مجال “الرجل المريض”، وإن هذه المصارف جَنَتْ أرباحًا ضخمة بدعمها لتجارة بلدانها ولم يكن ازدهار الدولة العثمانية سوى هدف عَرَضي لها، وقد شل تركيز المال في أيدي الأجانب الدولة العثمانية، ولكن غياب هذا المال كان سيجعل أمورها أكثر سوءًا (وبالطبع لا يبحث الكاتب خيار غياب التآمر الأجنبي الذي أقرَّ به بنفسه وماذا كان يمكن للدولة أن تنجز لو كفَّ الغرب أذاه أو كانت الدولة بعيدة جغرافيًا عن دول الغرب كما كانت اليابان، ولهذا أصبح حضور رأس المال الأجنبي هو الحل الأفضل كما يدَّعي ولكن في ظل تزاحم المتآمرين ولكنه ليس الحل الأفضل مطلقًا لأنهم لو كفوا أذاهم واكتفوا بتطبيق شعاراتهم الكاذبة عن التنمية وجلب الحضارة لما كان هناك أي مشكلة أصلًا) وكانت بعض المرجعيات الأجنبية في إسطنبول قد وصفت هذا الحضور المالي الأجنبي بالعظَمة والتبجيل رغم أنه كان حضورًا متنافرًا فيما بينه ولم يتكاتف لأجل صالح العثمانيين وتقدمهم.

الاستنتاجات

1-كان تغلغل المصارف الأجنبية في آخر أيام الدولة العثمانية أي في مرحلة الضعف، من الخطأ في قراءة هذا الحدث تعميم مظاهر الضعف على كل التاريخ العثماني الذي شهد فترات ازدهار وقوة ملحوظة.

2-كان التعامل مع الدولة العثمانية يعني تعاملًا مع رقعة جغرافية واسعة ولهذا تزاحم الأجانب في التنافس على هذا السوق.

3-تنوعت دواعي الاقتراض من هذه المصارف بين النزعات التغريبية عند الولاة الساعين لتقليد الغرب في المعيشة والإصلاحات، والنزعات الاستقلالية التي دعمَها الغرب لفصل ولايات الدولة العثمانية عن جسدها والاستفراد بها، فدفع أموالًا باهظة في هذا السبيل، والحاجة للإنفاق الباهظ على الجيش لمواجهة العدوان الغربي، ومحاولة البناء التحتي التي استنفدت أموالها في التصدي لمؤامرات الغرب وتكاليف ديونه.

4-كانت مصادر إفادة البنوك الأجنبية هي نزعات التغريب والاستقلال عند الولاة العثمانيين والتي أدت إلى إنشاء مشاريع مرتبطة بالدول الاستعمارية وانتشار التبذير المالي الرسمي رغبةً في تقليد الغرب.

5-كانت الوظائف التي تقوم بها هذه المصارف منسجمة مع مصالح بلادها وليس مع توقعات العثمانيين منها ولا مع المصالح المحلية بل إنها أسهمت في التآمر على تقسيم الدولة واحتلال أراضيها، وقد نالت كل دولة استعمارية نصيبًا من التَّرِكة العثمانية وفق سابق حضورها المالي والاقتصادي في بقاع الأراضي العثمانية، ولهذا كان استيلاء بريطانيا على العراق وفلسطين والأردن ومن قبلها مصر والسودان منسجمًا مع سابق وجود مصالح مالية واستثمارية فيها أو لمجرد استبعاد بقية الدول الاستعمارية المنافسة، وذلك ما ينطبق على استيلاء فرنسا على سوريا ولبنان ومن قبلهما تونس والجزائر.

6-رغم الضعف والتراجع كانت الدولة العثمانية في آخر أيامها ما زالت قادرة على الحد من النفوذ الاقتصادي لأية دولة أجنبية تعتدي عليها كما فعلت مع بريطانيا، وهو ما عجزت عنه دولة التجزئة فيما بعد، كما لم تواجه الدولة مصير ولاياتها التي آثرت الاستقلال عنها فسقطت في فخ الاحتلال الأجنبي بعد إفلاسها، مثل تونس (1881) ومصر (1882)، وكانت الأهمية الدولية للكيان العثماني الكبير هي التي جنَّبَتْه الاحتلال الأجنبي آنذاك رغم إعلان إفلاس الحكومة العثمانية (1875).

7-تمكنت الدولة العثمانية من تحقيق فوائد جمة من الظروف المالية المتاحة أمامها ولكن سلوك الأجانب أثبت أن “التقاء المصالح” بين الدائن والمدين وَهْمٌ في المدى البعيد وأن المصالح التي تحققت في النهاية هي مصالح الدائنين وحدها و قُضيَ على كل ما حققه العثمانيون من فوائد بنَوها بأنفسهم أو بمال الأجانب (مثل سكة حديد الحجاز وسكة حديد بغداد وبقية مشاريع البنية التحتية) وحصل التدمير بأيدي عملاء الاستعمار وقادة التجزئة الذين عجزوا في زمن صعودهم حتى عن إنجاز ما أنجزه العثمانيون من مشاريع عملاقة في زمن الضعف والتراجع.

8-من يزعم أن حضور رأس المال الأجنبي كان في صالح الدولة العثمانية، لا يضع موضع النقاش العدوان والتآمر الاستعماري لدُوَل هذا المال، ولهذا فإن الاقتصار على رؤية الدور الترقيعي للمال الأجنبي في حال الدولة العثمانية دون الإشارة إلى السلبيات الكبرى والجذرية التي سببها حضور الغرب في المنطقة يحرِفُ الحقائق ولا يساعد على تشخيص حقيقة الأمراض ومن ثم إيجاد الحل الشافي وهو استئصال النفوذ الأجنبي وليس عَدَّهُ مُسَلَّمَة يجب التلاؤم مع حضورها وترقيع سلبياتها.


المرجع:

V. Necla Geyikdağı, Foreign Investment in the Ottoman Empire: International Trade and Relations, 1854-1914, I. B. Tauris Publishers, London & New York, 2011, pp. 100-106.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى