محمد عمارة… راهب الفكر وفارس الميدان – الجزء الثاني

نكمل رحلتنا مع الدكتور محمد عمارة راهب الفكر وفارس الميدان بعد أن بدأنا في الجزء الأول التحدث عن حياته، ومسيرته العلمية، واعتكافه على العلم والقراءة؛ ليخرج لنا بمشروعه الفكري المميز، ونكمل في هذا المقال بقية معالم مشروعه الفكري، إضافة لفروسيتهالفكرية وعلاماتها في الميدان.

بقية المعالم العشرة لتميز المشروع الفكري لعمارة

الجمع بين دراسة التيارات الإسلامية ودراسة التيارات غير الإسلامية

ومن المجالات التي جمع د. عمارة بينها: مجال دراسة التيارات الإسلامية المعاصرة بجماعاتها وتياراتها التي صرح في أكثر من مقام أنه أحبها وأحبته ونقدها ونقدته وقدم لها النصح فانتصحت أو لم تنتصح، وبين دراسة التيارات غير الإسلامية من ماركسية وشيوعية وعلمانية وإلحادية وغيرها.

كل هذه التيارات درسها د. عمارة وفحصها ووقف على مستنداتها وأدلتها ومواقفها وطبيعة مسلكها، فعن موقفه من الحركات الإسلامية وفي القلب منها الإخوان يقول: “الإخوان يثقون بي ويحبونني، وأنا أعتبر التنظيم كبرى الحركات الإسلامية، خاصة في ظل حالة التشرذم في الحركة والأحزاب، فليس لدينا رصيد في الشارع إلا الإخوان؛ فهم رصيد كبير لا ينبغي أن نفرط فيه، ويجب أن نسانده”.

وله كتب عن الصحوة الإسلامية، منها: “الصحوة الإسلامية في عيون غربية”، و”الصحوة الإسلامية والتحدي الحضاري”، و”الحركة الإسلامية رؤية مستقبلية”، و”الحركات الإسلامية رؤية نقدية”.

وعن ممارسة النقد والتقويم للحركات الإسلامية الإخوان يقول: “سبق أن كتبت نقدًا للحركات ومنهم الإخوان؛ لأنهم ركزوا على السياسة بالمعنى الدارج، وأهملوا المشروع الإصلاحي، كما أهملوا الحديث عن الاحتلال الذي تعيشه الأمة والقواعد العسكرية التي تنتشر في كل بلاد الأمة، والأساطيل التي تنتشر في البحار والمحيطات.. أيضًا الإخوان أهملوا العدل الاجتماعي، رغم أنني حين كتبت عن حسن البنا وجدته يطالب بالإصلاح الزراعي قبل الحزب الشيوعي المصري، وكان لديه برنامج اجتماعي ثوري، وكذلك خاض الشيخ الغزالي معركته ضد الظلم الاجتماعي، وحتى سيد قطب كتب ضد الظلم الاجتماعي، ولكن كل هذا غاب”.

أما عن حياته مع التيارات غير الإسلامية التي انتهت معايشته لها إلى “التيارات الإسلامية” و”الفكرة الإسلامية”، فيقول: “دخلت اليسار لأجل القضية الاجتماعية، ولكن بالقراءة والتأمل في السجن أدركت أن حل المشكلة الاجتماعية يكمن في الإسلام، في نظرية الاستخلاف وليس في الصراع الطبقي والماركسية.. مواقفي في مرحلة اليسار والمرحلة القومية ثم الإسلامية حصل فيها نضج وتطور، لكن لم تكن هناك فواصل حادة بينها.

محمد عمارة والدكتور محمد سليم العوا
الدكتور محمد سليم العوا ومحمد عمارة.

كنت يساريًّا بالمعنى الاجتماعي الثوري، وليس بالمعنى العَقَدي فلم يكن هناك إلحاد؛ لأن التجربة الروحية والتكوين الديني الأصيل عصمني من أن أُستوعَب في الفكر المادي والنظرية المادية. عندما أدركت أن حل المشكلة الاجتماعية في الإسلام -وليس في الماركسية- كان هذا بداية النضج في الموقف الإسلامي، وفي المرحلة الناصرية كان ثمة تركيز على البعد القومي والعربي، وأنا كنت وما زلت أدرك أن القومية دائرة من دوائر الجامعة الإسلامية، فلم يكن هناك تناقض بين الانتصار للوحدة العربية وللقومية العربية وبين الدائرة الإسلامية.

في مرحلة اليسار لا أنكر أنه حدث عندي نوع من الغبش الفكري، ومن سلبيات المرحلة اليسارية -بالنسبة لي- أنني كنت أحفظ دواوين شعرية كثيرة، ثم نسيت هذا في مرحلة اليسار لأنني شغلتني المنشورات والنشاط السياسي، ولكن بدأ الغبش الفكري يزول في المرحلة الإسلامية شيئًا فشيئًا، وبعد 1967 تراجع المشروع القومي وأصبح التركيز على الدائرة الإسلامية، أيضًا مما عمق موقفي الإسلامي ظهورُ الصحوة الإسلامية في الثمانينيات، وتصاعد التحديات التغريبية للصحوة الإسلامية والحل الإسلامي بعد سقوط الاتحاد السوفياتي في 1991، الأمر الذي جعلني أفرد العديد من الكتب لمواجهة الفكر التغريبي والرد على غلاة العلمانيين، لكن ظلت الدائرة القومية والعربية، وقضية العدل الاجتماعي والثورة على الظلم الاجتماعي ملحوظة في كتاباتي، كما ظلت الدائرة الإنسانية والتفاعل مع الحضارات المختلفة موجودة في مشروعي الفكري”.

وفي سياق آخر يبين أن انتماءه لليسار لم يكن عقديًا ولا أيديولوجيًا وإنما كان لحمله القضية الاجتماعية والعدالة، يقول: “وعندما ألغيت الأحزاب -ومنها مصر الفتاة والحزب الاشتراكي- لم يكن أمامنا لمواجهة الإقطاع إلا اليسار، فقد كان اليسار حينها فارس القضية الاجتماعية والعدل الاجتماعي، وكان له موقف من القضية الوطنية؛ فقد كان ضد القواعد العسكرية والوجود الأجنبي. وكنت قد دخلت اليسار من باب القضية الاجتماعية من باب القضية الثورية”.

ولهذا كتب د. عمارة كتبًا في مواجهة مشاريع التغريب والغلو التغريبي والغلو العلماني من الرد على نصر أبو زيد (ت 2010م) وحسن حنفي وسعيد العشماوي، وغيرهم، ومما ألفه في ذلك: “التفسير الماركسي للإسلام”، و”فكر التنوير بين العلمانيين والإسلاميين”، و”الحوار بين الإسلاميين والعلمانيين”.

وكذلك له مؤلفات عن التسلف والسلفية يقول في هذا: “كتبت كتيبًا عن “سلفية واحدة أم سلفيات”، وكتبت عنها في كتاب “تيارات الفكر الإسلامي”، وكان محمد عبده يتحدث عن أنه سلفي ويريد فهم الدين كما فهمه سلف هذه الأمة قبل ظهور الخلاف. كل إنسان سلفي، فكل إنسان له ماضٍ، ولكن ما ماضيك؟ هل هو عصر الازدهار أم عصر التراجع؟ كيف تتعامل مع سلفك؟ هل تهاجر من الحاضر إلى الماضي، أم تستلهم السلف والماضي لقراءة الواقع ولحل مشكلات الواقع؟ ولذلك لدينا سلفيات مختلفة”.

وهكذا نستطيع القول إن محمد عمارة استطاع أن يجمع بشكل كامل وواعٍ -حقيقةً لا ادعاءً- بين دراسة هذه التيارات فكرا وممارسة، تنظيرا ومعايشة، حبًّا وانتقادا حتى غدا هو بذاته رمزًا من رموز الحركات والصحوات في عصره، وهذا مكَّنه من التأثير فيها وخلع على فكره سمة العملية والفاعلية والحركية.

الجمع بين العلم والعمل الميداني

أما هذه فميزة قلما تتوفر للكثيرين؛ فهي مناط الخيرية، ومعقد الربانية، ومحل التأثير الكبير الفاعل في العقول والقلوب والواقع على السواء. فعلم بلا عمل لا قيمة له، وعمل بلا علم لا صحة فيه، وعلم وعمل بلا جهاد وصبر وتضحيات لا يقيم القدوة ولا التأثير الحقيقي في واقع الحياة.

وهذا ما دعا ابن القيم يقول واصفًا “الرباني”: “فَإِذَا اسْتَكْمَلَ هَذِهِ الْمَرَاتِبَ الْأَرْبَعَ -يعني تعلم الهدى، والعمل به، والدعوة إليه، والصبر على مشاق الدعوة- صَارَ مِنَ الرَّبَّانِيِّينَ، فَإِنَّ السَّلَفَ مُجْمِعُونَ عَلَى أَنَّ الْعَالِمَ لَا يَسْتَحِقُّ أَنْ يُسَمَّى رَبَّانِيًّا حَتَّى يَعْرِفَ الْحَقَّ وَيَعْمَلَ بِهِ وَيُعَلِّمَهُ، فَمَنْ عَلِمَ وَعَمِلَ وَعَلَّمَ فَذَاكَ يُدْعَى عَظِيمًا فِي مَلَكُوتِ السَّمَاوَاتِ”. [زاد المعاد: 3/9. طبعة مؤسسة الرسالة].

فأما العلم فهو صاحب هذا المشروع الكبير مترامي الأطراف الذي لم يترك فيه جانبًا من جوانب الإسلام عقيدة وشريعة، خلقًا وحضارة، معاملات وآدابًا، بيان حقائق ودفع شبهات، حتى غدا أكبر مشروع فكري معاصر تجاوز الثلاثمائة كتاب بما حقق له التأثير الكبير والواسع.

وأما العمل الميداني فهو الذي شارك في المظاهرات ضد الإنجليز وضد الصهاينة وفي مطالباتهم بإصلاح الأزهر ومناهجه، كما قصده كثير من طلاب العلم من أنحاء الدنيا ينهلون من علمه ويتربون على كتبه وفكره، وكان جوادًا سخيًّا مع كل من قصده.

وحينما سئل عن مقصوده بالمشروع الفكري أجاب إجابة تنبئك عن مركزية الواقع وفاعليته وأهيته في هذا المشروع، يقول: المشروع الفكري هو “أن نبرز حقيقة الإسلام ومعالمه: العقيدة والشريعة والمنظومة الفكرية، والإحياء الإسلامي للمجتمع، والهداية الإسلامية للإنسان، وعالمية الإسلام، وأيضًا فقه الواقع الذي نعيش فيه وإنزال هذه الأحكام الإسلامية على الواقع الذي نعيش فيه، والتصدي للحرب المعلنة على الإسلام. باختصار: ما هو إسلامنا؟ ما هو الواقع الذي نحن بحاجة إلى فقهه وإلى أسلمته؟ وما التحديات التي تواجه هذا الإسلام؟ هذه هي معالم المشروع الفكري”.

إن جمع العالم بين العلم والعمل يقيمه قدوة بين العلماء والناس، ويكسبه المصداقية والموثوقية، ويجعل من حياته منارة للعلماء وطلبة العلم، ويجعل فكره وعلمه حيًّا بين الناس يقبلون عليه ويمتحون منه وينتفعون به، ويجعله كالشجرة المباركة التي تؤتي أكلها كل حين بإذن ربها.

الجمع بين الفكر والأدب والتصوف

التصوف ومحمد عمارة

ومن الأمور التي جمعها د. محمد عمارة وانعقدت له وأعطت لمشوعه الفكري ميزة كبيرة مكنته من الانتشار والتأثير والقدرة على التعبير والدخول على القلوب والعقول بغير استئذان، هو ذلك الأسلوب الأدبي الأخاذ، واللغة الباهرة التي تتطاوع له، والمفردات المترادفة التي تنقاد له، فيعبر بها عما يشاء من أفكار، ويعرض من خلالها ما يريد من رؤى وآراء، ويقرر بها معاركه الفكرية التي خاضها وانتصر فيها بلا استثناء.

وقد جمعت هذه اللغة الأدبية إلى جمالها صلابة الفكرة وقوتها، وجلال الأسلوب وجماله، ونداوة المعاني وطلاوتها بما جعل ما يكتبه عمارة وجبة متكاملة للعقل والروح والوجدان جميعا.

أما الجانب الفكري فحدث ولا حرج، فصاحبنا أول وصف وأكبر وصف وأصدق وصف عليه هو وصف “المفكر”، وقد كان هذا الوصف هو الأثير لديه، وما أنتجه من كتب وبحوث ومقالات يفوز وصف “المفكر” منها بنصيب الأسد.

وأما الأدب فقد حكى هو قائلًا: “كنا في السنة الثانية الابتدائية وكان يدرّسنا النحو، ويقرأ لنا المقال الافتتاحي في جريدة المصري، دخل ذات يوم وسأل: من منكم يقدر على أن يشتري كتابًا غير الكتب المقررة؟ فذهبت واشتريت كتاب ‘النظرات‘ للمنفلوطي (ت 1924م)، وكان هذا أول كتاب اشتريته في حياتي من خارج الكتب المقررة، قال لي: أحضره معك، وكنت أقرأ وأطالع فيه، وفي آخر العام الدراسي أقمنا حفلة للشيخ وأهدينا له “علبة بنبوني”، وكتبتُ قصيدة شعر في مدحه”.

ويقرر مبينًا فضل ثقافته الأدبية على التعبير المؤثر والمعبر عن أفكاره: “ولأنَّ الطموحَ إلى أن أكون كاتبًا -لا موظفًا- قد مَلَكَ عليَّ كياني منذ تلك اللحظات، فلقد توجهتُ إلى عالَم القراءة الحرة، وأعطيتُها أغلب أوقاتي، حتى إني جعلتُ الثقافةَ العامةَ مُعيناً على اختصار الساعات التي أعطيها للكتب الدراسية المقررة.. فكانت الثقافة الأدبية والقراءات الحرة هي التي تُنَمي وتُدَبِّج وتُحَسِّن الإجابات في الامتحانات”.

وعن مكتبة الشيخ عبد التواب الشناوي التي اشتراها بعد وفاته وهي تضم أربعة آلاف كتاب، يقول مبينًا حجم الكتب الأدبية التي قرأها: “وبعد استيعاب هذا الكنز المعرفي الثمين والعريض والعميق، وبعد الحفظ لعديدٍ من دواوين الشعر الجاهلي والإسلامي (مثل المتنبي والمعري) وللعديد من نصوص الأدب العربي المختارة كنماذج للبلاغة والفصاحة: بدأتْ على نحو سَلِسٍ وطبيعي الرغبةُ في الكتابة والإبداع, فكتبتُ ونشرتُ – شعرًا ونثرًا- في عدد من الصحف والمجلات”.

وأما التصوف فقد كانت لعمارة تجربة صوفية يقول عنها: “في مرحلة الابتدائي والثانوي -قبل الارتباط باليسار- كانت لدي تجربة في المجاهدة الروحية والتصوف غير الطرقي، وكنت أخطب على المنبر ضد الطرق الصوفية وأعلّم الناس فرائض الدين ومقاومة الظلم، وفي الجمعة التي سبقت ثورة يوليو صادف أن انتقدت الملك فاروق، وعندما عُزل بعد الثورة ظن بعض الناس أنني كنت على علم بتفاصيل ثورة يوليو، وظن آخرون أنني من أولياء الله الصالحين”.

ويقرر أيضا إنه لم يُخدَع بالطابع المادي والتفسير المادي لنشأة الخلق، ولا بالتطور التاريخي، يقول: “لأن تكويني الأول كان “تكوينًا دينيًا” و”تجربةً روحيةً صوفيةً ذاتيةً”.. ولم يكن لي علاقةٌ بالجماعات أو الطرق الصوفية, بل كنتُ ضد هذه الطرق باستمرار, وكنتُ أحاربها.. وإنما كانت تجربتي روحيةً أمارس فيها العبادةَ بشكل مكثف”.

بل إنه كان يرى أن الاستغراق في العمل الفكري من “السُّكر الحلال” -كما يقول الصوفية- الذي ينسيه متاعب الحياة، يقول:

فالعمل الفكري والاستغراق فيه هو علاج حتى للأمراض العضوية التي يعاني منها الإنسان، وإذا كان الصوفية يتحدثون عن الخمر الحلال والسُّكْر الحلال فأنا أرى أن العمل الفكري هو السُّكْر الذي يُبعدك عن منغصات الحياة.

هذه التجربة الصوفية هي التي جعلت عمارة يقول كلمة تمتع العقل وتشبع النفس عن رسولنا المصطفى إذ يقول: عن علاقته به: “إنني عاشق لرسول الله صلى الله عليه وسلم، متبتل في محراب سنته وسيرته، متعلق بصفاته وشمائله، مفتون بسجاياه، واقف على أبواب عظمته، مبهور بالتحولات التي أنجزها في مسيرة الدين والدنيا، غيورٌ على دينه ودعوته، مقاتل دون حماه”.

ويحكي عن هذه التجربة مستطردًا: “هذه التجربة كانت فيها مجاهدات روحية مَنَّ اللهُ تعالى عليَّ فيها برؤية اليقين, عينِ اليقين.. وعرفت معنى “فراسة المؤمن” التي حدثنا عنها رسول الله -صلى الله عليه وسلم-.. بل أقول لك: في تلك الفترة رأيت رسول الله -صلى الله عليه وسلم- في الرؤيا.. بل ورأيت ليلة القدر، وهي تجربة لن أحكي تفاصيلها, لكنْ أقول لك كيف كنتُ أستعد: بالتعبد بالركعات والدعوات, ومنها دعاءٌ صُغتُهُ لنفسي وقتها: “اللَّهم اغفر لي واجعلني من أهل العلم إنك على كل شيء قدير”.

ويفرق د. عمارة بين الصوفية الحقة المجاهدة وبين الصوفية الطرقية المنحرفة، يقول:

التصوفُ ليس نهجًا واحدًا، إذ منه التصوف الذي هو علم القلوب والسلوك والإحسان المنضبط بضوابط الشريعة وأحكامها [ومقاصدها].

وهو الذي كان عليه كبار الزهاد والأقطاب والعارفين الذين سلكوا “طريق المجاهدات والرياضات الروحية”، منذ عصر صحابة رسول الله -صلى الله عليه وسلم- وحتى العصر الذي نعيش فيه.

لقد جاهدوا [غلوَّ الغرائزِ والشهواتِ]، وجاهدوا الزخارفِ الدنيوية، وصعدوا بأرواحهم على طريق “المقامات والأحوال”، يبتغون “القُرب والفناء” في صفات “الجلال والكمال والجمال” للذات الإلهية، حتى فني عن مَشَاغِلِهم كل ما سِوَى الله.

وفي ذات الوقت، [وبسبب ما سبق، وليس بالرغم عنه]، عاشوا قضايا الإسلام وأمته، فكانوا أئمة الجهاد الذي خاضته الأمة في مواجهة المخاطر والتحديات، لقد:

  • أقاموا الدين في قلوبهم وسلوكهم،
  • وجاهدوا أعداءه في ميادين القتال،
  • وقادوا الأمة في مقاومة الاستبداد وحكم التغلب والمتغلبين،
  • ووسعوا دوائر انتشار هذا الدين الحنيف؛ بالقدوة الحسنة والنموذج الطيب والمثال الصالح،
[باختصار، لقد] كانوا أئمة في “فقه الورع” وفي “فقه الواقع” وفي “فقه الأحكام” على حد سواء.

أما “الطرق الصوفية”، فإنها وإن بدأ الكثيرُ منها بداياتٍ صحيحةً وتجديديةً وجهاديةً (نَشَرت الإسلامَ، وحاربت دفاعاً عنه، كما حدث في الكثير من البلاد الأفريقية)، إلا أن الكثيرَ مِن الذين توارثوا هذه الطرق – باستثناء مَن عصم ربي- قد غرقت في “بحار البدع والشعوذات والخرافات”؛ فخلطت “صلاحاً قليلاً” بـ “الكثير الذي أفسد [الإيمانَ والسلوكَ]” عند [قطاعات كبيرة من] الأتباع والمريدين”). أ.هـ.

هكذا جمع عالمنا المفكر بين العمل الفكري والتشبع من الأدب شعرًا ونثرًا أسعفه في التعبير عما يشاء من فكر وعلم، وغلف هذا كله وحفَّه بصوفية محببة راشدة لم تجعله ينزوي في زاوية أو ينحرف في ممارسة، وإنما كان هذا التصوف حافزًا له على مقارعة الظلم ومواجهة المستبدين.

الجمع بين السلفية والتجديد

السلفية ومحمد عمارة

من الجوانب المتكاملة التي جمع بينها د. محمد عمارة جانب أو مجال “السلفية” ومجال: “التجديد”، وهذا لا يجتمع إلا عند الراسخين الواعين بأهمية الجمع بينهما والصدور عنهما، فالسلفية لا تكون إلا تجديدية، والتجديد لا يكون إلا سلفيًّا.

وفي عدد ليس قليلًا من كتبه ومقالاته كان يتحدث عن الهوية وحفظها والاستقلال الحضاري والخصوصية الحضارية لا سيما في ظل العولمة التي تريد أن تصب العالم الإسلامي في القالب الغربي، فمن كتبه التي كتبها في ذلك: الإبداع الفكري والخصوصية الحضارية، مخاطر العولمة على الهوية الثقافية، مقالات الغلو الديني واللاديني، الإصلاح الديني في القرن العشرين، مستقبلنا بين التجديد الإسلامي والحداثة الغربية، وغير ذلك.

ويفرق د. عمارة في مشروعه الفكري الذي جعل الوسطية من ركائزه: “بين “السلفية في الدين” (التي تعود بعقائده وعباداته وقيمه إلى منابعها الأولى الجوهرية والنقية) وبين “سلفية الجمود والتقليد” (التي تحلم بالهجرة من الحاضر إلى الماضي, والتي تخاصم العقل والاستنارة والتقدم والنهوض)”.

ويقرر أنه لا تعارض بين السلفية الحقة والتجديد الصحيح، يقول: “بعض الناس يتصور أن السلفية نقيض للتجديد، نقيض للتقدم، بل أصبحت كلمة السلفية عند بعضهم سُبة يُرْمَى بها الغير.. بينما السلف هو الماضي، وليس هناك إنسانٌ بلا ماضٍ.. وليس هناك إنسان إلا وهو سلفي.. لكن القضية هي مَن هو سلفك؟ هل سلفنا عصر التراجع الحضاري أم عصر الازدهار الحضاري؟.. وكيف نتعامل مع السلف؟ هل أهاجر إلى السلف؟ أم أننا نسترشد بالسلف؟”.

ومن كتبه عن السلفية التي أجاب فيها عن هذه الأسئلة وغيرها وقرر حقائق كثيرة في هذا الشأن، كتبه: السلفية: واحدة أم سلفيات، السلف والسلفية، السلفية “رسائل الإسلاح 31″، وكتب عن السلفية كمصطلح في كتبه التي خصصها للحديث عن المصطلحات.

ومن كتبه عن التجديد أو التي تناول طرفًا من قضايها في ضوء التجديد: التقدم والإصلاح بالتنوير الغربي أم بالتجديد الإسلامي، مستقبلنا بين التجديد الإسلامي والحداثة الغربية (رسائل الإصلاح 10)، الشيخ شلتوت إمام في الاجتهاد والتجديد (رسائل الإصلاح 15)، الخطاب الديني بين التجديد الإسلامي والتبديد الأمريكاني.

إن الجمع بين السلفية والتجديد عند المفكر يعطيه الأصالة والقوة، والرصانة والقدرة، ويمنحه مزيدًا من العمق الذي يمكنه من التأثير والمضي قدُمًا لتثبيت مشروع الإسلام الحضاري الذي يبين الفكرة ويبلغ الدعوة ويقيم الحجة ويدحض الشبهة، وقد كان لعمارة من هذا النصيب الكبير إن لم يكن الأكبر في عصره.

الجمع بين الوطنية والعروبية والإسلامية والإنسانية

جمع الدكتور محمد عمارة هذه الدوائر في مشروعه الفكري، وإن بدأ في بدية مشواره ومشروعه بالوطنيات والقوميات والعروبيات، لكنه وجد هذا كله وزيادة في الإسلام الذي قاده إلى استيعاب هذا كله وصَهْره، وانتهى به إلى الإنسانية.

ولقد ألف د. عمارة ضمن مشروعه الفكري العملاق كتبًا عن هذه الدوائر الوطنية والقومية والإسلامية والإنسانية، وأحيانًا يكتب عن القومية والوطنية، وأحيانًا أخرى يبين ما في الإسلام من أبعاد إنسانية، ظهر هذا بجلاء في عدد ليس قليلًا من عنوانات كتبه، ومن ذلك:

الجامعة الإسلامية والفكرة القومية، الأقليات الدينية والقومية تنوع ووحدة أم تفتيت واختراق؟، فجر اليقظة القومية، الإسلام والوحدة القومية، القومية العربية ومؤامرات أمريكا ضد وحدة العرب، ظاهرة القومية في الحضارة العربية، حقائق وشبهات حول الوطنية والقومية والجامعات الإسلامية، ظاهرة القومية فى الحضارة العربية، العروبة فى العصر الحديث، الأمة العربية وقضية الوحدة، القومية العربية ومؤامرة أمريكا ضد وحدة العرب، ثورة الاستقلال والوحدة الوطنية، ثورة 1919 والوحدة الوطنية، المعتزلة ومشكلة الحرية الإنسانية، السنة النبوية ومعرفة الإنسانية، مستقبلنا بين العالمية الإسلامية والعولمة الغربية، السماحة الإسلامية.

ومما يؤكد على هذا أن أول كتب كتبها عمارة كانت عن القومية ثم ما لبث أن اكتشف وجود هذه الأبعاد والدوائر كلها في الإسلام، يقول:

“وفي تلك الفترة كتبت أربع كتب؛ قبل السجن كتبت كتابًا عن القومية العربية ومؤامرات أميركا ضد العرب، حين كنت طالبًا في دار العلوم، كتبته في مواجهة فكر يساري ينكر وجود أمة عربية، وأنا بتراثي الإسلامي أدركت أن الأمة العربية تكونت بظهور الإسلام، فعكفت أسبوعًا وكتبت هذا الكتاب، وكان أول كتاب في مصر ينشر عن القومية العربية بعد الوحدة بين مصر وسوريا، وطُبع طبعتين وتُرجم إلى الروسية. كتبته في 1957 وطُبع في 1958.

وعندما دخلت السجن واستقرت الأمور عكفت على القراءة لتطوير هذه الدراسة، فكتبت كُتُبَ: ‘فجر اليقظة القومية‘، و‘العروبة في العصر الحديث‘، و‘الأمة العربية وقضية الوحدة‘، و‘إسرائيل هل هي سامية؟‘؛ وهي دراسة تقارن بين المشروع الصهيوني والمشروع الصليبي. ونشرت هذه الكتب بعد أن خرجت من السجن”.

إن الجمع بين كل هذه الدوائر لا يقدر عليه إلا الإسلام، ولا يستطيع تجليته وبيانه وإكهاره بحقيقته وطبيعته غير المتعارضة ولا المتناقضة إلا “المفكر الإسلامي” في حين يرفضه المفكرون الوطنيون والقوميون، بلا ينكرونه؛ فضلًا عن بيان الانسجام بينها وعدم التعارض فيها، وقد قدم د. عمارة في مشروعه الفكري هذه الدوائر كلها متسقة ومنسجمة ومتكاملة لا متعارضة ولا متناقضة مما خلع على مشروعه ميزة خاصة تتناسب مع هذا التنوع والتكامل والثراء.

معالم فروسية الفكر والميدان

بعد استعراض هذه المعالم العشرة التي جمع فيها عالمنا ومفكرنا بين مجالات وودوائر متقاربة أو متباينة جعلت لمشروعه هذا الثقل وتلك القيمة الكبيرة، وقد تكون أحيانًا هذه الدوائر متعارضة بادي الرأي، وبينا وجه جمعه بين هذه المجالات وطبيعة هذا الجمع وبيان وجوده ضمن مشروعه الفكري، مع بيان أثر هذا الجمع بين هذه المجالات والدوائر على الخطاب الإسلامي والدعوة الإسلامية .. بعد ذلك يطيب لنا أن نختم بالحديث عن عنصر مهم ومعلم بارز في حياة د. محمد عمارة العلمية والعملية، وفي حياة كل عالم رباني مجاهد، وهو الوقوف على معالم فروسيته في الميدان بعد أن تجلت فروسيته في الفكر والقلم.

فروسيته في الكتابة

وقبل بيان فروسية الميدان والاشتغال بهموم الأمة على الأرض وفي الميدان نذكر أولًا أن روح الفروسية ومسلك الجهاد والدفاع كانت تكتسي بها كتاباته، وكذلك مفرداته التي يختارها لا سيما في كتبه التي يرد فيها الشبهات، أو مؤلفاته التي يظهر فيها عوار التيارات الفكرية المنحرفة سواء أكانت قديمة أم حديثة.

إن الدكتور محمد عمارة حينما يكتب في قضية أو يتحدث فيها، فلا تشعر أنه كاتب يكتب بقلم، أو مؤلف يحبِّر الورق، أو خطيب يعتلي المنبر، أو متكلم يتكلم في ندوة، وإنما تشعر أنه مقاتل في معركة يحمل السلاح، ومجاهد مرابط على الثغور يحمي الذمار، فترى بارقة السيوف فيما يكتب أو يخطب؛ مبينًا معالم الإسلام، ومجلِّيًا محاسن العقيدة، ومرسِّخًا معاقد الشريعة، ومؤسِّسًا فَرَادَةَ الحضارة، بما يملك من حُجج بالغة، وأدلة دامغة، وإحصاءات قاطعة، ونُقُولٍ عن الآخرين باهرة معبرة، كل هذا في حسن عرض، وجمال بيان، وروعة أسلوب.

أول مقال كتبه كان بعنوان: جهاد

من الوهلة الأولى في الكتابة يطالعك تاريخ عمارة بأول مقال كتبه في حياته كان من أجل القضية الفلسطينية، وكان بعنوان: “جهاد”، وهو يحكي قصته فيقول: “حدث أني التقيت بناسٍ من حزب “مصر الفتاة”، وبدأت العمل بالسياسة من خلال الحركة الوطنية في مصر، ومن خلال القضية الفلسطينية. أول مظاهرة اشتركت فيها كانت سنة 1946 أثناء فترة المعهد (1945-1946)، وكانت مظاهرات ضد مشروع صدقي/بيفن حول الجلاء الإنجليزي عن مصر. وفي 1947 بدأت أخطب في المساجد ضد اليهود (= الإسرائيليين)، ومن أجل القضية الفلسطينية، وكتبت أول مقال بعنوان “جهاد” عن الفدائيين الذين دخلوا فلسطين قبل الجيوش العربية، نُشر في أول أبريل/نيسان سنة 1948 في جريدة “مصر الفتاة”، وأعتقد أن نشر هذا المقال حدد مستقبلي ومصيري في علاقتي بالكتابة”.

وقد كانت قضية فلسطين من القضايا المجمع عليها من كافة التيارات السياسية والفكرية، ونشأ مفكرنا محبًا للحرية والتحرر والجهاد والعدل الاجتماعي.

إسهامه في المظاهرات ورغبته في الجهاد القتالي

أحمد حسين مؤسس حزب مصر الفتاة.

سبقت الإشارة قبل قليل إلى اشتراكه في أول مظاهرة ضد مشروع صدقي/بيفن حول الجلاء الإنجليزي عن مصر، كان ذلك عام 1946م وهو ابن خمسة عشر عامًا!.

وكذلك في فترة تعليمه الابتدائي كان يشارك في اعتصامات واحتجاجات، يقول: “فتحت تجربة التعليم الابتدائي أمامي أبوابًا كثيرة، خصوصًا أن الأجواء في الأزهر كانت تتسم بالجمود، وكنا ندرس الحواشي والتعليقات، ولاحظت بعد ذلك أن ما يدرس في الأزهر ليس كتب عصر الازدهار الحضاري ولا كتب عصر التجديد، وإنما كتب في أغلبها مؤلفة في عصر المماليك، لذلك كنا نقوم بإضرابات واعتصامات واحتجاجات مطالبين بإصلاح الأزهر وإدخال اللغات الأجنبية”.

وكان يتابع أخبار الفدائيين من خلال الصحف، يقول: “وكنت أقرأ صحيفة مصر الفتاة، وأعرف أخبار الفدائيين الذين دخلوا من مصر وسوريا إلى فلسطين، وذلك قبل دخول الجيوش العربية إلى فلسطين في مايو/أيار سنة 1948م”.

تطور الأمر بعد ذلك ميدانيا وممارسة إلى التدريب على السلاح وممارسة الجهاد القتالي على الأرض بالفعل، يقول: “عندما احتدَّت أحداث القضية الفلسطينية؛ تطوعت لأتدرب على السلاح وأذهب إلى فلسطين، لكن بسبب السن وأن دسوق كانت مدينة صغيرة لم تتح لي فرصة الدخول إلى فلسطين، وعندما ألغيت معاهدة 1936 بين مصر وإنجلترا سنة 1951 تدربت على السلاح أيضًا، ثم تدربت على السلاح أيضًا للذهاب إلى قناة السويس ومحاربة الجيش الإنجليزي في القواعد العسكرية هناك، لكن حدث حريق القاهرة فأجّلت الموضوع. ولكنني تمكنت من الذهاب إلى القناة لمواجهة العدوان الثلاثي 1956، حين كانت لي علاقة باليسار المصري الذي كان بينه وبين الحكومة تعاون لمواجهة العدوان الثلاثي”.

ممارسته للخطابة الاجتماعية الثورية طوال حياته

منذ زمن مبكر كان د. عمارة يعتلي المنبر، ويخطب ضد الاحتلال، حتى إنه يقول: “وفي 1947 بدأت أخطب في المساجد ضد اليهود (= الإسرائيليين)، ومن أجل القضية الفلسطينية“. بل إنه كان يخطب لفلسطين ليجمع المال لها من القرى القريبة منه، يقول: “شاركتُ في الدعاية للقضية الفلسطينية, وذهبتُ إلى القرى المجاورة لقريتي لأخطب وأطلب التبرع المادي لدعم الكفاح في فلسطين”.

والذي حمل مفكرَنا على الخطابة وممارستها في وقت مبكر من حياته هو رغبته في التغيير والتجديد لما رآه من أفكار مغلوطة وأوضاع اجتماعية غير صحيحة، يقول: “لقد لمستُ في فترة الطفولة والنشأة كثيرًا من مظاهر الفهم الخاطئ لتعاليم الدين (والتي كانت نتيجة لظروف طويلة من التخلف)، مما دفعني إلى طريق التجديد والتصحيح.. حتى لقد كُنتُ، منذ بداية عهدي بالخطابة، أخطب على نحو غير تقليدي؛ فلقد كان يُدهَشُ جمهورُ الفلاحين لأنهم لم يتعودوا أن يصعدَ على المنبر إنسانٌ يتكلم في الشئون الاجتماعية والسياسية والعامة.. وبدأت أَعِظُ الناسَ 30 ليلةً في رمضان.. ثم بدأت التجربة التي بدأتُها في القرية تنضج؛ فتتحول إلى لون من ألوان القيادة السياسية والاجتماعية والفكرية: فأصحابُ المشكلات يأتون, والباحثون عن الفتاوى يأتون, والمشكلات الزوجية صُلحاً أو طلاقاً تنتهي عند الحجرة المتواضعة التي أجلس فيها، والعلاقات والصداقات تنمو بين القرية والقرى المجاورة، وأصبحت شهورُ الصيف التي أقضيها في القريةِ منتديات من الحوار والنقاش الدائم، ومجالًا خصبًا للخطابة والموعظة وإمامة الناس”.

وقد تطورت طبيعة الخطابة عنده من “مجرد الوعظ” إلى آفاق الإصلاح الاجتماعي كما تبين، يقول عن ذلك: “وأذكر أنَّ مِن ضمن ما قدمتُ للناس في مسجد القرية تفسيرًا أدهشهم، لكنه أقنعهم, وذلك عندما قلتُ لهم: “إذا لم تأخذوا من إنتاجكم ما يكفي قوتَكُم وقوتَ أولادِكم, فستذهبون إلى النار, حتى لو كان ذلكم الأخذُ اغتصابًا من المالِكِ للأرض؛ لأنَّ اللهَ سبحانه يُبَشر الذين يَظلمون أنفُسَهم بالنار: “إن الذين توفاهم الملائكةُ ظالمي أنفسِهِم, قالوا: فيم كنتم؟ قالوا: كنا مستضعفين في الأرض قالوا: ألم تكن أرضُ اللهِ واسعةً فتهاجروا فيها؟! فأولئك مأواهم جهنم وساءت مصيرًا” [النساء 97].. وأنت إذا لم تأخذ من نتاج عرقكَ ما يكفيك ويكفي أسرتكَ: فأنت تظلم نفسَكَ؛ فأنت عاصٍ لله” اهـ..

وقد كنتُ أرى الفلاحَ يَشقَى ويزرع الأرضَ ويَروِيها بعرقه (على سبيل الحقيقة لا المجاز), ثم يَحْصُد, ثم يأخُذُ المالكُ كلَّ هذا الحصادَ ونتيجةَ هذا العرق, ويذهب الفلاحُ آخَر الليل إلى بيته خالي الوفاض, فإذا امتعض أو اعترض: يُطرَد من الأرض ويُلقَى للمجهول.. ومِن هنا كان هذا التفسيرُ الذي قدمتُهُ تفسيرًا “ثوريًا”.

وقد أشرنا سابقًا ونحن نتحدث عن تجربته الصوفية ممارسته للخطابة الناقدة للتصوف المنحرف وللملك فاروق معًا، وهو ما يزال في التعليم الأولى، يقول:

في مرحلة الابتدائي والثانوي -قبل الارتباط باليسار- كانت لدي تجربة في المجاهدة الروحية والتصوف غير الطرقي، وكنت أخطب على المنبر ضد الطرق الصوفية وأعلّم الناس فرائض الدين ومقاومة الظلم، وفي الجمعة التي سبقت ثورة يوليو صادف أن انتقدت الملك فاروق، وعندما عُزل بعد الثورة ظن بعض الناس أنني كنت على علم بتفاصيل ثورة يوليو، وظن آخرون أنني من أولياء الله الصالحين.

وإبان أحداث يوليو 1952م يقول مبينا تطور الخطابة عنده إلى شكل سياسي ثوري: “وقامت ثورة يوليو 1952م أثناء دراستي الثانوية، ولقيامها معي حادثٌ طريفٌ: فقد كنتُ أخطب الجمعةَ بشكل منتظمٍ خلال الإجازة الصيفية بمسجد القرية، وكنتُ الوحيدَ الذي لا يدعو للمَلِك على المنبر، وكان هذا شيئًا مُستغربًا، ولكني التَزَمْتُهُ.. والمثيرُ أنه في يوم الجمعة وخلال الأسبوع الذي سبق الثورةَ مباشرةً كان في الخطبة ما يُشبهُ النقدَ اللاذعَ للملك فاروق، ودعوتُ اللهَ فيها أن ينصرَ الأمةَ العربية والإسلامية على أعدائها وبيد أبنائها المخلصين.. وعندما قامت الثورة: تصورَ مَن في القرية أنني كنتُ على علمٍ أو على اتصالٍ بها، وأخذوا يقارنون بين ما قلتُهُ في الخطبة وبين ما حدث؛ ليؤكدوا على هذه القناعة”.

ظلت الخطابة مهارة ورسالة يمارسها مفكرنا في قريته حتى أواخر حياته، كان إذا زار قريته خطب فيها الجمعة، وخطب العيدين، وما زال كذلك حتى لقي الله تعالى.

فروسيته في المناظرات والفضائيات

ومن معالم فروسيته ما اشتهر به من مناظرات لم يحظ أحد من معاصريه بالقدر الذي حظي به د. عمارة منها اللهم إلا أحمد ديدات -رحمهما الله تعالى- وقد تابعت الجماهير الواسعة مناظراته مع نصر أبو زيد وفرج فودة ونوال السعداوي وكمال زاخر وفؤاد زكريا وآخرين، وكيف خرج من هذه المناظرات كلها منتصرًا مظفرًا حتى قال عنه الشيخ الكبير محمد الغزالي مداعبًا إياه في لقبه:

أنت لست «عمارة»؛ أنت قلعة حصينة شامخة شديدة البأس؛ تكر منها على أعداء الإسلام وشانئيه، ولا ترضى الإياب إلا بعد أن تتركهم صرعى كأنهم أعجاز نخل خاوية.

كما أنه حين يستضاف وحده في أي لقاء تليفزيوني يتحدث حديثًا قويًا حاشدًا متحمسًا يأخذ عقلك وقلبك ووجدانك بما يقوله من فكر، وما يقيمه من حجج وأدلة، وما يدفعه من شبهات أمام العلم الراسخ الذي يبدده ويذهبه بل يجعله أضحوكة وأثرًا بعد عين.

فروسيته في المعارك التي خاضها

ومن معالم فروسية مفكرنا العظيم الميادين التي قاتل فيها بقلمه وفكره، والمعارك التي خاضها، ومن ذلك معركته مع الكنيسة المصرية، ومعركته مع الشيعة، ومعركته مع التيارات السلفية الجامدة، ومعركته مع العلمانيين واللادينيين، ومعركته مع الأنظمة المتتالية، وموقفه من الانقلاب العسكري في مصر وبيانه الشهير الذي سجله للتاريخ، والقضايا التي أثارها على صفحات مجلة الأزهر حين تولى رئاسة تحريرها..

كان محمد عمارة هو الفارس المغوار في هذه المعارك، وقد أقض مضجع الكنيسة في مصر، وكذلك أقض مضجع الشيعة حتى زاره الملحق الثقافي الإيراني في القاهرة ورجاه أن يخفف من حملته حينما كتب عن الشيعة وفتح ملفها في أعداد مجلة الأزهر والكتب التي أصدرها هدايا مع أعداد المجلة.

ختامًا

لا نجد في ختام هذه الدراسة أفضل من كلمات إمامنا الشيخ يوسف القرضاوي كتبها عنه في كتاب أرى أن عنوانه دال على مسيرة عمارة الفكرية والجهادية وهو: “محمد عمارة الحارس اليقظ المرابط على ثغور الإسلام”، قال في مقدمته:

هذه هي الصحائف التي كتبتُها في شأن أخي وصديقي العالم الباحث الداعية المناضل الشيخ الدكتور محمد عمارة، الذي ادَّخره القدر الإلهي للدفاع عن هذا الدين العظيم، الدين الخاتم الذي أكرم الله به هذه الأمة، وأتمَّ عليها به النعمة، حين قال: (الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الإِسْلامَ دِينًا) [المائدة:3]. عمارة هو الحارس المغوار، والفارس المختار، والسيف البتار لإرهاب أعداء هذا الدين العظيم، دين الإنسانية جميعًا، ودين القرون كلِّها، ودين البشر حينما تُظلِمُ عليهم الدنيا، وتلتبس عليها الطرق، ولا يجدون النور والضياء إلا في رسالة محمد عليه الصلاة والسلام، رسالة الإسلام الأصيلة: (وَمَنْ لَمْ يَجْعَلِ اللَّهُ لَهُ نُورًا فَمَا لَهُ مِنْ نُورٍ) [النور:40].

الكاتب: د. وصفي عاشور أبو زيد.

المصادر

  1. الدكتور محمد عمارة الحارس اليقظ المرابط على ثغور الإسلام (كتاب) – د. يوسف القرضاوي.
  2. المشروع الفكري للدكتور محمد عمارة (كتاب) – د. يحيى رضا جاد.
  3. العلامة الدكتور محمد عمارة في رحاب الله (مقال). د. إبراهيم البيومي غانم.
  4. محمد عمارة سيرة ومسيرة (حوار الجزيرة) – د. معتز الحطيب.
  5. محمد عمارة جهاد في خدمة الإسلام (مقال) – أشرف عيد العنتبلي.
  6. حلقة برنامج وحي القلم: محمد عمارة .. الاعتكاف في محراب الفكر. قناة الجزيرة. تاريخ البث 13/7/2015م.

كلمة حق

تقارير ومقالات يتم إعادة نشرها من مجلة كلمة حق.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى