مفاهيم ينبغي أن تُصحح – الجزء الثاني

الحمد لله الذى خلق خلقه أطواراً وصرفهم كيف شاء عزةً واقتداراً والصلاة والسلام على من أُرسل إلى المكلفين إعذاراً منه وإنذاراً وقَال: {هَذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيمًا فَاتَّبِعُوهُ وَلا تَتَّبِعُوا السُّبُلَ} أما بعد:

فقد تحدثنا فى مقالنا السابق عن المفاهيم الخاطئة الطارئة على عقل المسلم المعاصروقد تحدثنا عن أول مفهوم تكلم عنه الشيخ محمد قطب فى كتابه “مفاهيم ينبغى أن تصحح” -مفهوم لا إله إلا الله – وهو من الكتب القيمية التى لايسع المسلم ألا يقرأها ويعى ما بها واليوم نتحدث عن مفهوم العبادة فهذا المفهوم من أخطر المفاهيم التى وقعت فى الإنحرافات بعد مفهوم لا إله إلا الله وحين تلاحظ وتقارن بين المفهوم الشامل الواسع للعبادة الذى كان يفهمه الجيل الأول من المسلمين وبين المفهوم الهزيل الضئل الذى تفهمه الأجيال المعاصرة لا يستغرب كيف هوت الأمة من عليائها لتصبح فى الحضيض الذى نعيشه فهذا المفهوم أخرج لنا خير أمة أخرجت للناس وذاك أخرج لنا غثاء السيل ولكى تعود الأمة ل لا إله إلا الله وتعود لمجدها ورفعتها فلابد من تصحيح المفاهيم يقول تعالى {إِنَّ اللَّهَ لا يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنفُسِهِمْ}

فكان المفهوم الصحيح للعبادة فى حس الأجيال الأولى أن عبادة الله هى غاية الوجود الإنسانى كما فهموا من قوله تعالى {وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالأِنْسَ إِلاَّ لِيَعْبُدُونِ} ففهموا من هذه الآية أن غاية الوجود كله محصورة فى العبادة لا تتعداها إلى شىء غيرها على الإطلاق فالنفى و الإستثناء هما أقوى صور القصر فى اللسان العربى كذلك إحساسهم الصادق بعظمة لا إله إلا الله ومن ثم لم ينحصر مفهوم العبادة فى حسهم فى نطاق الشعائر التعبدية وحدها كما انحصر فى حس الأجيال المتأخرة التى جاءت بفهم بعيد عن الإسلام وفهموا أن الشعائر التعبدية ذات مقتضيات وأنها لا تنتهى بذات نفسها أى بمجرد أدائها إنما تصحبها وتتبعها مقتضيات هى التى تعطيها معناها الحقيقى ومهمتها الحقيقية فى حياة الأمة المسلمة فالكتاب و السنة أعطيا لكل شعيرة لكل من الشعائر التعبدية بعداً نفسياً وسلوكياً لا يقتصر على أدائها بل الأصح أن تقول يبدأ بأدائها ثم يمتد ليشمل مساحة واسعة من حياة الإنسان قال تعالى {وَأَقِمِ الصَّلاةَ إِنَّ الصَّلاةَ تَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَر} وقال أيضاً {الْحَجُّ أَشْهُرٌ مَّعْلُومَاتٌ ۚ فَمَن فَرَضَ فِيهِنَّ الْحَجَّ فَلَا رَفَثَ وَلَا فُسُوقَ وَلَا جِدَالَ فِي الْحَجِّ} وقال أيضاً {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِن قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ} وقال صلى الله عليه وسلم (من لم يدع قول الزور والعمل به فلا حاجة لله بتركه طعامه وشرابه) ويقول أيضاً (رب صائم ليس له من صيامه إلا الجوع والعطش)

كان الصحابة رضوان الله عليهم يقومون بالعبادة وهم يمارسون حياتهم فى شتى المجالات فيسألون أنفسهم هل هم فى موضع يرضى الله أم موضع يسخط الله؟؟ فإذا كانوا فى موضع الرضا حمدوا الله وإن كانوا على غير ذلك استغفروا الله وتابوا إليه {وَالَّذِينَ إِذَا فَعَلُوا فَاحِشَةً أَوْ ظَلَمُوا أَنفُسَهُمْ ذَكَرُوا اللَّهَ فَاسْتَغْفَرُوا لِذُنُوبِهِمْ وَمَن يَغْفِرُ الذُّنُوبَ إِلَّا اللَّهُ وَلَمْ يُصِرُّوا عَلَىٰ مَا فَعَلُوا وَهُمْ يَعْلَمُونَ}

وكان إحساس المسلم فى الجيل الأول بواجبه فى الجهاد فى سبيل الله كإحساسه بواجبه فى الصلاة هنا يعبد الله و هناك يعبد الله ولا تغنى إحدى العبادتين عن الأخرى لأن كل منهما بمفردها لا تحقق المعنى الكامل للعبادة التى يريدها الله وكذلك إحساسه بضرورة الزواج لكى يحصن نفسه من الفاحشة ولكى يتخذ السبيل لتكثير الأمة المسلمة التى تجاهد لإقتلاع الشرك من الأرض ونشر التوحيد وإخراج الناس من عبادة غير الله إلى عبادة الله وإقامة شريعته وإعلاء كلمته فهو كان إحساس العبادة ولا يتناقض فى حسه معنى العبادة مع الإحساس بمتعة الجسد مادامت فى حلال أباحه الله سبحانه وقد قال رسول الله صلى الله عليه وسلم (وَفِي بِضْعِ أَحَدِكُمْ صَدَقَةٌ قَالُوا : يَا رَسُولَ اللَّهِ أَيَأْتِي أَحَدُنَا شَهْوَتَهُ يَكُونُ لَهُ فِيهَا أَجْرٌ؟ قَالَ:أَرَأَيْتُمْ لَوْ وَضَعَهَا فِي الْحَرَامِ أَكَانَ عَلَيْهِ فِيهَا وِزْرٌ؟ فَكَذَلِكَ إِذَا وَضَعَهَا فِي الْحَلالِ كَانَ لَهُ فِيهَا أَجْرٌ) ومن ثم لم يعودوا بعد ذلك يدهشون وعلموا أن نشاط الجسد الطبيعى هو فى الإسلام عبادة مادام يبتغى به وجه الله ويلتزم فيه بطاعة الله وأوامره فحياتهم كلها عبادة تشمل نشاط الروح والعقل والجسد مادام كله متوجهاً إلى الله وملتزماً بما أنزل الله وفى الوقت ذاته عبادة لا تعنت الإنسان ولا تكلفه مالا طاقة له به لأنها تأخذ نشاطه الطبيعى وهذا هو المفهوم الواسع والشامل للعبادة {قُلْ إِنَّ صَلاتِي وَنُسُكِي وَمَحْيَايَ وَمَمَاتِي لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ لاَ شَرِيكَ لَهُ وَبِذَلِكَ أُمِرْتُ وَأَنَاْ أَوَّلُ الْمُسْلِمِينَ}

ونختم هنا بسؤال :على أى صورة ينبغى للمسلم أن يعبد ربه ليحقق غاية وجوده التى خلقه الله من أجلها وحصر فيها غاية وجوده؟؟

أولاً:يعبد الله بتوحيده أى بالإقرار بأنه لا إله إلا الله سبحانه المتفرد بالربوبية و الألوهية المتفرد فى أسمائه وصفاته وأفعاله القادر على كل شىء العالم بكل شىء الواحد الأحد الفرد الصمد المنفرد بالبقاء وكل مخلوق منتهى إلى زواله المقدر للأرزاق والآجال ثم تأتى الشعائر التعبدية فى موضعها بعد الإقرار بلا إله إلا الله فهى التى تربط القلب ربطاً دائماً ومتجدداً بالله وهى محطات التزود التى يتزود فيها الإنسان بالزاد الذى يعينه على بقية الطريق.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى