الدولار الأمريكي والرأسمالية والإمبريالية العالمية

لا زالت الورقة الخضراء الأمريكية تتربع على عرش هيمنة العملات العالمية، لم يكن هذا من قبيل الصدفة أو نتاج المثابرة والتقى! ولكنه جزء من التخطيط الأمريكي التدريجي الماكر والحنكة، للسيطرة على الاقتصاد والاستفادة بلا استجداء، فلو نظرنا للتعاملات الاقتصادية في العالم وفي كل المجالات سنجد للدولار الأمريكي حصة الأسد في التداول والتبادل وأصبح بلا منازع كمقياس اقتصادي عالمي.

ورغم أنه مجرد عملة ورقية، لا يمكنها أن تغطي قيمتها من الذهب إلا أنها أضحت اليوم أكبر خطر يهدد اقتصاد الدول، فالعملة الأمريكية تسللت إلى أدراج الاقتصاد العالمي بشكل يصعب التخلي عنها بسهولة، ولكن في حال سقطت هذه العملة فستسقط معها الكثير من المؤسسات وحتى الأنظمة الاقتصادية.

لمحة تاريخية

ما بين عامي 1794 و1795، مع الثورة الأمريكية، وفي  أعقاب تأسيس نظام نقدي خاص بالدولة الجديدة، اعتمد ساسة الولايات المتحدة عُملة معدنية مُوحّدة أسموها الدولار الأمريكي وكانت هذه العملة آنذاك مرتبطة بالذهب، وفي عام 1862 ومع استنزاف الحرب الأمريكية الأهلية بين الشمال والجنوب، لجأت الحكومة الأمريكية لإنشاء العملة الورقية الدولار المعروف اليوم وهي مستغنية عن الذهب والفضة في صناعتها.

ولم يحظ الدولار الأمريكي بشهرته وهيمنته العالمية إلا بعد الحرب العالمية الثانية التي خرجت منها أمريكا منتصرة وفي وقت لم  تتكبد فيه خسائر كبيرة كالتي تكبدتها الحكومات الأخرى المنخرطة في الحرب نظرا لبعدها الجغرافي من جهة ، ومن جهة أخرى لقدرتها على خلق اقتصاد حربي مُوازٍ لدعم وتمويل الحرب، دون إضعاف للاقتصاد المدني، وهكذا لمع نجم الدولار تحديدا بعد اتفاقية برتن وودس، في سنة 1944.

ووفقًا للاقتصادي البريطاني الشهير، جون كينز، الذي كان في نفس الوقت يشغل منصب ممثل الجانب البريطاني في المُفاوضات مع أمريكا بعد الحرب العالمية الثانية، فإن أمريكا كانت تتجه نحو “استخدام منح قروض ما بعد الحرب كفرصة لفرض التصوّر الأمريكي للنظام الاقتصادي العالمي”.

وهي اتفاقية برتن وودس ذاتها  التي انتهت بتنظيم التجارة العالمية الدولية باعتماد الدولار الأمريكي كمرجعٍ رئيسي لتحديد سعر عملات الدول الأخرى، كما اشترط هذا النظام الجديد أن تربط كل دولة عملتها إما بالذهب أو الدولار، ثم من هناك ظهر نظام الصرف الأجنبي وصندوق النقد الدولي والبنك الدولي للتطوير والتعمير، وسيطر الدولار على العالم.

لقد أضحى الدولار بعد هذه الاتفاقية العملة الوحيدة التي يستطيع الناس استبدالها بالذهب، وترجع ثقة الدول بهذه الورقة كون أمريكا كانت تملك أكبر مخزون ذهب في العالم، لقد كانت أمريكا تمتلك وحدها ثلثي الرصيد المالي العالمي إذا ما قيس بالذهب التقليدي أو بالذهب الجديد.

واستمرت الثقة بالدولار حتى ما يسمى صدمة نيكسون، عندما خرج الرئيس الأمريكي نيكسون في السبعينات وأعلن بكل صراحة أن بلاده لن تستبدل الدولار بالذهب وأخضع هذا القرار العالم كله لأن يتقبل استمرار الاعتماد على الدولار دون أي ارتباط مباشر بالذهب.

ويرى بعض الباحثين أن صدمة نيكسون كانت صدمة فاضحة للخديعة الكبرى التي تجلت معها حبال مكر الأمريكان وقدرتهم على التلاعب والاحتيال، حيث استطاعوا أن يسيطروا على الاقتصاد العالمي دون أن يتكلفوا قيمة الذهب التي يجب أن يغطيها الدولار، في حين يرى آخرون أن الأمر جاء تحصيلاحاصلا للتطور في النظام الاقتصادي وفق متطلبات المرحلة، والذي جعل من الصعبالتخلي عن هذه الورقة بالنظر لدرجة تعلق الاقتصاد العالمي بها، ثم بعد هذه الصدمة لم تعد للدولار قيمة ثابتة تُحدد بالذهب، ولكن يتأثر بقيمته في السوق، بحسب العرض والطلب.

الدولار والنفط

لكن طموحات أمريكا الاقتصادية لم تقف عند هذا الحد بل استمرتبدهاء في دعم الدولار، مستغلة بذلك أحد أهم الأعمدة الاقتصادية في العالم،  منظمة الأوبك للدول المصدرة للنفط، وهي المنظمة التي حصرتتسعير براميل إنتاج الدول الأعضاء  بالدولار فقط، وبهذا ضمن الأمريكان بعد الاتفاق مع السعودية -أكبر منتج نفطي في العالم- أن يستمر تداول الدولار في سوق النفط بشكل وثيق للحاجة المستمرة لهذه الثروة، ولا شك أن تجارة النفط كانت أحد أهم الأسباب الداعمة لثبات الدولار الأمريكي عالميا، ولهذا وضعت أمريكا جل جهدها في الهيمنة على هذا الميدان وتمتين العلاقة بينه وبين أنواع الصناعات في العالم لتزيد من حجم فوائدها ومكاسبها المادية.

الدولار واليهود

ثم الحقيقة التي يجب أن تعيها الشعوب المسلمة هي أن الاقتصاد العالمي يخضع لتأثير مباشر لليهود سواء عن طريق السياسة أو عن طريق الهيمنة على الدولار.

فاسم روتشيلد وهو اسم عائلة يهودية امتلكت نصف ثروات العالم منذ القرن التاسع، وارتبط اسمها ارتباطا وثيقا بعالم الاقتصاد، فقد توسع نفوذها حتى امتلكت أرصدة كبيرة في بنوك مركزية لكبريات الدول بما فيها الأمريكية ثم كان لها الدور الرئيس في التحكم في سوق الصرف والبورصات العالمية وحتى في طباعة عملة الدولار.

الرأسمالية الأمريكية

ظهرت الرأسمالية لتعطي الحق المطلق والحرية الكاملة لرأس المال، فيربح صاحبه ويتملك بلا أدنى ضوابط أو عقبات، المهم أن يسود ويعلو صاحب المال، لا يهم ما يبيعه أو يتاجر به بل الأهم كم سيحقق من الأرباح. وبهذه السياسة أضحى الربح يحدو جشع الإنسان وتكسرت روابط القيم ومفاهيم الإنسانية.

فتفشى الاحتكار والخداع ودفعت ثمن هذه الرأسمالية التي لا ترحم الشعوب، بل وحتى دول بأكملها، في سبيل أن تزدهر شركات الرأسمالية، لقد ساد العالم ظلم عظيم، يحتكر فيه الثروة طبقة ضئيلة تعيش في رفاهية على حساب الغالبية من الناس الذين يتضرعون جوعًا ويعانون من الحاجة والعوز في حين لا زالوا يمثلون في نظر أصحاب رؤوس الأموال أهدافًا لجشعهم، لقد بيعت الإنسانية رخيصة في أسواق الربح، وديس على كرامة الإنسان بروح مادية طاغية. هذا هو النظام الرأسمالي الذي جاء به “العالم المتحضر” زعموا.

الإمبريالية العالمية

هي السبب الأول الدافع للاحتلال في العصر الحديث، احتلال أهدافه الأولى اقتصادية، تلجأ إليه الدول الرأسمالية الكبرى لأجل خلق أسواق جديدة تبيع فيها منتجاتها بما فيها الأسلحة، وفي ذات الوقت تؤمن لشركاتها ومصانعها مصادر جديدة للثروات والمواد الخام وحتى اليد العاملة غير المكلفة.

وبهذه الدوافع المغرية احتلت بلاد المسلمين من المستعمرين الفرنسيين والإنجليز، وحملت راية الاستعمار بعد الحرب العالمية الثانية أمريكا بإمبرياليتها العالمية ، وكونها كانت تحتل مكانة المنتصر في  العالم، طوعت النظام العالمي على أسس إمبريالية بحتة، وعملت على تأسيس نظام عالمي على الأسس الإمبريالية التي توسعت أكثر وانتشرت بعد سقوط الاتحاد السوفيتي، وطورت وسائلها في ذلك فكانت العولمة والديمقراطية أحد أهم وسائلهاوها قد نجحت الإمبريالية الأمريكية في الهيمنة على الاقتصاد العالمي، وباتت المنتجات الغربية محتكرة، تستهلكها الشعوب بلا استغناء.

وأصبحت هذه السياسة تخضع الشعوب للماديات، تعيش لأجل المادة وتموت في سبيل المادة وتبذل وتكافح من أجل هذه المادة، فتفشت عقدة الموضة، والتنافس المذموم في إقتناء إسم تجاري يخلق تفاضلا ماديا بين المستهلكين وتعميق الهوة بين الطبقات في المجتمع يقاس بها مكانة الفرد أو يزدرى!.

وتمكنت أمريكا والدول الكبرى من أن تتحكم في الحاجة الاستهلاكية لشعوب برمتها فتوقدت النزعة الشرائية للأفراد بالدعاية والإغراء، وتسابق الناس بجنون على المطاعم والملاهي وحتى المحرمات كالمخدرات ودور الزنا، فحين تكون المسألة أرباح، لا قيم تحترم ولا ضوابط تزجر، المهم أن تغذي أمريكا بذلك عجلة الاقتصاد لديها باستمرار، ثم لا عجب أن تصبح تجارة الأسلحة والمخدرات والجنس هي الأولى في قائمة التجارة العالمية قبل الطعام والأدوية التي تعتبر أساسيات في حياة البشر.

ويغرق الفقراء في دوامة توفير مستلزمات الحياة، لأن مبدأ اللارحمة قد ساد العالم، فتجلى مشهد عبودية بأبشع ملامحه، وتحول الإنسان إلى آلة العبودية الحديثة، يستعبد فيها أصحاب المال الفقراء، وأصحاب الشركات المستهلكين وأصحاب النفوذ الأكبر والأصغر.

ومحقت البركة وتفشى الربا وطحن القوي الضعيف،  وأصبح صندوق النقد الدولي ومنظمة ما يسمى التجارة الدولية الوسائل التي تستعبد فيها الشعوب، ولا أوضح من الأزمات التي تعاني منها البلدان المسلمة، فقد اشترط صندوق النقد الدولي على السودان مثلا رفع أسعار الخبز على الشعب مقابل تقديم قرض للبلاد، فسارعت الحكومة لرفع سعر أهم مادة غذائية لتفاقم من معاناة الفقراء، وحين احتجت الجماهير وخرجت للشارع، قمعت وزج بها في السجون، وشعوب أخرى صمتت وابتلعت الغصاصة! وهكذا يقبع المواطن المسلم بين سندان الأنظمة العميلة ومطرقة النظام الدولي الظالم.

ثم يزيد الطين بلة أن يمتلك كبريات الشركات العالمية رجال سياسة، يوجهون سياسات حكوماتهم لصالح نجاح وتألق شركاتهم، وهذا تمامًا ما حدث مع حرب العراق وأفغانستان، حيث استنزفت ثروات هذه البلدان وخاصة من النفط والذهب واليورانيوم لصالح شركات النهب التابعة للإمبريالية الأمريكية أو ما يسمى الشركات متعددة الجنسيات تحت غطاء إعادة الإعمار.

لقد نال المسلمين الأذى الأكبر من هذه السياسة الاقتصادية الجائرة، لهذا فعليهم أن يدركوا حقيقة النظام الماكر الذي يقود اقتصاد العالم اليوم وأن يبحثوا في البحوث و الكتابات التي فضحت هذا النظام وكشفت خيوط مكره، ككتاب العميل السابق لوكالة الأمن القومي جون بيركنز بعنوان (الاغتيال الاقتصادي للأمم)، حيث يفصل بشهادته كيف تمكنت البنوك والشركات العالمية من سرقة دول العالم الثالث، وإغراقها بالديون ومن ثم وضعها تحت إشراف البنك الدولي وصندوق النقد الدولي.

دعم الاقتصاد الأمريكي يعني مزيدا من المعاناة لشعوبنا

واليوم في عصر الرئيس الأمريكي دونالد ترامب نشاهد الجهود المبذولة من رجل الأعمال الملياردير لتسريع نمو الاقتصاد الأمريكي وخفض البطالة وتجاوز الأزمة الاقتصادية التي عرفتها البلاد في وسط عالم تتسابق فيها كبريات الدول كالصين التي تتميز باقتصاد منافس بامتياز ثم في عالم مليء بالحروب التي لم تحسم نهاياتها بعد ولا زالت تستنزف الخزينة الأمريكية حتى أضحت الميزانية المخصصة للعسكرية هي الأضخم وتثير جدلا واسعا في كواليس الكونغرس الأمريكي.

ولأجل تحقيق هذا الهدف، لا بد من أن يدفع الفواتير بيت مال المسلمين وأن يعوض النفط في بلاد المسلمين وأن يسند هؤلاء المسلمين الضعف، وقد شاهدنا سخاء بعض الحكومات العربية ودفعها أرقاما مذهلة تكفي لسد حاجات مليار  ونصف مليون مليار مسلم، فقط لأجل رفاهية الأمريكان وحيازة ثقتهم ورضاهم.

الخلاصة

وفي الختام، ما أود أن أصل إليه كخلاصة، هو أن هذا النظام الاقتصادي الذي فرضته أمريكا علينا وهذه الامبريالية الأمريكية المهيمنة هي جميعا تصدر عن مصدر واحد، تصدر من تلك الحضارة المادية التي لا قلب لها ولا ضمير، تلك الحضارة التي لا تسمع إلا صوت الآلات، ولا تتحدث إلا بلسان التجارة، ولا تنظر إلا بعين المرابي، والتي تقيس الإنسانية كلها بهذه المقاييس، فكيف يمكن لمثل هذه الحضارة أن تقود العالم بعدالة أو أن تحقق التوازن والاستقرار بين الشعوب.

وكيف يمكننا كأمة مسلمة طموحة للتخلص من أغلال هذه الهيمنة الظالمة أن تتحرر إن لم تحطم هذا النظام الأضحوكة برمته، هذا النظام الذي بسببه نهبت بلاد المسلمين وشرد أبناءهم وقتلوا وضاع مستقبل شعوب برمتها غدت مستعبدة لديون الطغاة الذين باعوا ثروات أغنى الأوطان بأبخس الأسعار وعمّقوا من معاناة الضعفاء ووسعوا من شريحة الفقراء وبرزت الطبقية بجلاء وأصبحت أحلام المسلمين لا تتعدى لقمة عيش تسد رمق الجوع.

إن أمة عظيمة كأمة الإسلام، لها عقيدة عظيمة وشريعة حكيمة وطاقات زاخرة وتاريخ ماجد عريق، وحضارة قد أعيت ما بعدها وما قبلها من حضارات أن تبلغ ما بلغت من رقي وازدهار وعدالة واستقرار، جدير بها أن تنهض من جديد، وحين يكون  كل هذا رصيد أمة مسلمة، فكيف لها ألا تقوم من جديد، كيف لها أن تقبل الرق والاستعباد على أيدي كافرين.

حري بنا أن نبني نظاما اقتصاديا مهيمنا قويا تدعمه ثروات هذه الأمة وهمم أبنائها، علينا أن نقطع الطريق على كل السرقات والنهب لثروات المسلمين، علينا أن نتصدى لكل لص مهما كانت مكانته في سدة الحكم، علينا أن نعيد العمل بنظام الزكاة ونظام بيت مال المسلمين الذي كان يغطي حاجة المسلمين ويوزع الكفالات على المحتاجين وينفق على الأطفال والنساء فنعيش في عزة وكفاء.

بيت مال المسلمين الذي كان يكفي ليس فقط لتغطية الحاجات الداخلية للدولة الإسلامية بل كان قادرا على تغطية تكاليف الجيوش الفاتحة التي جابت الكرة الأرضية تنشر الإسلام وتقيم العدل وتنير الظلمات فسطرت أروع تاريخ للبشر، وحين ننظر لحجم الخير الذي ستناله الشعوب المسلمة فإن كل جهد وجهاد وتضحية في سبيل هذا الهدف تهون، وكل عقبة مهما كانت كؤود ستزال وتذوب.

د. ليلى حمدان

كاتبة وباحثة في قضايا الفكر الإسلامي، شغوفة بالإعلام وصناعة الوعي.

مقالات ذات صلة

تعليق واحد

  1. موضوع رائع لكنكم عرضتم المشكلة ولم تعرضوا الحل ، كيف سيكون شكل هذا النظام الاقتصادي الاسلامي الذي تدعون إليه ، وهل باستطاعتنا اقامته في ظل هذا التشرذم القائم والنزعات الطائفية التي تنخر جسد الأمة!!

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى