دور الصين في السياسة الدولية: هل تتبوأ الصين مقعد الدولة الأولى في العالم؟

السياسة الدولية والموقف الدولي

كانت مخرجات الحربين العالميتين الأولى والثانية العامل الحاسم في رسم الموقف الدولي والنظام السياسي المرتبط به طوال عقود من الزمن، توجت أميركا فيه الدولة الأولى في العالم، فيما لعب الاتحاد السوفييتي بقيادة روسيا دور الشريك المناكف لها، بينما تقوقعت الصين على نفسها وانكفأت فاعلية دول أوروبا المحورية تدريجيًا تحت مطرقة التوافق الدولي بين الاتحاد السوفييتي والولايات المتحدة لا سيما إثر اللقاء الشهير بين رئيسي الدولتين نيكيتا خروتشوف وجون كينيدي في فيينا عام 1961.

إلا أن الأحداث الكبرى تسارعت منذ بداية تسعينيات القرن العشرين إلى يومنا هذا، فسقط الاتحاد السوفييتي، وتفكك حلف وارسو، وتوحدت ألمانيا من جديد، وبدأ دورها يبرز أكثر فأكثر من خلال الاتحاد الأوروبي الذي تضخم حجمه سكانيًا وجغرافيًا واقتصاديًا بعد أن ضم العديد من الدول إليه، فيما أعادت بريطانيا تموضعها بخروجها من الاتحاد الأوروبي محاولة فرض نفسها كشريك استراتيجي معه ومع أمريكا في الوقت ذاته، كما خرجت الصين من قوقعتها وبرزت كقوة اقتصادية عملاقة صارت حديث العالم كله، وبات اسمها مطروحًا في الفضاء العام بشكل متزايد كدولة تريد إزاحة أميركا عن مركز الدولة الأولى في العالم.

فهل الصين مؤهلة فعلًا للقيام بهذا الدور في المدى المنظور، وهل لديها مقومات تجعلها قادرة على إعادة تشكيل هيكل العلاقات الدولية بما يسمح لها التأثير في القضايا الدولية بأجندة خاصة بها؟ للإجابة على هذا السؤال، سنتوقف عند أربعة ركائز أساسية يمكن رصدها في دور الصين، تناولتها مراكز الدراسات والأبحاث المختلفة، على رأسها مؤسسة راند الأمريكية (المرتبطة بالمخابرات المركزية الأمريكية) في أكثر من بحث وتقرير حول واقع الصين كتهديد محتمل لأميركا.

الركيزة الأولى: الحفاظ على النظام السياسي للصين بقيادة الحزب الشيوعي

يتحكم الحزب الشيوعي الصيني منذ وصوله إلى السلطة بقيادة ماو تسي تونغ عام 1949 بجميع مؤسسات ومفاصل الدولة الصينية، ويعتبر القائد الفعلي للمجتمع والدولة. بهذا يشكل الحزب الشيوعي العمود الفقري للنظام السياسي الحاكم في الصين، ويجابه أي تهديد لسلطته بقوة وحسم.

واجه الحزب الشيوعي الصيني عبر تاريخه أزمات وتحديات كبيرة، وقد أخفق في العديد منها، لا سيما أثناء محاولته في خمسينيات القرن المنصرم تحويل الصين من بلد زراعي إلى بلد صناعي كبير عبر مبادرة “القفزة الكبرى إلى الأمام”، أو حين خوضه ما سمي “الثورة الثقافية” بين عامي 1966 و 1976، حيث دخلت الصين مرحلة اضطراب اجتماعي حاد كان محورها صراع أيديولوجي عقيم، أجج سعاره مؤسس الحزب ماوتسي تونغ، بعد أن دعا قواعد الحزب للانقلاب ضد “الزعامات البورجوازية” الذين اخترقوا الحزب وجيروه لصالحهم، ما أدى إلى غرق الصين في أتون فوضى عارمة، راح ضحيتها الكثير، قتلًا وتعذيبًا، كادت أن تدخل الصين أثناءها في حرب أهلية لا تبقي ولا تذر.

وللخروج من مآزقه المتتالية، بدأ الحزب يظهر مرونة أكبر في تعامله مع الأحداث، فتبنى عام 1979 “سياسة الإصلاح والانفتاح على الخارج” التي دعا لها زعيم الحزب حينها دنغ شياو بينغ، متبعًا نظرية “اقتصاد السوق الاشتراكي”، كما أخذ الحزب يحدد أهدافًا أكثر عملية وحيوية بالنسبة للشعب الصيني ضمن رؤية براغماتية تهدف إلى تحقيق الأمن الغذائي ومتطلبات العيش الأساسية وتوحيد مختلف القوميات تحت مظلة الحزب في الصين مع إيلاء الاقتصاد الصيني أهمية كبرى.

الركيزة الثانية: الحفاظ على وحدة الصين

تعتبر وحدة الصين قضية مركزية بالنسبة للحزب الشيوعي الحاكم، لذلك فإنه يتعامل بقسوة مع أية نزعة استقلالية أو تهديد محتمل بالانفصال. لذلك عامل أهل تركستان الشرقية (شينجيانغ) بوحشية رهيبة، لا سيما أنها أكبر مقاطعات الصين، وذات أغلبية مسلمة، وتقع بطريق الحرير الاستراتيجي للصين. كما أنها سبق أن حصلت على استقلالها إبان الحرب الأهلية الصينية عام 1944، لكن أعيد ضمها لاحقًا بعدما وصل الحزب الشيوعي إلى السلطة عام (1949)، وهي منطقة ثرية بمصادر الطاقة لا سيما النفط والغاز الطبيعي وخامات اليورانيوم. كذلك مارست الصين سياسات قاسية بشأن إقليم التبت، فقامت باستبدال المقدسات البوذية للدالاي لاما في التبت بصور الرئيس جينغ شي في منازل التبتيين، وتم فرض عقوبات على كل من يظهر التعاطف منهم مع حكومة المنفى أو الدالاي لاما وحركته المنادية بالانفصال عن الصين.

كذلك اتخذت الصين مجموعة من الإجراءات لتحجيم الحكم الذاتي في هونغ كونغ، وبدأت بخطوات عملية لإلغاء مبدأ دولة واحدة بنظامين الذي وقعته مع بريطانيا عام 1997. فقد تم طرح قانون في البرلمان الصيني على منح الحكومة الصينية حق تأسيس أجهزة أمنية فرعية في هونغ كونغ تابعة للحكومة الشعبية المركزية للقيام بمهام من شأنها حماية الأمن الوطني. ما يعني تجاوز سلطة الحكم الذاتي المفروض استمرارها لمدة 50 سنة بموجب الاتفاق المذكور. كذلك أكد الكتاب الأبيض للدفاع الصيني عام 2019 أهمية تايوان بالنسبة للصين، معتبرًا أنها جزء من الأمن القومي الداخلي للصين، تمامًا كحال مقاطعة “شينجيانغ” وإقليم التبت، معتبرًا أن الصين تعتمد مبدأ “إعادة التوحيد السلمي” للجزيرة، لكنه يحذر من استخدام القوة إذا اضطر للحفاظ على الوحدة الوطنية بأي ثمن.

الركيزة الثالثة: الحفاظ على تطوير الاقتصاد الصيني

قدم “جين بينغ” الذي انتخب رئيسًا للصين في 2013 رؤيته عن دور الصين في هذه المرحلة ضمن ما أسماه “الحلم الصيني”، الذي يقوم على التركيز على تطوير الجانب الاقتصادي بوتيرة متصاعدة وبناء دولة حديثة قوية وغنية ومتقدمة. والرئيس جينغ صاحب تجربة طويلة في الحزب والإدارة والدولة، وهو شخصية براغماتية حازمة، أطاح بالعديد من المسؤولين الحكوميين رفيعي المستوى بتهم الفساد، كما عمل بجد على دمج الصين في الاقتصاد العالمي، ووقع الكثير من اتفاقيات التجارة الحرة لتنشيط الاقتصاد، و”عزز دور البنوك الخاصة في البلاد، وسمح للشركات الأجنبية بتداول الأسهم مباشرة في سوق شانغهاي للأسهم. كما أنهى سياسة الطفل الواحد التي كان معمولًا بها قبل عام 2015، ليسمح بذلك للعائلات الصينية بإنجاب أكثر من طفل”.

في هذا الإطار عملت الصين على تأمين متطلبات “الحلم الصيني”، ابتداء من المواد الخام والتكنولوجيا الحديثة وصولًا إلى الأسواق العالمية وبناء خطوط اتصال بحرية وبرية، لذلك قامت ببناء سكة الحديد للقطارات السريعة عبر طريق الحرير الجديد الذي يصل الصين (في شرق آسيا) ببريطانيا (في شمال أوروبا)، وقد وصل أول قطار مباشر لنقل البضائع من الصين إلى لندن مرورًا بكازاخستان وروسيا وبيلاروسيا وبولندا وأوروبا الغربية عبر نفق بحر المانش في عام 2017، ليكمل رحلة طولها 12 ألف كيلومتر.

الركيزة الرابعة: استراتيجية الردع

تعتبر الصين نفسها في هذه المرحلة بمنأى عن الصراعات الساخنة، لذلك تحاول أن تبتعد عن خوض أي حرب عسكرية مع أية جهة دولية، لكنها في الوقت ذاته تعمل على تطوير أدواتها العسكرية على أعلى مستوى ممكن، لتضمن قدرتها في مواجهة أي اعتداء على مصالحها.

ولتبسيط استراتيجيتها في هذا السياق يمكن القول أن الصين تتجنب الدخول في أي صراع من شأنه أن يؤدي إلى حروب عسكرية ابتداء، وفي حال وقوعها تعمل على احتوائها قدر الإمكان وعدم تصعيدها، وفي حال التصعيد، فإنه يكون تصعيدًا منضبطًا وعاقلًا، يبرز قدرتها على المواجهة الفعالة. ولتفعيل هذه الاستراتيجية تقوم الصين بدراسة الأخطار المحيطة بها بشكل مستمر، وبإعداد خطط وافية للتعامل معها، منها إحاطة مصدر التهديد بدراية الصين بما يحاك ضدها واستعدادها لردعه عبر خطوات محسوبة.

أي أنها تحاول أن تدير الأزمات التي تواجهها، بدل أن تخضع لها وتنجر وراءها، فهي ترفض أن تخوض حروبًا عسكرية كردة فعل، حتى لو كانت مضمونة النتائج، لأن من شأن ذلك أن يكون سببًا في عزلة الصين الدولية، فيضر بمصالحها، كما تعول الصين على الاستفادة من أية أزمة تمر بها لتأمين المزيد من المصالح التي تخدم أجندتها.

خلاصة البحث

لقد انتقلت الصين فعليًا نقلات نوعية في مختلف الصعد، رغم هذا، فإن الناظر إلى ركائز الصين الأربعة يجد أنها منصبة على كيفية إنعاش المجتمع الصيني والحفاظ على وحدة الصين وتطوير الاقتصاد الصيني بمنطق تحقيق الاهتمام الداخلي والسيادة الوطنية والاندماج في السوق العالمي، أي أن مركز تنبه الصين هي تطوير الصين نفسها لا تغيير العالم، وهذه ليست بركائز تصنع من الصين دولة تعيد تشكيل النظام الدولي أو تنينًا قادرًا على التهام العالم، فالدولة التي تريد أن تتبوأ مركزًا متقدمًا في العالم، فضلًا عن أن تحل مكان الدولة الأولى، يجب أن تقوم بتأهيل نفسها ضمن رؤية ومرتكزات ومقومات تجعلها تفرض نفسها في المسرح الدولي.

لذلك فإن نقلات الصين النوعية كانت محددة بدور معين، تتعلق بالحفاظ على قيادة الحزب الشيوعي للدولة، وعلى التنمية الاقتصادية المتصاعدة والمستدامة، وعلى وحدة الصين والسيادة الوطنية، كأهداف استراتيجية لا ينبغي الانشغال عنها بغيرها.

كما تدرك الصين أنه ما زالت أمامها تحديات هائلة لتحقيق تلك الأهداف. فهي تدرك بأن الشيوعية باتت فكرة بالية، وأن استمرار الحزب الشيوعي في السلطة لم يعد يعبر عن أيديولوجيا أو حمل رسالة، إنما هو في الواقع من أجل الحفاظ على المكتسبات المتراكمة لقيادات الحزب وكوادره في الدولة، كحزب سلطوي، لا كحزب مبدئي، وللحفاظ على السلطة، لا إيمانًا بالمبدأ، مبررين ضرورة استمراره في كونه أداة ناجحة لتحقيق الحلم الصيني.

وإلا فإن متابعة بسيطة لنمط العيش المستحدث في الصين، يجد أنه بات يندرج ضمن طريقة العيش الرأسمالية الاستهلاكية، كما يوجد في هونغ كونغ نظام ليبرالي رأسمالي ،فضلًا عن توقيع الصين عددًا كبيرًا من معاهدات التجارة العالمية الرأسمالية الحرة، كذلك أدرجت العملة الصينية (اليوان) من قبل صندوق النقد الدولي في 2016 كعملة قابلة للاستخدام الحر كإشارة على تحرر الصين من النظام الاشتراكي، وكوسيلة لإدماجها في النظام الرأسمالي العالمي، ما يجعل الصين بلدًا هجينًا، يوجد فيه أزمة نظام حكم، وأزمة هوية، وأزمة أيديولوجيا، لا بد من حسمها لتحديد دور الدولة وتوجهاتها على الصعيد الدولي.

على صعيدٍ آخر، فإن الصين تفتقد النفوذ الدولي، وإذا نظرنا إلى دورها في القضايا الدولية، فإننا نجده شبه منعدم، ولولا حق الفيتو الذي منحته لها الولايات المتحدة عام 1971 لإبرازها كقوة دولية تتبنى الشيوعية في مواجهة الاتحاد السوفييتي حينها، لما سمع أحد باعتراضاتها أو تحفظاتها في مجلس الأمن. وفي غياب النفوذ الدولي الكبير والجاد، فإن الصين تبقى رهينة التوافق مع الغرب لاستمرارها في النمو الاقتصادي وفي غزو مزيد من الأسواق العالمية، برعاية دول الغرب الكبرى، التي تعرف كيف تستخدم الصين وكيف تحجمها حين تتجاوز الحد المسموح به.

كذلك فإن الصين محاطة بدول قد لا تقل أهمية وقوة، هما روسيا والهند، وعليها أن تجد معادلة تمنحها القدرة على التعاون مع هاتين الدولتين لتحقيق مصالحها، وهذا الشيء قد يكون واردًا نسبيًا مع روسيا، إذ تتقاطع مصالح الدولتين في العديد من الملفات، لكنه مستبعد مع الهند، التي تحاول أن تتبع النموذج الصيني، وتأمل بأن تحل مكانها يومًا ما، أو على الأقل أن تصبح مثلها. إضافة إلى ارتباط الطبقة السياسية في الهند بالغرب وأجنداته بشكل وثيق، لذلك تحركت لدعم انفصال إقليم التبت عن الصين عندما كان مطلوباً منها، ثم انكفأت عن ذلك عندما تغيرت الأجندة الدولية.

المصادر

  1. إعادة تطوير الصين وجيش التحرير الشعبي: الاستراتيجية العسكرية واستراتيجية الأمن القومي، ومفاهيم الردع، والقدرات القتالية، دراسة أعدتها مؤسسة راند للأبحاث.
  2. ما لا تعرفه عن الرئيس الصيني الذي يخطط لإنهاء سيطرة أمريكا علي العالم، موقع الموجز الإخباري.
  3. استراتيجية “تشي” الثورية.. كيف تغير الصين مستقبل الإنترنت في العالم؟، الجزيرة نت.

حسن الحسن

أكاديمي من فلسطين يعمل أستاذاً جامعياً في بريطانيا في مجال العلوم والتكنولوجيا. بكالوريوس هندسة كمبيوتر… More »

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى