مشاكل الديمقراطية المباشرة ونظام الحكم في سويسرا

على عكس ما يظن الكثيرون من المنبهرين بالغرب ونظمهم، فقد تلقت الديمقراطية كنظامٍ سياسي نقداً هائلاً من عددٍ غير قليلٍ من المفكرين الغربيين والفلاسفة على مدى العصور. من أشهر هذه الانتقادات، محاكمةٌ عقلانية أجراها الفيلسوف اليوناني الشهير “سقراط” مع أحد اليونانيين ونقل ذلك الحوار تلميذه أفلاطون في كتابه الجمهورية. فشبَّه في ذلك الحوار الدولة بالسفينة، مخيراً المستمع بمن سيختار لقيادتها؛ شخصٌ عشوائي، أم ملاحٌ ماهر مجربٌ ذو خبرة. كان من أبرز انتقادات سقراط لبيئة هذا النظام السياسي جهل الشعوب، فبرأيه حتى تنجح الديمقراطية لابدّ لها من تثقيف للناخبين وتعليمهم حتى لا تصبح مجرد ضربة حظٍ تقرر مصير البلاد والعباد. ومن الطرائف أن سقراط كان سبب هلاكه هو هذا الجهل، فقد صدرتْ في حقه تهمٍ ملفقة بإفساد شباب أثينا، كان على إثرها أن حُكم عليه بالإعدام بشرب السمّ بعد رجحان تصويت هيئة المحلفين على هذا الحكم بهامشٍ ضيقٍ جداً (فرق ثلاثين صوتاً).

وفي كتاب (الجمهورية) لتلميذه أفلاطون أشار الأخير بأن الديمقراطية هي واحدة من المراحل الأخيرة في انحطاط الدولة المثالية. وهي مرحلةٌ رديئةٌ جدًا لدرجة أن الشعب في نهاية المطاف سينتخب ديكتاتورًا لإنقاذهم من الديمقراطية، والديمقراطية باعتقاد أفلاطون ستجلب الطغاة. وليس بعيدًا في واقعنا المعاصر أن هتلر كان صعوده نتيجة انتخابات ديمقراطية ونزيهة اختاره فيها الشعب بملء إرادته.

لم تكن الفكرة القائلة بأن الديمقراطية تحمل تصدعًا جوهريًا أساسيًا في قلب فكرتها بغير الشائع، فقد حضتْ بتأييد في حتى من قبل المفكرين الليبراليين. أما فولتير الذي أيد جميع حريات التعبير عن الرأي والدين، قال لكاترين قيصرة روسيا في حينها أنه: “لم يحدث شيء عظيم في العالم إلا من خلال عبقرية وحزم رجل واحد يكافح تحيزات الجماهير”. فمفهوم الليبرالية لديه كان منفصلًا تمامًا عن الديمقراطية.

وحتى ندخل في قلب موضوعنا، فإنّ الأسلوب الديمقراطي القديم -المتمثّل بالمبادرات والانتخابات والاستفتاءات الشعبية- الذي كان متبعًا في اليونان لا يزال موجودًا في بعض الولايات الأمريكية وفي سويسرا، ويُعرف اليوم باسم الديمقراطية المباشرة، تمييزًا عن أنواعٍ أخرى مُعصْرَنة من الديمقراطية.

في وقتنا المُعاصر يضرب المثل بالحرية والشفافية والديمقراطية السويسرية، لكن هل يا ترى هل خلتْ هذه الديمقراطية اليوم من أخطاء الماضي ومشاكل الحاضر؟ هنا سنضع بعض المقتطفات والترجمات لكتابات حديثة نقدت الديمقراطية المباشرة.

سيئات الديمقراطية المباشرة

الديمقراطية المباشرة مكلفة وغير عملية

في سويسرا، صحيحٌ أنك تستطيع أن توفر المال بتقليل عدد المسؤولين المُنتخبين، ومن ثمّ ستقلل ما يلحق بهم من تكاليف مرتباتهم والبيروقراطيات المفرطة، إلا أنّ تكاليف مثل هذه الديمقراطية يجب وضعها في الحسبان. حتى أنّ بعض الكانتونات في سويسرا تسعى لتقليل التكاليف عن طريق إقرار يومٍ واحدٍ للتصويت كلّ سنة، ثمّ تعيين المسؤولين لتولي بقية مهام الحوكمة عبر الحياة اليومية. وإذا حقق التصويت أغلبية ساحقةً جليةً فإن القرارات تمضي مباشرةً. وفي حال لم يحقق التصويت تلك الأغلبية، فيقوم موظفٌ بِعدِّ جميع الأيدي المرفوعة في الهواء.

ويحاول كيث ميلر الخبير القانوني الأمريكي احتساب تكاليف الديمقراطية المباشرة على النموذج السويسري، لكن على دولة بحجم أمريكا فيقول: يجب أن يقتطع الشعب وقتًا من يومه حتى يساهم في فعاليات الديمقراطية المباشرة. وحين تُفكر بحجم الكانتون الواحد في سويسرا فإنك تقارن سكانهم بمتوسط حجم المجتمع الأمريكي. ولو كان حجم البلد بحجم الولايات المتحدة فإن تكاليف الإنتاجية الضائعة بسبب التصويتات ستكون هائلة. فعبر اليوم الانتخابي العادي، ستبلغ خسائر استيعاب حقوق المصوتين أكثر من نصف بليون دولار. وإذا ما أضفت عليها تكاليف الإدلاء بالأصوات وعدّ الأصوات وتوزيع المعلومات، فكل استفتاءٍ شعبي سيكلف ملياري دولار أو أكثر. وهذا ما سيحدد غالبًا من عدد اللقاءات الانتخابية كل شهرٍ إلى لقاءٍ واحد، ومن ثمّ تقليل كمية العمل الممكن إنجازه.

فيما يصف باحثٌ سياسي صيني ليو يونّينغ الديمقراطية المباشرة بأنّها غير عملية، ويرى أن عقبتها الأساسية تكمن في حجمها. ويذكر فيقول: “تتعلق فضلًا عن ذلك بالهيكل البيولوجي البشري، بمعنى عدم قدرة الشخص على منح تركيزه المطلق لأكثر من مُتحدث واحد في نفس الوقت. ومن ثمّ، يعتمد جدول أعمال أي مجلس واسع النطاق للشعب على مُنَظِمِه -أو منظميه- ليُقرر -أو ليقرروا- تنظيم الاجتماعات وتعيين المتحدثين من خلال جدول زمني. وكلما كان هذا التجمع أكبر حجمًا، كلما زادت امتيازات المنظم -أو المنظمين-، وكلما ضعفت أصوات المشاركين العاديين في المقابل وقَلَّت فرصهم في لعب دور نشيط في السياسة. أما التواصل والمناقشة الفعالة فسوف تكون أكثر صعوبة حتى.

وفي حال كان المنظم المتنفذ -أو المنظمين المتنفذين- قادرًا على الهيمنة على النتيجة، فسيُكتب الموت للديمقراطية المباشرة. وعلى الرغم من مطالبة الديمقراطية المباشرة بأكبر عدد ممكن من المشاركين، إلّا أن فعالية هؤلاء تقل كلما ازداد عددهم. علاوة على ذلك، فإن التلاعب بأغلبية أسهل من التلاعب بأقلية. ومن ثمّ، فكثيرًا ما تتحول الديمقراطية المباشرة إلى “جنة” من المتآمرين الطموحين. إن أفضل وسيلة للتلاعب بهيئة لصنع القرار هي زيادة حجمها. ويمكن أن يكون مجلسًا مؤلفًا من آلاف المشاركين منتدى للمُنَظِّم -أو المُنَظمين- لتقديم التقارير ببساطة، ولكنه لن يكون برلمانًا تُسمَع فيه كلمات الجميع”.

حتى هنا، هناك مجالٌ للتلاعب واللوبيات

حتى في سويسرا هناك نسخٌ من ترامب سويسرية وإن كانت قد ظهرتْ مبكرًا من قبلُ، من أمثال اليميني المتشدد السويسري وابن قسيس بروتستانتي المدعو كريستوف بلوخر، وهو مالك شركات رائدةٍ في مجال الصناعات الكيميائية حقق منها ثروة قدرها 11.5 مليار فرنك سويسري، وأسرته في المرتبة العاشرة من قائمة أثرياء سويسرا.

وفي نفس الوقت، فإن هذا السويسري “الترامبي” عُرف بأسلوبه الشعبوي والخطب الرنانة لدى مخاطبته الجماهير السويسرية، ويتولى دورًا قياديًا في حزب الشعب اليميني المحافظ، رافعًا أسهم ذلك الحزب وجاعلًا منه الأقوى في سويسرا منذ عام 1999، ويُعد السياسي الأقوى نفوذًا عبر البلاد في العقود الثلاثة الأخيرة.

وكما رعى نجاح شركاته بعد أن نجح في استقطاب رؤساء الأموال والبرجوازيين إليها، فقد تكفل برعاية حزبه ماليًا. وهذا الأمر ليس بالسّر، فالقانون السويسري لا يحظر مثل هذه الأمور، ولا يفرض رقابةً في مثل هذه المسائل. حتى أنّه انطلقتْ مبادرات شعبية سويسرية بالتعاون مع عدة أحزابٍ ومنظماتٍ محليةٍ ودوليةٍ للمطالبة بفرض الشفافية على مسألة تمويل الأحزاب.

أما عن التلاعب من قبل الهيئات الحكومية بالديمقراطية المباشرة، فالمثال الحاضر كان هو نظام التوقيت الصيفي. فقبل فترةٍ ليست بالطويلة، أعلن جان كلود يونكر، رئيس المفوضية الأوروبية، أن المفوضية ستتقدم باقتراح إلغاء العمل بالتوقيت الصيفي، ومن المُتَوَقَّع أن يمضي هذا القرار. وكان البرلمان السويسري قد شرع قانونًا للعمل بالتوقيت الصيفي في عام 1977، لكن الفلاحين في البلاد دُعو إلى إجراء استفتاء شعبي للفَصل بهذا الشأن. وفي عام 1978، رَفَض غالبية الناخبين العَمل بنظام التوقيت الصيفي. مع ذلك، قدَّمَت الحكومة والبرلمان مشروع قانون جديد حول نفس الموضوع عام 1980. وهذ المرة، تكاسل الجميع عن محاولة نَقْض هذا التشريع الجديد. وهكذا، عملتْ سويسرا بنظام التوقيت الصيفي منذ عام 1981 ضد إرادة الشعب.

لا مجال للسرعة فيها

حين يتم اختيار ممثلين لإنشاء السياسات واتخاذ القرارات، فإن الإجراءات المركزية (الخاصّة بالحكومة) تسرع وتسهل من إنجاز العمل. فتستطيع الدولة أو المجتمع القيام بالرد السريع للحالات الطارئة، والدفاع عن نفسها ضد هجوم، وإدارة الاحتياجات الحياة اليومية بسهولة. بينما تتطلب الديمقراطية المباشرة مشاركة الأفراد في كل شيء. وهذا يعني أن كل قرار يجب أن يمر على الشعب للتصويت عليه. وهذه القرارات تتضمن إرسال الأموال إلى المحتاجين أو السماح باستخدام القوة العسكرية. وحين يحين الوقت للقيام بالتصويت الأخيرة، يكون الأوان قد فات للقيام بأي شيءٍ حول المجريات

وجوب إعلام المواطن بدقة عمّا يصوتون عليه

هناك دائمًا احتمالٌ لأن يصوت الناس بالموافقة على قرارٍ غير مرغوبٍ فيه نتيجة افتقارهم للمعرفة الكافية لتقييم الفكرة. فحتى تمضي حكومةٌ في تطبيق أسلوب الديمقراطية المباشرة، فعلى شعبها أن يتحلى بالانضباط الذاتي الذي يبصِّرها بآثار الأحداث الحالية.

فالمشاركة في الديمقراطية المباشرة تتطلب معرفةً في الأحداث الحالية بغرض تحقيق الوعي في عملية إدلاء الأصوات. إلا أنّه من المحتمل حدوث ضغطٍ كبيرٍ للأقران حتى يصوتوا بطريقةٍ معينةٍ لكون الجميع يفعل ذلك. وفوقها فإن خُمس المصوتين في بعض الانتخابات لا يستقرون على اختيار حتى يصلوا إلى صندوق الاقتراع. وهذا يعني بأن النتيجة دائماً ما تكون غير متوقعة، وهذا بدوره سيصعب التنبؤ بالأعمال المطلوب إنجازها.

فعالية إجراءاتها تستلزم نسب مشاركةٍ عالية

يبلغ عدد السكان الكلي لكانتون غلاروس في سويسرا 40,000 نسمة بحلول ديسمبر 2017. بينما حضر 6000 شخصٌ فقط لعقد النقاشات البرلمانية والتصويت، وهذا يعني أن نسبة المساهمة هي 15%. أما بالنسبة للديمقراطيات التمثيلية فهي تحقق ثلاثة أضعاف هذا الرقم من المصوتين. وتعاني المجتمعات الأمريكية التي تُطبق الديمقراطية المباشرة (ضمن الولايات) من نفس هذه المشكلة. وما لم تعقد الأغلبية العزم على المشاركة في هذه الفعاليات، فستتحكم أقليةٌ صغيرة بطريقة معيشة الجميع.

التمييز ضدّ الأقليات

مع أن الديمقراطية المباشرة تضع وعوداً حالمة بتحقيق الاستقلال الذاتي لجميع المواطنين، ولكن إذا ما نظرتَ إليها بصورةٍ شاملة فستجد بأنّها ليست سوى حكم الأغلبية في الواقع، لوجود أقلية تُقابل رأي الأغلبية بالرفض عند كل عملية اقتراع.

وفي الحقيقة، فإن ما يُسمى بإرادة وحكم الشعب لا تساوي لإرادة وحكم الجميع: فطالما كانت هذه الإرادة تمثل الأغلبية، فإنها لا يمكن أن تكون لجميع الناس. وطالما هيمن قرار الأغلبية؛ ستكون هناك أقلية مُضطهدة. ومادام الحكم بيَد الأغلبية، فهناك أقلية خاسرة. وعليه، فإن ما يسمى بالديمقراطية المباشرة ليست حُكم الشعب في الواقع، ولكنها حكم الأغلبية في أحسن الأحوال.

هذا عدا عن حقيقة كونها هي حكم الأغلبية ممن حضروا فقط، أما من لم يحضر فلا يسأل أحدٌ عن رأيهم، وفي أحسن أحوال الاستفتاءات الديمقراطية المباشرة، لا تتجاوز نسبة الحضور 60%. ومن ثمّ فالديمقراطية المباشرة في حقيقتها حكم الأغلبية من نصف الشعب في أحسن الأحوال.

تُركِز الديمقراطية المباشرة عملية اتخاذ القرارات على تصويت الرأي العام. وهذا يعني أن إرادة الرأي العام هي من تؤسس لجميع المآلات. إن حكم الأغلبية يعني دائمًا بأن الأقليات في وضعٍ سيءٍ ضمن الديمقراطية المباشرة. فآراء الشعب قد تستبعد فئاتٍ عرقية، أو تفضل ديانةً محدّدة، أو تخلق وضعًا مجتمعيًا تتفوق فيه فئةٌ واحدة بقية الفئات.

وعادةً ما يصوت الناس لما يعتقدونه أفضل مآلٍ لأنفسهم وعوائلهم. وقليلًا ما يضعون في اعتبارهم للآخرين الذين لهم حاجياتٌ مختلفة. وهذه السيئة موجودة حتى في الديمقراطيات التمثيلية. فلن تدعم أغلبية البشر فكرةً تتطلب منهم تضحيةً شخصيةً لصلاح المجتمع.

من الغرابة أن حقوق الشواذ التي ملأ الغرب بها الدنيا صراخًا عبر عالمنا العربي، في الوقت الذي صوتتْ ولاية كاليفورنيا عام 2008 على المقترح الثامن الذي يحظر زواج الشواذ، حيث بقي غير قانونيٍ حتى أبطلت المحكمة الأمريكية العليا المقترح الثامن عام 2013 باعتباره مخالفاً للدستور.

يصف أحد كتاب الرأي في جامعة أبالاشيان “كاليب غاربيو” هذه الحالة بأنها تبرز مشكلةً بنيويةً في الديمقراطية فيما يخص تشريع حقوق الأقليات. فالأغلبية لا ينبغي أن تُحدّد حقوق وامتيازات الآخرين لكون الأغلبية تسعى عادةً في تحصيل احتياجاتها مع إهمال احتياجات الآخرين.

من أبرز الاستفتاءات السويسرية التي انتهكت حقوق أقليات؛ عام 2009، حيث فاز مقترحٌ بحظر بناء المآذن بالأغلبية في الاستفتاء الشعبي. ومع بداية عام 2014، صُعِقتْ أوروبا بقرار تقييد الهجرة الأوروبية إلى سويسرا والذي اتُخِذ بناءً على استفتاءٍ شعبي.

ومن الأشد غرابة أن كانتون “أبينزيل إينرهودن” في سويسرا كافح طويلًا وفشل عبر الديمقراطية المباشرة نفسها في منح المرأة حق التصويت لعشرين سنة، إلى الحد الذي دفع المحكمة العليا في سويسرا للتدخل أخيرًا للسماح بذلك. وتؤثر الأغلبية على المسارات التي تتخذها الحكومة، حتى لو أدت في النهاية إلى نتائج ضارة أخلاقيًا أو معنويًا. وهذا يعني أن على الأقليات أن تعتمد على التدخل الخارجي أو أن ترحل حتى تنال تمثيلًا عادلًا.

 إذا كان المجتمع مقسمًا لمجموعاتٍ مختلفةٍ، فإن المجتمع العادل يمنح لكل مجموعةٍ فسحةً تفي باحتياجاتها الخاصة. إلا أنّ هذا الخيار ليس بالمتاح في الديمقراطية المباشرة؛ فالمجموعات الكبرى هي من تحدد المخرجات السياسية ولذا فإن هذا الشكل من الديمقراطية تروج لإقصاء احتياجات الآخرين.

في الأقليات الانتخابية ليس الأمر بأحسن حالاً

الكانتونات في سويسرا.

إذا ما دققتَ في نظام الحكم السويسري فستكتشف حقيقةً هامة، هي أن السيادة في سويسرا هي للكانتونات أولًا، أما الشعب فقد جاءتْ سيادته -المزعومة- فيما بعد. فالكانتونات هي الطرف الذي يقرر كيفية انتخاب الحكومة والبرلمان. ومن هذا المنطق يمكن للأحزاب الراسخة الاستفادة من هذا الوضع في سبيل إبعاد أي منافسةٍ جديدة.

والطريقة المُتبعة في ذلك هي نظام الأغلبية الانتخابي، أي ينال الفائز بعدد أكبر من الأصوات كل الأصوات! بالإضافة لاعتماد دوائر انتخابية صغيرة لا تمنح إلا عددًا قليلاً من المقاعد للفائز فيها. هذا النظام يكاد يمنع أي حزبٍ مُستجدٍ من الدخول ونيل أي فرصةٍ في الفوز، لتبقى الهيمنة فيه للكيانات السياسية الراسخة. فمثلًا، حتى تكسب ثلاثة مقاعد في دائرةٍ انتخابية، فعليك أن تنال ما لا يقل عن 30% من الأصوات في تلك الدائرة الانتخابية. في هذا الحال، فالصوت الانتخابي الممنوح لممثل حزبٍ صغير لا يساوي شيئًا. وكما يعبر كاتبُ سويسري فيمكن رمي هذا الصوت “في سلة المهملات بدلًا من صندوق الاقتراع”.

خطر العاطفية الشديدة

في الديمقراطية المباشرة، بالرغم من أن الغالبية توجه القرارات، فإن هذا يعني أن الأغلبية لا تصوت على الاختيار الصحيح دائمًا. فالتصويتات تأتي كاستجابةٍ عاطفية للمسائل بدلًا من أن تأتي نتيجة نظرةٍ شاملةٍ ومترابطة للمشاكل المعروضة في المجتمع.

حين يصوت المجتمع وفقًا لعواطفه –لا وفقًا للعقلانية– فإنّه يهدف للإرضاء اللحظي للنفس بدلًا من السعي للبحث عن المنافع طويلة الأمد. وهذه إحدى الأسباب الرئيسية لقلة اعتماد الحكم الديمقراطي المباشر من قبل الحكومات اليوم.

الأساس الفلسفي للديمقراطية المباشرة

تفترض الديمقراطية المباشرة افتراضًا خاطئًا بأنّ رأي كل فرد على المساواة في الجدارة. ونشأ هذا المفهوم من الفلسفة السفسطائية في اليونان القديم، حيث وصف الفيلسوف السفسطائي بروتاغوراس الإنسان بأنّه مقياسٌ لجميع الأشياء، ويعني بذلك أن الأفراد هم من يشكلون الحقيقة، وإذا كان إدراك الأفراد يمثل الحقيقة فإن أفضل سياسة هي أن تأخذ في الاعتبار الحقيقة المشتركة بين الأغلبية.

ونص بروتاغوراس أن كل مواطنٍ بالغ قادر على اكتساب فن السياسة؛ من الحكم المنطقي في شؤون مدينته، ومن ثمّ يصبح لكل مواطنٍ الحق في العضوية ضمن الهيئات التي تقرر في هذه الشؤون.

وصف الكاتب غاربيو بناءً على هذا التفسير بأن الديمقراطية المباشرة غير عملية وغير أخلاقية؛ لما تمنحه من السلطة إلى حكومةٍ من الدُهماء على حساب النظام والأمان [1]. فحكومة الدهماء تلغي عقد لوك الاجتماعي بين المدنيين والحكومة [2]، العقد الذي ينص على مفهوم مقايضة الحرية مقابل الأمان.

ووصف هذا المفهوم بأنّه مثيرٌ للسخرية، فهناك قوى خارجيةٌ تشكل إدراك الأفراد وتتصارع فيما بينها لتشكيل الحقائق بالنّسبة لكل فردٍ، ومن ثمّ يشكّل الأفراد مجموعاتٍ من هذه الحقائق الخارجية ولكل مجموعةٍ مختلفةٍ حقائق مختلفة.

[1] تبيان: حكومة الدهماء (mob rule) هو نظام للحكم من قبل عامة الشعب. وهي حكم ديمقراطي تشوبه الديماغوجيا (استبداد الأغلبية) وتتسم بتحكيم العواطف لا المنطق. (مقتبسة من الويكيبيديا)

[2] تبيان: جون لوك هو فيلسوف تجريبي عقلاني ومفكر سياسي إنجليزي عاش ما بين (1632-1704)، اشتهر بتطويره على نظرية العقد الاجتماعي التي تنصّ على قبول البشر لتقييد حرياتها من قبل السلطة مقابل فرضها للأمان. (مقتبسة من الويكيبيديا) 

المصادر

عبد الوهاب البغدادي

مترجم وصيدلاني

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى