هل يمكن لأمريكا أن تتحمل حربًا باردة مع الصين؟

هذا المقال ترجمة لمقال: A Cold War With China Would Be a Mistake لكاتبه: Richard N. Haass. الآراء الواردة أدناه تعبّر عن كاتب المقال الأصلي ولا تعبّر بالضرورة عن تبيان.

ارتفعت العديد من الأصوات في الداخل الأمريكي تُحاجِجُ أن مواجهة الصين يجب أن يكون المبدأ المنظِّم للسياسة الخارجية الأمريكية، تمامًا مثل الحرب الباردة ضد الاتحاد السوفييتي في السابق. لقد كانت علاقة أمريكا مع الصين دائمًا متدهورة، وقد زاد انتشار الكوفيد-19 من حدة التوترات بين أقوى دولتين في العالم حاليًا. لكن حربًا باردة مع الصين لن تكون إلا خطأً استراتيجيًا كبيرًا، بل إنها تعكس عقلية عفا عليها الزمن ترى أن مواجهة القوى الكبرى الأخرى هو التحدي الجوهري للولايات المتحدة الأمريكية. اليوم وفي المستقبل، لن تكون أهم التهديدات التي نواجهها دولٌ أخرى، بل ستكون مشاكل وأزماتٍ داخلية. 

وحتى لو نجحت الولايات المتحدة في مواجهة الصين واحتوائها، فقد يظل أمن بلادنا وازدهارها في تراجعٍ وانحدارٍ بسبب الأوبئة المستقبلية وأزمة تغير المناخ، بالإضافة إلى الهجمات الإلكترونية والإرهاب الدولي، زد على ذلك انتشار الأسلحة النووية أو حتى استخدامها. إن الاستنتاج الذي يجب استخلاصه من أزمة اليوم واضح: تحتاج الولايات المتحدة إلى التركيز ليس فقط على التصدي المباشر لهذه التحديات العالمية، ولكن على تعزيز قدرتها التنافسية وتعزيز قدرتها على مواجهتها بمرونة.

لقد انتشر وباء كوفيد-19، الذي اندلع بدايةً في مدينة ووهان الصينية، في أجزاء كبيرة في الصين لأن السلطات الصينية غطّت على المعلومات حول الوباء، وزادت من ضرره، ورفضت التعاون مع الخبراء الأجانب، وكذلك تباطأت في تطبيق الحجر على ووهان وبالتالي استطاع الكثير من المصابين مغادرة المدينة. ومن أجل هذا، نجد البعض يُطالب بتحميل الصين المسؤولية قانونياً ومحاسبتها ماليًا عن تكاليف الوباء، بينما يُطالب آخرون بتوسيع الوجود العسكري الأمريكي في المحيط الهادئ. 

من المؤكد أن الصين تتحمل الجزء الأكبر من المسؤولية على انتشار الوباء، ولكن من المؤكد أيضًا أن بكين لا تتحمل مسؤولية افتقارنا إلى معدات الحماية، وعدم قدرتنا على إجراء اختباراتٍ كافية في وقت سريع، في وقتٍ حققت فيه المجتمعات الأخرى -مثل تايوان، كوريا الجنوبية، سنغافورة وألمانيا- أداءً أفضل بكثير. إنني أرى أننا سنكون أكثر حِكمة إذا اخترنا التمسك بالمثل القائل: “الطبيب يداوي نفسه” عوض إلقاء اللوم على الصين. 

ولكن لا يجب -في الوقت نفسه- أن نُسيء فهم أهداف السياسة الخارجية الصينية، ففي عام 2017، وصفت استراتيجية الأمن القومي لإدارة ترامب الصين بأنها قوة تُريد “تقويض أمن وازدهار الولايات المتحدة” وتسعى إلى “تشكيل عالمٍ يتعارض مع القيم والمصالح الأمريكية”، وقد أخذ البنتاغون هذا الرأي إلى أبعد من ذلك، فقد وصف الصين في عام 2018 بأنها “منافس استراتيجي تسعى إلى الهيمنة الإقليمية على المحيط الهندي والمحيط الهادئ، وتسعى إلى تجريد الولايات المتحدة من السيادة العالمية في المستقبل”.

إن هذه التقييمات -في واقع الأمر- تُبالغ وتهول من طموحات الصين وقدراتها. إن انشغال الصين الاستراتيجي، كما يوضح كتابها الأبيض لعام 2019، هو الحفاظ على وحدة أراضيها واستقرارها الداخلي. كما تخشى بكين أن يؤدي نجاح أي حركة انفصالية داخل البلاد إلى إلهام حركات أخرى، ثم في نهاية الأمر، إلى تفكك البلاد أو فقدان الحزب الشيوعي لسُلطَتِه.

علينا النظر إلى الصين على أنها قوة إقليمية تسعى إلى تقليل نفوذ الولايات المتحدة في فنائها الخلفي وزيادة نفوذها مع جيرانها. إن بكين لا تسعى إلى قلب النظام العالمي الحالي، وإنما تسعى إلى زيادة نفوذها داخله. على عكس الاتحاد السوفييتي، لا تسعى الصين إلى فرض نموذجها على الآخرين في جميع أنحاء العالم أو إلى السيطرة على السياسات الدولية في كل ركن من أركان العالم. وحتى عندما تصل الصين إلى مناطق أبعد، تكون أهدافها -عادة- اقتصادية في المقام الأول.  

تواجه الصين عوائق عديدة في محاولتها توسيع نفوذها، لقد انتهى عصر النمو الاقتصادي، وسعي الزعيم الصيني في توطيد حكمه جعله عرضةً للعديد من الأزمات والتحديات الجديدة، ليس بسبب تباطؤ النمو الاقتصادي فحسب، وإنما أخطائه السياسية كذلك، كتعامله مع الكوفيد-19. كما أن على الصين التعامل مع المشكلات البيئية الخطيرة والأزمة الديمغرافية التي تلوح في الأفق بسبب شيخوخة السكان. 

بالطبع، تشكل الصين تهديدًا فعليًا ومحتملًا، لكنه تهديدٌ يمكن معالجته دون جعل الصين النقطة المحورية المنظمة للسياسة الخارجية الأمريكية. بعض التنافس الاستراتيجي بين الولايات المتحدة والصين أمر لا مفر منه، بل يجب على الولايات المتحدة أن تتصدى للصين عند الضرورة للدفاع عن المصالح الأمريكية في بقاع العالم. ولكن يجب أن تبقى المنافسة محدودة قدر الإمكان وأن لا تأخذ أبعادًا أخرى؛ أبعادٌ قد تمنع التعاون مع الصين في المجالات ذات المصالح المشتركة. 

ماذا يعني هذا عمليًا؟

ينبغي على الولايات المتحدة انتقاد الصين وتعامُلِها مع تفشي الكوفيد-19 كما عليها أن تسعى لإجراء تحقيقات دولية. ولكن على واشنطن -في الوقت نفسه- أن تكون في طليعة العمل من أجل تحقيق الإصلاحات اللازمة في منظمة الصحة العالمية حتى تدرك الصين -مع كل دولة أخرى- التزاماتها والتكاليف التي ستتكبدُها إذا فشلت في الوفاء بها. 

يجب علينا أيضًا إعادة التفكير في نهجنا التجاري مع الصين. لا تزال -بالطبع- التجارة الثنائية تخدم المصالح الاقتصادية والاستراتيجية الأمريكية، لكن علينا أن نعرف شيئين: يجب أن نصبح أقل اعتمادًا على الصين (أو على أي مورد أجنبي آخر) للمواد والمنتجات -التي نعتبرها- ضرورية، ويجب حماية التكنولوجيا والأسرار سواء الحكومية أو التجارية. 

يشعر بعض النقاد بالإحباط -إذا ما رأوا- أن دمج الصين في الاقتصاد العالمي ومنظمة التجارة العالمية لم يؤد إلى الإصلاحات السياسية والاقتصادية المرغوبة، لكن علينا أن نتذكر أن هذا لم يكن ضمن أهدافنا. من غير الوارد أن يتم تغيير النظام السياسي الصيني المنغلق على نفسه بشكلٍ جذري في المستقبل القريب. ومع ذلك، كان التعاون الاقتصادي ولا يزال مفيدًا؛ فهو يمنح الصين حصة في الاستقرار الآسيوي، كما يُعتبَر سببًا آخر لعدم استخدامها القوة العسكرية ضد جيرانها. 

ولكن لا ينبغي لأي من هذا أن يمنع الولايات المتحدة من انتقاد الصين لانتهاكها التزاماتها القانونية: كاحتِرام الحكم الذاتي لهونج كونج أو قمعها لأقلية الأويغور المسلمة. ومع أنه لا يمكننا ولا يجب أن نحاول منع تطور الصين وازدهارها وصعودها، إلا أن تحركنا سيكون واجبًا إذا كان صعودها هذا سيهدد مصالحنا في آسيا. وبالنظر إلى القوة العسكرية المتنامية للصين، وقربها من حلفاء الولايات المتحدة وشركائها في آسيا، يجب أن نحدد مقياس نجاحنا من حيث تمكننا من الحيلولة دون استخدام الصين لقوتها ضد جيرانها.

يجب على الولايات المتحدة أن تستمر في إعلان حقها في الإبحار عبر المياه التي تدعي الصين -مخالفة للقانون الدولي- أنها ملكٌ لها. ويجب علينا تعزيز علاقاتنا مع اليابان وكوريا الجنوبية وفيتنام والهند وأستراليا وتايوان وغيرها، حتى إن عنى هذا تجنب إجبارهم على الاختيار بيننا وبين الصين. يجب أن يكون هدفنا العام هو صياغة إطار عمل يوضح للصين أن الإجراءات العدوانية من جانبها لن تفيدها، وأن مصالحها، في أغلب الأحيان، ستُخدم بشكلٍ أفضل من خلال التعاون معنا. 

مع انهيار الاتحاد السوفييتي عام 1991، فقدت السياسة الخارجية الأمريكية ثباتها. وبعد ثلاثة عقود، لا تزال الاستراتيجية الأمريكية تفتقر إلى اتجاه ثابت، ولكن لا ينبغي أن تحاول العثور على اتجاه من خلال إحياء سياسة الاحتواء التي انتهجتها في الحرب الباردة. الصين ليست هي الاتحاد السوفييتي، والعالم الذي تصوغه العولمة يحتاج تفكيرًا استراتيجيًا جديدًا. 

كودري محمد رفيق

من الجزائر، أكتب في الدين والفكر والتاريخ، أرجو أن أكون مِن الذين تُسدُّ بهم الثغور.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى