جناية أتاتورك وإسماعيل الصفوي على تركيا وإيران

في الخريطة السياسية لبلاد المشرق أو ما بات يعرف «بالشرق الأوسط»؛ تمثل تركيا وإيران لاعبان أساسيان بالمنطقة، بكل ما تشهده الآن من اضطرابات وفوضى وأزمات وتدافع، فهذه الدولتين اللتين تتواجدان في أطراف البلاد العربية وقلب العالم الإسلامي، تمارسان وظيفة إقليمية في المشرق الإسلامي، كما لهما منزلة خاصة في النظام الدولي، فبالرغم من الاختلاف في الطبيعة الأيديولوجية للحكم في كل منهما، إلا أنهما تشتركان في اعتراضهما –ولو بشكل متباين- للحركات التحررية التغييرية الإسلامية التي تهدف إلى نهضة المسلمين بالمنطقة، وذلك يرجع إلى هوية النظام الحاكم في كل منهما، والذي له جدور تاريخية طبعها شخصان؛ هما كل من إسماعيل الصفوي بإيران في القرن 16م/10ه، وكمال أتاتورك بتركيا في القرن 20م/14ه.

فارس والأناضول قبل وبعد الفتح الإسلامي

من الناحية الجغرافية فإن بلاد فارس تقع في آسيا الوسطى، بينما تشمل منطقة الأناضول مجال آسيا الصغرى، وكانا هذين القطرين الجغرافيين قبل ظهور الإسلام معقل لأهم الإمبراطوريات التاريخية لذاك العصر، إمبراطورية الفرس الساسانيين بإيران، وإمبراطورية الروم البيزنطيين بالأناضول (القسطنطينية).

وقد دخل الإسلام بلاد فارس في القرن الأول الهجري زمن الخليفة الراشد عمر بن الخطاب الذي أنهى حكم كسرى، لتصبح إيران ولاية إسلامية خضعت لخلافة المدينة ثم دمشق وبغداد، وتعاقب عليها دول إسلامية محلية عديدة، أما الأناضول فقد فتحها المسلمون على مراحل متباعدة، منذ السلاجقة الذين أخذوا أكثر من نصفها الشرقي بدءً من سنة 463ه، إلى العثمانيون الذين أكملوا فتح بلاد آسيا الصغرى بفتح القسطنطينية، لتتمدد الدولة العثمانية التي صارت فيما بعد خلافة إسلامية مقرها إسطنبول.

لكن نهاية الخلافة العثمانية التي امتدت قرون طويلة؛ كان على يد أتاتورك الذي قطع الصلة بين تركيا وتاريخها الإسلامي والعثماني، ليؤسس فيها نظاما علمانيا جبارا حارب الإسلام بكل شراسة، وهذا ما فعله –بصورة أخرى-إسماعيل الصفوي قبله بأربعة قرون لإيران، التي حولها من إسلامها السني الصحيح إلى المذهب الشيعي الرافضي.

كيف تشيعت إيران على يد الشاه إسماعيل الصفوي؟

إيران أو بلاد فارس منذ أن دخلها المسلمون فاتحين، وهي تشكل مجالًأ حيويًا بالعالم الإسلامي وقطرًا حضاريًا وجغرافيًا يربط أوصال الأمة، وقد قامت فيها دول إسلامية محلية كالطاهريين والسامانيين والصفاريين، وصحيح أنها خضعت فترة للحكم البويهي الشيعي إلا أن النسيج الاجتماعي قد حافظ على إسلامه السني، وقد مر على إيران السلاجقة والخوارزميين قبل أن يجتاحها المغول ويقيموا دولهم فيها، كما أن فارس قد احتوت على مراكز حضارية إسلامية كالري وطوس ونيسابور، فقد كانت هذه المدن من أجَل حواضر الشرق الإسلامي ازدهارا، بعلماء سنة بارزين وأئمة كبار كمسلم وابن ماجة والحاكم النيسابوري وأبي داود وغيرهم من أصحاب كتب السنة والحديث، وهؤلاء كلهم من العرق الفارسي ومن عقيدة أهل السنة والجماعة.

وبالتالي فإن فارس كانت بلاد سنية مسلمة كباقي ديار المسلمين، قبل أن تقوم فيها الدولة الصفوية سنة 907ه/1501م، التي أحدثت فارقا في تاريخ البلاد، ومؤسسها إسماعيل الصفوي الذي ندب نفسه لمحاربة السنة المسلمون واستئصالهم، وإحلال المذهب الشيعي الاثنا عشري في إيران، فتأسست دولة الصفويين الشيعية الرافضية وتزعمها المتعصب الدموي الشاه إسماعيل، القادم من أردبيل بأذربيجان على رأس جماعة صوفية من غلاة الشيعة، استغلت التمزق السياسي لبلاد الفارس، لتقوم بإزاحة الإمارات التركمانية الموزعة في أنحاء الهضبة الإيرانية، وتقيم دولة شيعية إمامية شديدة الحقد على المسلمين (السنة).

وبدأ إسماعيل الصفوي سياساته في تشييع البلاد، فنشر عقيدته ومذهبه بحد السيف، وأفنى أعدادًا هائلة تقدر بعشرات ومئات الآلاف من أهل السنة، وقد عُرِف الشاه إسماعيل بقسوته البالغة وشدة بطشه على معارضيه حتى أنه قتل والدته، وكانت أساليبه وحشية حيث كان يستخرج جثت أعداءه ويحرقها ليشفي غليل حقده وانتقامه، واستطاع بذلك العمل تحويل إيران السنية إلى بلاد شيعية المذهب ورافضية العقيدة، وعلى المستوى الاجتماعي والسياسي فقد صارت فارس دولة نشاز عن محيطها الإسلامي في آسيا الوسطى، فتحول فيها أهل السنة من الأكثرية الغالبة إلى أقلية قليلة مضطهدة.

ولم تقتصر جرائم الصفوي إسماعيل على إيران وحدها بل امتدت إلى خارجها فهاجم العراق واحتل بغداد وفتك بأهلها السنة، كما أنه حارب الدولة العثمانية وأربك جهادها في أوروبا، وتآمر مع القوى الصليبية الأوروبية ضد العثمانيين، بالإضافة إلى أنه توسع إلى جهة خراسان، وقاتل الأوزبك السنة في منطقة ما وراء النهر وأنهك هذه البلاد، مما جعل منها لقمة سائغة أمام الروس الذي تقدموا فيها بعد ذلك، وتوفي إسماعيل الصفوي عام 930ه، وسار خلفاؤه الصفويين على منهاجه الإجرامي في حق إيران وفارس.

أتاتورك الذي هدم الخلافة وأقام النظام العلماني في تركيا

تركيا عقر دار المسلمين ومقر الخلافة الإسلامية في نسختها الأخيرة، كانت من قبل تسمى ببلاد الروم ثم فتحها المسلمون الأتراك، فمر منها السلاجقة ثم ورثتهم العثمانيين الذي أقاموا إمبراطورية دامت خمسة قرون، حمت الأمة من الحملات الصليبية والمد الاستعماري إلى غاية سقوطها في الحرب العالمية الأولى بيد الحلفاء.

كان الرجل الذي أجهز على أخر ما تبقى من السلطنة العثمانية والدولة الإسلامية بتركيا؛ هو كمال أتاتورك الذي كان من أعضاء جمعية الاتحاد والترقي العلمانية التي قادت الانقلاب على عبد الحميد الثاني، ثم سيطرت على الحكم العثماني، ومن المعروف أن هذه الجمعية لها أصول ماسونية وارتباطات يهودية ونزعة قومية متعصبة أثرت بشكل كبير على الحروب الدائرة في البلدان العثمانية المصبوغة بطابع قومي عرقي، وكان أتاتورك ضابطا بالجيش العثماني إبان الحرب الكبرى، وبعد سقوط الدولة قاد ما عرف بـ “حرب التحرير التركية” التي انتهت إلى مفاوضات وهدنة مودانيا 1921م، التي أقر فيها الغرب أتاتورك حاكما على تركيا الشرذمة المتبقية من الدولة العثمانية –بعد الاحتلال الإنجليزي الفرنسي لأملاكها في المشرق- لكن بشروط نفذها أتاتورك وهي إلغاء الخلافة الإسلامية والحيلولة دون عودة الإسلام وحكمه إلى الأناضول.

تنازلات أتاتورك من أجل الاعتراف الدولي

وفي مؤتمر لوزان الشهير عام 1923م، حظيت فيه تركيا أتاتورك بالاعتراف الدولي ومن تم بدأ كمال أتاتورك بتنفيذ سياساته وإملاءات الغرب، فأقدم بعد عام على جريمته الكبرى بإلغاء الخلافة وطرد العائلة العثمانية، ثم بحظر الحجاب على النساء وفرض القبعة بدلا من الطربوش على الرجال، كما أمر برفع الأذان باللغة التركية وإزالة الحروف العربية من لغة الأتراك، فكان ديكتاتورا جبارا طاغية سحق كل معارضيه، وحكم بقبضة من حديد ولم يدخر جهدا في محاربة الإسلام كدين وشريعة ودولة، فكان من نتائج إنجازاته فصل تركيا عن محيطها الإسلامي وانتزاعها من مجال الأمة الإسلامية والعالم الإسلامي.

وجناية أتاتورك العظيمة في حق تركيا والأناضول؛ تمثلت في محاولة اجتثاث القيم الإسلامية من المجتمع والدولة، ليحل محلها النظم الغربية العلمانية، ففرض تغريبًا قاسيًا على المجتمع التركي المسلم والذي عانى الأمرين طوال عقود القرن العشرين، فأعلن عداوة صارخة للإسلام من خلال تصريحاته التي تتمحور دائما حول الإسلام والترك، فكان يقول بأن الأتراك تأخروا بسبب كونهم مسلمون فقط، وهكذا رسخ أتاتورك علمانيته في الشعب التركي حتى أصبح يقال بأن كل تركي علماني بالضرورة، وبعد وفاته عام 1938م أورث أتاتورك لأتباعه نظاما علمانيا عاتيا معاديا للإسلام والمسلمين وحدهم، وتجدر الإشارة إلى أن الجمهورية التركية قد سارعت بالاعتراف بالكيان الصهيوني إبان نشأته، وأقامت معه علاقات متميزة في العقود التالية.

الإرث التاريخي لواقع إيران وتركيا في موازين العالم الإسلامي اليوم

والحقيقة في قيام الدولة الصفوية في إيران وتأسيس الجمهورية الأتاتوركية بتركيا قد قطع رابط الوصل بين البلدين وماضيهما الإسلامي، فحتى بعد سقوط دولة الصفويين عام 1148ه/1736م، فقد ورثت الدولة القاجارية مجتمعا شيعيا معاديا للمسلمين السنة، وعرفت فارس سيطرة علمانية فرضها النظام البهلوي في القرن العشرين، إلا أنها لم تستمر إذ انبعثت الصفوية من جديد في ثورة 1979م المغلفة بالطابع الشيعي الإمامي والقومي الفارسي.

 وقامت جمهورية إيران الخمينية في طريقها نحو استعادة الدولة الصفوية بل والإمبراطورية الفارسية القديمة، فهي تمارس حاليا حقدا وبغضا شديدا ضد أهل السنة، كما أنها عمليًا تقوم بالغزو الداخلي للعالم الإسلامي، فقد عادت إلى صفويتها التاريخية بالتآمر على أفغانستان والتدخل في العراق واليمن ثم لبنان وسوريا، كما أنها لم تتوانى في اعترض الثورات والحركات التحررية وتستغل بعضها لنشر التشيع وفرض هيمنتها الإقليمية.

أما عن النظام الأتاتوركي الموالي للغرب والصهيونية والمعادي للإسلام والمسلمين، فقد ارتكب جرائم بشعة ضد كل صوت ينادي بعودة الإسلام إلى تركيا ولو بصورة شكلية رمزية، وقامت الأتاتوركية التي تسيطر على الجيش بانقلابات عسكرية عديدة على كل من حاول الخروج عن ميراث أتاتورك.

 وصحيح أن تركيا الآن قد تخلت عن الصورة التقليدية للعلمانية الأتاتوركية، إلا أن النظام مازال يحافظ على جوهره ومازالت النزعة القومية والوطنية مترسخة في تركيا منذ عهد أتاتورك، والتي تعد من الأساسيات المقدسة للحكومة التركية، حتى لو كانت حاليا بقيادة شخص كأردوغان صاحب “التوجه الإسلامي”، فالدور التي تقوم به تركيا حاليا بالمشرق والأجندات التي ترتكز عليها في للنظام الإقليمي والدولي لمنطقة “الشرق الأوسط”، يختصر كثيرا قصة النظام الأتاتوركي المستمر في تركيا.

وأخيرا يمكننا القول حقًا بأن تركيا وإيران لم تنسيا الجناية التي ارتكبها كمال أتاتورك وإسماعيل الصفوي في حق إسلام البلدين، وما زالت أثر هذه الجرائم تبرز بشكل صارخ في فارس والأناضول بل وتمتد لتؤثر بشكل أو بأخر على باقي أقطار العالم الإسلامي.


المراجع المعتمدة:

محمد سهيل طقوش، تاريخ الدولة الصفوية، الطبعة الأولى، دار النفائس، بيروت، 1430ه/2009م.

حسين مؤنس، أطلس تاريخ الإسلام، الطبعة الأولى، الزهراء للإعلام العربي، القاهرة، 1407ه/1987م.

رضا هلال، السيف والهلال: تركيا من أتاتورك إلى أربكان، الطبعة الأولى، دار الشروق، 1419ه/1999م.

أكرم حجازي، المربط الصفوي: مقاربات عقدية وسوسيولوجية وسياسية وتاريخية، مركز العصر للدراسات الاستراتيجية والمستقبلية، لندن، 2016م.

يمكن تحميل الدراسة من الرابط بالأسفل هنا

[xdownload icon=”” text=”دراسة: المربط الصفوي مقاربات عقدية وسوسيولوجية وسياسية وتاريخية، د. أكرم حجازي” url=”http://www.moslimon.com/download_searches.php?id=81″ target=”1″]

عمر اعراب

كاتب باحث في التاريخ والحضارة، من المغرب

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى