صفحات من دفتر الالتزام: كلمة أخيرة في سبيل الاستقامة

يُقال إن أفضل الكلام هو الذي لم نكتبه بعدُ، هو الذي لم نستخرجه بعدُ من قرارَتِنا، ولعل من أسباب ذلك، أن عظمة المواقف قد تبخَسُها الكلمات حقها، وكذلك عظَمة بعض المواضيع قد لا توفِيها الكلماتُ حقها ويبقى وصفها الأوفى في مكنونات القلب، ولكن الاجتهاد في الإيضاح والتفصيل والدعوة يعتريه شوقٌ من أجل أن تطرق هذه الكلمات قلوبًا مقبلةً، قلوبًا قد استنشقت عبير الإيمان واستشعرت قيمة الحياة وأهمية الاستقامة والعمل كما أمر الله سبحانه وتعالى.

وإن كان ما أحمِله من حديثٍ عن الالتزام لا تَسَعُهُ هذه الصفحات إلا أنني رأيت أن الاختصار والإجمال مع بعض التفصيل من حينٍ لآخر قد يختصر المسافة ويلخص الرسالة…

وكيف يمكننا أن نَفِيَ الاستقامة حقها وقد ألّف في هذا الباب العلماء وأولو الفضل آلاف الصفحات والكتب، ولم يزالوا يبسطون ويفصِّلون أسرارها حتى لا نكاد نحصر مؤلفاتهم، لأنها ببساطةٍ طريق الفوز والنجاة، بل هي مشروع الحياة، مشروع العمر الذي على كل مسلمٍ ومسلمةٍ العناية به.ّ

إن الاستقامة ليست كما يصورها بعض المغرضين، تعصبًا وتنطعًا وجفاءً وغِلظةً، بل هي تمام الاتزان والسرور  والمحبة والعدل والعقل والخُلُق، من عرفها لا شك فَقِهَ سرّها ومن علِمَها لا شك أدرك جمالها، ولكننا نعيش في عالَمٍ بشعٍ، عالم مُبخِس، يحارب كل ما يتصل بجمال وروعة هذا الدين الإسلامي الحنيف، فيسعى جاهدًا بآلاته الإعلامية وأقلامه المأجورة وعدساته الموجَّهة ومنظماته المدسوسة، لتشويه صورة الملتزم وحرف الناس عن حقيقة السعادة التي يعيشها مع مَنْ حوله.

فيدفع بعضَ الناس للخوف من مجرد الحديث عن الالتزام لأنه مرعِبٌ ومجحفٌ ومقوِّضٌ لحريات المرء حسب زعمهم، في حين أنهم غفلوا عن أن الحرية تمامَ الحرية هي العبودية لله وحده سبحانه وتعالى، لا عبودية الشهوات والملذات الدنيوية، وأن تمام النجاح هو الثبات على طريق الله لا طريقٍ تتلاعب به أهواء البشر،  وأن الفوز الحقيقي هو الفوز برضا رب العالمين في الدنيا والآخرة لا فوزٌ له تاريخ صلَاحيةٍ معيّنٌ.

ثم يكفي النظر إلى مصاب الأمة المسلمة وتوالي النوازل والنكبات عليها في كل مِصْرٍ وزمان ليصبح الحديث عن الاستقامة الأول على قائمة العلاجات لهذه الأمة، ذلك أن الابتلاء أو العقاب هو لإيقاظ الناس من سُباتهم إما للتوبة والاستغفار والفرار إلى الله والاستقامة كما أمر، وإلا فنهاية الظالمين أعاذنا الله منها، وكفى به سببًا مرعبًا يدفع الناس إلى التزام الاستقامة والرجوع إلى طريق الله!

قال تعالى: (فَلَوْلا إِذْ جَاءهُمْ بَأْسُنَا تَضَرَّعُواْ وَلَـكِن قَسَتْ قُلُوبُهُمْ وَزَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطَانُ مَا كَانُواْ يَعْمَلُونَ). وقال: (وَلَقَدْ أَخَذْنَاهُم بِالْعَذَابِ فَمَا اسْتَكَانُوا لِرَبِّهِمْ وَمَا يَتَضَرَّعُونَ) وقال أيضًا: (فَلَمَّا نَسُواْ مَا ذُكِّرُواْ بِهِ أَنجَيْنَا الَّذِينَ يَنْهَوْنَ عَنِ السُّوءِ وَأَخَذْنَا الَّذِينَ ظَلَمُواْ بِعَذَابٍ بَئِيسٍ بِمَا كَانُواْ يَفْسُقُونَ).

إن التيارات والقُوى الهدامة لحقيقة الاستقامة والالتزام ولضرورة الدعوة لذلك، قد بذلَتْ كل الوسائل والأموال لإنجاح مخطط سلخ المسلمين من إسلامهم وتحويلهم لأجسادٍ جوفاءَ من كل ما يميّز الإسلام، بل حصروا الإسلام في بعض المظاهر وأقصَوا كل أسباب قوة المسلم واعتزازه، فأصبحنا نشاهد السخرية من المتدين الملتزم والتحقير من مقامه في حين يُرفَع الفاسق والعاصي لمراتب الشهرة والتعظيم والتبجيل، وهذا المقياس الفاسد لمراتب البشر واهتماماتهم هو الذي يحرص عليه أعداء الإسلام، هو الذي يسعَون لزرعه بيننا… لنستهين بديننا وعِظم الأمانة التي وُكِلَتْ إلينا، لنشعر بالانهزامية والاستحياء من آخر الأديان على الأرض!

وإن كانوا قد نجحوا لدرجةٍ ما في إبعاد أبناء هذه الأمة عن أحكام وشرائع دينها إلا أنهم لم ينجحوا في فصلهم تمامًا عن علاقتهم بربهم، فإنه لا توجد قوةٌ في العالم تمنع مسلمًا من أن يناجي ربه أو يدعوه أو يستغفره ويتوب إليه، مهما بلغ به العصيان من مبلغٍ ومهما بلغ به الظلم في حق نفسه ومَنْ حوله، لأن السكينة هي راحته وسعادته في نهاية المطاف، فإن شعر بها تدنو مع دُنُوِّه للتوبة فلن يباليَ بكل مطامع الدنيا، لأن سكينة الروح هي مكسب الدنيا الأكبر.

ثم إن وعد الله حقٌّ، ولا بُدَّ أن مصيرنا جميعًا بلا تمييزٍ هو الموت ثم الحساب قال الله تعالى: (إِنَّ مَا تُوعَدُونَ لآتٍ وَمَا أَنتُم بِمُعْجِزِينَ). فهل سيُعجز اللهَ الغافلُ الظالمُ لنفسه! كلا وربي إنه لَحَقٌّ ولكنهم يكابرون. وسيبقى سبيل الاستقامة هو السبيل الوحيد للنجاة، قال تعالى: (وَأَنَّ هَـذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيمًا فَاتَّبِعُوهُ وَلاَ تَتَّبِعُواْ السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَن سَبِيلِهِ ذَلِكُمْ وَصَّاكُم بِهِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ)

قد علمتَ والتزمتَ وجاهدتَ نفسك للثبات على طريق الاستقامة فما وصلتَ إليه إنما هو محض فضلٍ من الله سبحانه وتعالى، (وَلَوْلاَ فَضْلُ اللّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ لاَتَّبَعْتُمُ الشَّيْطَانَ إِلاَّ قَلِيلًا).

والآن بعد هذه الرحلة العظيمة في حياتك والتغيير الكبير في يومياتك، لا شك أنك عرفتَ نفسك وأدركت ميولك، وصنَّفت طاقاتك لكل عبادةٍ، ولقد ميّز الله الناس باختلافاتهم حتى في ميولهم التعبدية، وهذا من رحمة الله سبحانه، فقد تجد نفسك أكثر حبًّا للصلاة من غيرها من العبادات أو أكثر حبًّا لتلاوة القرآن وربما أكثر حبًّا للصدقات أو العمل الميداني، كل هذا طبيعيٌّ متوقعٌ. لا تقلق ولكن ثابِر على الاجتهاد في بقية العبادات أيضًا حتى  لا تقصِّر في جانبٍ من جوانب العبادة وتُحرَم لذته وأجره، وحتى تكون كأبي بكرٍ الصديق رضي الله عنه الذي يدخل الجنة من جميع أبوابها.

ثم إنك قد تلاقي جفاءً أو برودةً في الهمة وهذا حال الإنسان بين صعودٍ ونزولٍ، تارةً متحمسٌ وأخرى فاترٌ بلا همةٍ، فعليك بالعلاج المجرَّب الناجع الذي  نصح به السابقون لكل من أحب الاستقامة وتعثَّرت خطاه في سبيلها، إنه تلاوة القرآن، كلما كسَلتَ اقرأ القرآن، كلما شعرت بقصورٍ في العبادة استعن بالله وأقبل على القرآن، فبذكر الله تطمئن القلوب وبقراءة القرآن ترِقُّ الأفئدة، فيه شفاءٌ للناس، فيه القوة والمدد لعزيمتك حتى تغلِبَ شيطانك وتقهر هواك (وَلِكُلٍّ دَرَجَاتٌ مِّمَّا عَمِلُواْ وَمَا رَبُّكَ بِغَافِلٍ عَمَّا يَعْمَلُونَ).

كن قناصًا للفرص، كلما اشتعلَتْ هِمَّتك سارع لتحقيق أكبر درجةٍ من العمل الذي يقربك من الله سبحانه وتعالى وكلما فَتَرَتْ همتك اجعلها مرحلةً لاستراحة مقاتلٍ، تحاسِب فيها نفسك، تعالجها بالانكباب على المطالعة والتفكر،تنهل من مدادٍ خُطَّ بالعلم والتجربة والحكمة، فتنعش قريحة الإلهام لديك ويشتعل فتيل همتك من جديدٍ.

ثم دعني أُسِرُّكَ سرًّا، إن أسعد الناس بحقٍّ على وجه هذه الأرض مسلمٌ أدى ما له وما عليه في يومه وليلته ونام خاليَ البال من ظلمٍ يخنُقه أو هم دنيا يشغَله، فَذَكَرَ الله مشتاقًا لرؤيته وفاضت عيناه حين اخترق صدرَه نورُ السكينة الذي يشِعُّ به القلب قوةً وبصيرةً ويقينًا، وكأنه مَلَكَ الدنيا بأسرها، يكسو جسدَه رعشةُ الإيمان والتسليم لخالقه، لا يرجو إلا رضاه فهل يستوي هو ومن حمل هموم الدنيا على رأسه وتأرَّق نومه وأشباح الظلم تلاحقه في الكوابيس؟!

ثم انظر للملتزم المجتهد، لديه همةٌ تحرِّكه ولديه أهدافٌ سامقةٌ يسعى لها ولديه كل الأسباب ليعيش راضيًا سعيدًا رغم عقبات الدنيا، لأنها صغُرتْ في نظره وعلم أنما تقضي هذه الحياةَ الدنيا وأن كل ما خلا الله باطلٌ. وإن قارنتَ بين نفسك من قبلُ وكيف هي الآن، فلا شك أنك ستجد المسافة بين المقامين بعيدةً جدًا وأنه لم يتطلب منك إلا بعض الجدية والالتفات لكلام ربك ولوصايا نبيّك لتستدرك وربما تسبق، فالجدار بين المقامين هو عقبةٌ نفسيةٌ لا غير، لا تلبث أن تتلاشى مع تغيير ما في نفسك، (ذَلِكَ بِأَنَّ اللّهَ لَمْ يَكُ مُغَيِّرًا نِّعْمَةً أَنْعَمَهَا عَلَى قَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُواْ مَا بِأَنفُسِهِمْ وَأَنَّ اللّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ)

 فاحفظ نعمة الالتزام بحمد الله وشكره ومجاهدة النفس وتطويعها، وتدبَّر أسباب الثبات والأخذ بها، فإنه طريقٌ ما إن ترتقي فيه درجةً حتى تستصغر نفسك ماضيَها وتشعر بعظمة ربها وأهمية مساعيها… ومن ذاق حلاوة الإيمان لم يَزَلْ يتوق للأكثر ويصبح التراجع أمرًا مستحيلًا ودمارًا أكيدًا.

ثم إن الابتلاء سُنةٌ في هذا الطريق، ولكنه يقوِّي المؤمن ويكسر المرتاب، فكن صاحب اليقين الذي يتجاوز المحن بصبرٍ وثباتٍ تحدوه (فَاصْبِرْ إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ وَاسْتَغْفِرْ لِذَنبِكَ وَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ بِالْعَشِيِّ وَالْإِبْكَارِ). ويردد في كل حينٍ، (ربي إن لم يكن بك غضبٌ عليّ فلا أبالي).

أيها الملتزم انتهت صفحاتنا ولم تنتهِ اجتهاداتنا ولا أمانينا، لأننا نعلم يقينًا أن اجتماعًا بديعًا سيجمع تلك النفوس الملتزمة في جنةٍ عاليةٍ قطوفها دانيةٌ لا تسمع فيها لاغيةً فيها عينٌ جاريةٌ فيها سررٌ مرفوعةٌ وأكوابٌ موضوعةٌ ونمارقُ مصفوفةٌ وزرابيُّ مبثوثةٌ، تدخل عليهم الملائكة في بهجةٍ وسرورٍ وترحيبٍ وتكريمٍ وترعاهم رحمةُ الله وكرمه وعفوه وإحسانه وهو ذو الإحسان والفضل العظيم، تتحقق فيها جميع الأماني وتنتهي معها جميع الآلام والهموم، إنها جنة الخلد التي قال عنها ابن القيم رحمه الله:

فَحَيَّ على جنات عدنٍ فإنها      منازلنا الأولى وفيها المخيّم

ولكننا سبيُ العدو فهل     ترى نعود إلى أوطاننا ونُسلّم؟

 (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ اصْبِرُواْ وَصَابِرُواْ وَرَابِطُواْ وَاتَّقُواْ اللّهَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ)

والحمد لله وصلى الله على رسول الله وعلى آله وصحبه ومن والاه، وسلَّمَ تسليمًا كثيرًا.

د. ليلى حمدان

كاتبة وباحثة في قضايا الفكر الإسلامي، شغوفة بالإعلام وصناعة الوعي.

مقالات ذات صلة

تعليق واحد

  1. كلام انسان مر بتجربة المعاصي و الغفلة ذاق مر المعيشة الضنك و أخرج يده في الظلمات فلم يكد يراها و بفضل من الله و رحمته ساق له من الشدائد ما رده إلى حظيرة التوبة و الإستغفار ثم الاستقامة و الهدى فاجتهد و جد و عمل من الصالحات و الطاعات و العبادات ما ذاق به حلاوة الإيمان و القرب من الله، في هذه المرحلة تأتي خواطر و نوازع تؤدي إلى و العياذ بالله إلى مرض القلب كتزكية النفس ظنا لا عملا و استصغار الناس و احتقارهم و ايعاز ما كان فيه من طاعة إلى نفسه و علمه و عمله فيستحوذ عليه الشيطان و يدخله من باب العجب و الغرور، مرحلة أخطر من سابقتها فيها يجب مجاهدة النفس بطلب العلم و التواضع و محاسبتها.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى