خروج بريطانيا المتعسر من العائلة الأوروبية

بدأت اللمسات الأخيرة للفراق البريطاني-الأوروبي تتضح في تعاملات الجانبين الراهنة، وكانت أحدث هذه الحلقات هي إعلان مايكل جوف وزير شئون مجلس الوزراء البريطاني أن بلاده لن تمدد الفترة الانتقالية مع الاتحاد الأوروبي لما بعد الموعد المقرر له في الحادي والثلاثين من ديسمبر المقبل.

جاء رد جوف خلال لقائه مع رئيس المفوضية الأوروبية الجديد ماروس سيفكوفيتش ومفاوض الاتحاد الأوروبي لبريكست ميشيل بارنييه، وذلك في لقاء رسمي بين جوف وضيفيه الأوروبيين في العاصمة البريطانية لندن في الثاني عشر من يونيو الجاري ضمن اجتماعات اللجنة الأوروبية-البريطانية المشتركة.

وفي المؤتمر الصحفي الذي تلا اللقاء أكد بارنييه أن بروكسل ولندن اتفقتا على تسريع وتيرة مغادرة بريطانيا للتكتل الأوروبي خاصة بعدما أعلن جوف في وقت سابق أن بلاده لن تجتمع ثانية مع الأوروبيين وستكتفي بتقديم بروتوكول حول شكل العلاقات التجارية مع أوروبا وجمهورية أيرلندا منعًا لحدوث أية خلافات مستقبلاً.

هذا وقد تسنى لبريطانيا المضي قدمًا في مغادرة العائلة الأوروبية عقب تمكن بوريس جونسون من العودة لمقر عمله في 10 داوننج ستريت بعدما فاز في انتخابات الثاني عشر من ديسمبر من العام الماضي بفارق مريح عن جيريمي كوربن خصمه الأبرز وزعيم حزب العمال، وهكذا تمكن لجونسون من السير قدمًا في إجراءات خروج بريطانيا من الاتحاد الأوروبي التي حددها في البداية نهاية ديسمبر 2019.

غدا الانفصال بين بريطانيا والاتحاد الأوروبي واقعًا لا يمكن إنكاره عقب استفتاء الثالث والعشرين من يونيو 2016 الذي وافق خلاله اثنان وخمسون في المائة من البريطانيين على مغادرة بيت العائلة الأوروبية بعدما شعروا أنه يكبلهم بأعباء هم في غنى عنها مثل فرض حصة من اللاجئين غير الشرعيين على حكومة ديفيد كاميرون وتزايد عدد العاملين الأوروبيين في بريطانيا على حساب نظرائهم البريطانيين وأخيرًا التكلفة الباهظة لعضوية بريطانيا في الاتحاد والتي بلغت سبعة وأربعين مليار دولار سنويًا.

مع حلول الانتخابات النيابية عام 2015 اشترط البريطانيون على ديفيد كاميرون حال فوزه برئاسة الوزراء مجددًا إجراء استفتاء حول بقاء المملكة المتحدة في الاتحاد الأوروبي أو مغادرته، وما إن أعيد انتخاب كاميرون لرئاسة بريطانيا حتى أوفى الرجل بتعهده وعقد الاستفتاء لكن لم يتوقع كاميرون بالمرة وقوع الانفصال مع أوروبا خاصة مع تقارب نسب المؤيدين والمعارضين للخروج من الاتحاد الأوروبي.

احترم كاميرون قرار الشعب لكنه رفض البقاء في منصبه لأنه كان يود البقاء في الاتحاد الأوروبي لما له من فوائد للبريطانيين على كافة الصعد “من وجهة نظره”، وأعلن رئيس الوزراء البريطاني صباح الرابع والعشرين من يونيو 2016 استقالته من رئاسة الحكومة ملقيًا الكرة في ملعب الحزب لاختيار من سيقود سفينة الانفصال.

أسفرت الانتخابات الداخلية للحزب عن فوز تيريزا ماي وزيرة الداخلية في عهد كاميرون برئاسة الوزراء، وكما توقع الخبراء تسببت الانقسامات الداخلية في الحزب الحاكم في خوض الحزب انتخابات مبكرة منحته أغلبية بسيطة وشرعت ماي في البدء بإجراءات الخروج من أوروبا.

أبلغت الحكومة البريطانية رئاسة الاتحاد الأوروبي بنيتها مغادرة الاتحاد كما تنص المادة 50 من ميثاق تأسيسه وذلك في التاسع والعشرين من مارس 2017، لكن ما أن بدأت النقاشات حول سبل الخروج باتفاق مع أوروبا يحفظ مصالح الجانبين حتى بدأت الأمور تتعقد وحل وزير الخارجية بوريس جونسون محل تيريزا ماي في رئاسة الوزراء.

صادف جونسون العثرة الأولى في طريق القطيعة مع أوروبا بوفاة أحد نواب الحزب ما أجبره على إجراء انتخابات مناطقية في دائرة النائب المتوفى لاختيار خليفته، وكانت المفاجأة المدوية بفوز نائب عمالي أي من المعارضة بمقعد النائب المحافظ ليفقد حزب المحافظين الحاكم الأغلبية النيابية في مجلس العموم ويصبح تمرير أي اتفاق للخروج من أوروبا أصعب من ذي قبل فزاد ذلك من اقتناع جونسون بصواب رأيه بمغادرة أوروبا حتى دون الاتفاق مع قادتها.

استبق جونسون تنفيذ قراره المتهور بالإيعاز لستيف باركلي الوزير المسؤول عن مغادرة الاتحاد الأوروبي -والمعروفة في المملكة المتحدة بالبريكست- في التاسع عشر من أغسطس 2019 بوقف تنفيذ القوانين الأوروبية في بريطانيا، وفي العشرين من أغسطس فجّر جونسون مفاجأة جديدة.

صرح جونسون أن البند الذي قبلت به ماي بالبقاء في اتحاد جمركي واحد مع أوروبا لضمان عدم انفصال أيرلندا الشمالية عن التاج البريطاني مرفوض لأنه سيقوض السيادة البريطانية لأنه سيربطها بالقوانين الأوروبية بالرغم من تركها للاتحاد كما سيهدد وحدة أراضيها خاصة مع تلويح الأيرلنديين الشماليين بالانفصال عن بريطانيا فور مغادرة الأخيرة للاتحاد الأوروبي كون مواطنو البلاد سيفقدون ميزات الوحدة الأوروبية، فماذا يجبرهم على البقاء؟

وفي الحادي والعشرين من الشهر نفسه أكد جونسون إصراره على تنفيذ تعهده وأصدر قراراً آخر يقيد تنقلات البريطانيين داخل القارة العجوز وأجرى محاولة لتعديل الاتفاق الذي صاغته ماي مع الأوروبيين بزيارة للعضوين الأهم في الاتحاد ألمانيا وفرنسا.

زار بوريس جونسون العاصمة الألمانية برلين في الحادي والعشرين من أغسطس والتقى المستشارة الحديدية أنجيلا ميركل عارضًا عليها صياغة اتفاق جديد بين بروكسل حيث مقر الاتحاد الأوروبي ولندن يرسم العلاقات بين الجانبين بعد ترك بريطانيا الاتحاد، وقد كان مفاجئًا للخبراء السياسيين موافقة ميركل على منح حكومة جونسون ثلاثين يوماً –أي شهر- لتصوغ بريطانيا اتفاقًا بديلاً لاتفاق ماي يأخذ بعين الاعتبار وضع أيرلندا الشمالية الشائك كون ألمانيا وفرنسا معروفتين بتشددهما حول خروج البريطانيين من أوروبا.

توجه بوريس جونسون في الثاني والعشرين من أغسطس إلى باريس للقاء الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون آملاً في الحصول على موافقة مماثلة لتلك التي حصل عليها من الألمان واستبق جونسون لقاءه مع سيد الإليزيه بتذكير شعبه بمضيه في قرار المغادرة ولو بدون اتفاق، وخلال مباحثاته مع ضيفه البريطاني كان ماكرون صارمًا في رفضه صياغة اتفاق جديد مع الحكومة البريطانية مؤكدًا أنه لا إعادة تفاوض مع الاتحاد الأوروبي حول الاتفاق مع حكومة تيريزا ماي ولا حول شبكة الأمان مع أيرلندا الشمالية لأنه -أي الاتفاق- من وجهة نظر ماكرون هو الحل الأمثل لعلاقات الأوروبيين والبريطانيين بعد الانفصال.

عاد بوريس جونسون إلى بريطانيا يجر أذيال الخيبة، ودفعه ذلك للعب ورقته الأخيرة وهي تعليق عمل البرلمان ليجبر البريطانيين من أنصار الانفصال عن أوروبا على القبول بالخروج دون اتفاق، لكن قراره ووجه باعتراضات من داخل حزبه ومن المعارضة على حد سواء وصلت لاعتصام النواب داخل مجلس العموم وإعلان واحد وعشرين نائبًا محافظًا اعتراضهم على قرار جونسون الاستبدادي ما دفع الأخير لفصلهم من الحزب فانضموا لحزب الليبراليين المعارض واضطر جونسون في نهاية المطاف للعدول عن قراره.

استمرت رحى الأزمة في الدوران خاصة مع اتصال جونسون العاصف مع أنجيلا ميركل في الثامن من أكتوبر الذي اعتبرته ميركل محاولة جديدة من رئيس الوزراء البريطاني للتملص من التزاماته، وخلال مباحثاته مع دونالد توسك رئيس المجلس الأوروبي الذي اتهم جونسون بخوض حرب حمقاء لإلقاء اللوم على الاتحاد الأوروبي في فشل الاتفاق مع بريطانيا، لكن الأوضاع تبدلت بعد مفاوضات جونسون مع توسك وجان كلود يونكر رئيس المفوضية الأوروبية التي استمرت بين الحادي عشر والسادس عشر من أكتوبر 2019.

فللمرة الأولى منذ توليه رئاسة الحكومة البريطانية عاد بوريس جونسون من بروكسل باتفاق جديد بدلًا من ذلك الذي صاغته رئيسة الوزراء السابقة تيريزا ماي وفشلت في تمريره بمجلس العموم البريطاني ما اضطرها للاستقالة وإجراء انتخابات مبكرة دفعت بجونسون إلى صدارة المشهد السياسي في بلاد الضباب.

تنفس جونسون الصعداء بعد ذلك الاتفاق الذي ظفر به قبل فترة قصيرة من موعد مغادرة بريطانيا للاتحاد الأوروبي والتي حددها رئيس الوزراء الأهوج شبيه ترامب بالحادي والثلاثين من أكتوبر 2019، وهدد خلالها البريطانيين شعبًا ونوابًا ووزراءً في حكومته أنه سيغادر العائلة الأوروبية في ذلك التاريخ سواء كان ذلك باتفاق بين الجانبين أو بدونه وهو ما أعلنت المعارضة البريطانية متمثلة في حزب العمال رفضها له كونه إذا نفذ سيجعل العلاقة المستقبلية بين بريطانيا وأوروبا ضبابية.

وبعد جهد جهيد حصلت حكومة جونسون على موافقة مجلس العموم على اتفاق مغادرة أوروبا الأخير يعد تطمينات حول بندين جدليين الأول يسمح بوجود حدود بحرية بين جمهورية أيرلندا التابعة للاتحاد الأوروبي وأيرلندا الشمالية التابعة للتاج البريطاني والثاني على موافقة بريطانيا على التزام أيرلندا الشمالية بحدود جمركية مع أوروبا وأخرى مع بريطانيا، وذلك في الخامس عشر من يناير 2020.

في الحادي والثلاثين من الشهر نفسه رفع العلم البريطاني من مقر الاتحاد الأوروبي في بروكسل لتنهي بذلك سبع وأربعون سنة من عضوية بريطانيا داخل الأسرة الأوروبية، غير أن التفاوض على ما بعد الخروج ظل سيد الموقف خاصة مع تعهد حكومة جونسون بتقديم اتفاق للتجارة بين بلاده ودول الاتحاد والأهم من ذلك جمهورية أيرلندا.

وأياً كانت النتائج المترتبة على مغادرة أوروبا، فاليمين البريطاني الحاكم يفرك يديه فرحًا بعدما انكفأ على ذاته وترك القارة العجوز تواجه مشكلاتها بعيداً عنه.

كتبه: د. أحمد زكي

المصادر

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى