“بريكست” تطرح سؤالًا: هل تصلح الديموقراطية؟

كانت بريطانيا على موعد مع استفتاء يوم الجمعة، 23 يونيو، حول البقاء في الاتحاد الأوروبي أو الانفصال عنه. وقد قرر الشعب البريطاني الخروج من الاتحاد بنسبة 52% من الأصوات. فيم تخطت نسبة التوصيت في الاستفتاء ال 72 %. وهي أعلى نسبة تصويت شهدتها الدولة الديموقراطية العتيدة منذ 1992. نعرض في هذا المقال أسباب عمل الاستفتاء، وكيف خرجت النتيجة بهذا الشكل. وكيف أثارت تلك النتيجة الجدل في الصحف العالمية ومراكز الفكر بخصوص جدوى الديموقراطية وصلاحيتها. وكذلك الخوف من تصاعد النزعة القومية في أوروبا مهددة بتشرذمها كالسابق.

لماذا أُقيم الاستفتاء؟

بريطانيا هي إحدى الدول العُظمى في الاتحاد الأوروبي حيث انضمت له عام 1973. ومنذ أن انضمت بريطانيا للاتحاد وتمرُّدها عليه وسعيها للتغيير فيه معروف لجميع المتابعين. حيث كانت تنظر له بجوانبه السلبية -القليلة نسبيًا- دون النظر لايجابياته عليها، ودون النظر للاستثناءات الكثيرة التي يعطيها الاتحاد لها دون باقي الدول. فقد كان البريطانيون يرون أن بريطانيا لم تعُد لهم، حيث صارت تضم الكثير من الأوروبيين الغير بريطانيي الأصل. ويرون أن بريطانيا لم تعُد دولة ذات سيادة لأن قوانينها -خصوصًا الإقتصادية- لم يعُد يضعها بريطانيون مُنتخبون، بل يضعها أولئك الأوروبيون غير المنتخبون في بروكسل، عاصمة الاتحاد الأوروبي. هذا غير اعتقادهم بأن بريطانيا تقدم معونات اقتصادية للاتحاد وهُم أولى بها.

دعاوى الانفصال

http://gty.im/182640312

ظهرت دعاوى بين أعضاء حزب المحافظين وحزب الاستقلال تنادي بالانفصال عن الاتحاد الأوروبي. فقرر دايفيد كاميرون أن يستغل هذه الدعاوي لجذب مزيدٍ من الأصوات لحزبه. حيث وعد بأنه إذا فاز حزبه -حزب المحافظين- في الانتخابات البرلمانية في 2015 فإنه سييقيم استفتاءً شعبيًا حول البقاء في الاتحاد. وقد فاز كاميرون في الانتخابات بالفعل وخرج بعدها مؤكدًا على تحقيق وعوده التي أطلقها.

الفوائد والخسائر التي ستصيب بريطانيا بسبب خروجها من الاتحاد:

كانت النخبة الداعية إلى الخروج من الاتحاد تروّج أنه من أحد مميزات الخروج هو التخلص من القيود الكثيرة التي يضعها الاتحاد أمام نمو الاقتصاد البريطاني. برغم أن بيانات منظمة التعاون الاقتصادي توضّح أن الاقتصاد البريطاني هو أقل اقتصاد تُفرض عليه قيود في العالم. وبالرغم من أن الاتحاد قام باستثناء بريطانيا من عدة قوانين تنظيمية لم يقدمها لغيرها.

كما أن خروج بريطانيا من الاتحاد يعني خروجها من السوق الأوروبي الضخم. والعودة فيه ستتطلّب رحلة مفاوضات بينها وبين الاتحاد قد تستغرق وقتا طويلا للوصول لشروط ترضي الطرفين، مما يضر بالاقتصاد البريطاني. وقد تقرر بريطانيا دخول المنطقة الاقتصادية الأوروبية كدولة غير عضو في الاتحاد الأوروبي مثلما فعلت ايسلندا وذلك سيكون له ضررين:

الأول

أن الدول غير الأعضاء في الاتحاد لا تشارك في وضع قوانين المنظمة لعمل المنطقة الاقتصادية، وبالتالي فلا زال من يضع قوانين التجارة لبريطانيا هم غير البريطانيين الغير منتخبين.

الثاني

أن 80% من قواعد المنطقة الاقتصادية هي القواعد المفروض على الدول الأعضاء في الاتحاد. وعليه يكون أسباب الخروج التي ساقتها النخبة أسباب واهية لا تنتفي بتحقق الخروج من الاتحاد، ولا تكون بريطانيا قد حققت شئ من خروجها سوى أنها أضرت بمصالحها ومصالح باقي أوروبا.

ويمكن أن يحدث ما هو أسوأ، حيث قد تفقد بريطانيا التجارة الحرة. وقد يتسبب ذلك في خسارة في الناتج المحلي تتراوح بين 0.6% و 3% لكل فرد، بإجمالي خسارة 224 مليار جنيه استرليني.

تُعد لندن أكبر مقدم للخدمات المالية في أوروبا، وذلك لاعتماد البنوك والمصارف العالمية على “حق جواز السفر” من خلالها. حيث ينشأون فرعًا في المدينة يسمح لهم بالوصول للسوق الأوروبية كلها. وبالطبع مكانة لندن في عالم الخدمات المالية  ستتأثر سلبًا بالخروج وقد تتوقف بعضها. وقد تهبط الخدمات المالية في لندن إلى 50% من الخدمات المقدمة حاليا بخسارة نحو 10 مليار جنيه استرليني.

أما موضوع إلزام بريطانيا، كغيرها من دول الاتحاد، بأن تقدّم مساعدات اجتماعية للمهاجرين إليها من دول الاتحاد فقد تم استثناؤها من هذا الالزام في جملة الاستثناءات التي أعطيت إياها. كل ذلك كان من الناحية الاقتصادية.

من الناحية السياسية

http://gty.im/537566174

بريطانيا نفسها أصبحت معرضة للانقسام؛ حيث لم توافق ال 4 بلدان المكوّنة للملكة المتحدة على الخروج. بل صوتت كل من اسكتلندا وأيرلندا بأغلبية على البقاء في الاتحاد. وقد خرجت رئيسة وزراء اسكتلندا “نيكولا سترجون” بعد إعلان نتيجة الاستفتاء، مصرّحة بأن اسكتلندا ترى مصلحتها في البقاء مع الاتحاد الأوروبي، ممهدة بذلك لإقامة استفتاء للانفصال عن بريطانيا وتقديم طلب للانضمام للاتحاد من جديد.

وبرغم أن الاستفتاء ما كان ليحدث لولا وعد كاميرون به، إلا أن كاميرون نفسه جمع معارضي الخروج من الاتحاد من الوزراء وأعضاء الأحزاب وقاد حملة للبقاء في الاتحاد. كما أنه دخل في مفاوضات مع بروكسل جلب فيها لبريطانيا المزيد من الاستثناءات وحقق المطالب التي سعت ورائها بريطانيا من قبل، محاولا القضاء على أسباب الخروج التي يرفعها البعض وموجدًا حلولا لها.

هذه هي النقاط التي منحها الاتحاد لبريطانيا قبل الخروج:

  1. بعض قوانين الاتحاد الأوروبي لا تُفرَض بالضرورة في المملكة المتحدة، بل تختار هي ما ترغب في إقراره من قوانين الاتحاد.
  2. يحق لبريطانيا ألَّا تُقدِّم مساعدات اجتماعية كاملة للمهاجرين إليها من دول الاتحاد الأوروبي.
  3. يحق لبريطانيا ألا تتعامل بالعملة الأوروبية الموحَّدة (اليورو).
  4. تتمتَّع بريطانيا بسياسات مالية ومصرفية متحررة من قيود البنك المركزي الأوروبي.
  5. بريطانيا ليست جزءًا من منطقة الشنجن (بناء على طلبها).
  6. تستعيد بريطانيا ثلثي المساهمات التي تقدمها للاتحاد الأوروبي لأنها لا تستفيد من الدعم الذي يقدمه الاتحاد للزراعة مثل الدول الأخرى.

كل الدراسات والتحليلات تشير إلى أن خروج بريطانيا من الاتحاد سيضر ببريطانيا اقتصاديا وسياسيا وسيضر بالاتحاد كذلك، وقد كتب «دريزنر» متعجبا في تقريره على موقع “فوكس” الأمريكي:

أنه -أثناء الاستفتاء- لم يُرَ أي خبير معروف يجزم بأن خروج بريطانيا من الاتحاد الأوروبي سيكون مفيدًا من الناحية الاقتصادية، ومع ذلك قرر الناخب البريطاني الخروج

انتقاد فكرة إقامة الاستفتاء وانتقاد الديموقراطية نفسها

http://gty.im/542751602

الأحزاب السياسية

حينما عزم كاميرون على تحقيق وعده بعمل الاستفتاء، قامت صحف أوروبية وأمريكية وعالمية بانتقاده لأنه قد يسبب أزمة للقارة الأوروبية بكاملها. وكذلك نالت فكرة إقامة الاستفتاء نقدًا واسعًا من أحزاب ليبرالية وديموقراطية، كحزب “الديمقراطيين” الأحرار على سبيل المثال حيث صرّح زعيم الحزب بأن

الاقتصاد البريطاني قد يؤذي نفسه إذا انفصلت بريطانيا عن الاتحاد الأوروبي، وإن الخطوة قد تهدد تعافي الاقتصاد

واتهم الكثير من أعضاء حزب المحافظين – حزب كاميرون- وحزب الاستقلال البريطاني بأنهم يسعون إلى فصل إنجلترا عن “أكبر سوق في العالم”. وتبدو تصريحات “الديموقراطيين” غريبة؛ حيث كان من المتوقع أن يؤيدوا قرار الاستفتاء لأنه يحقق قيمة الديموقراطية في حكم الشعب البريطاني لنفسه وتطبيق ما يقبله الشعب -كل الشعب- وعدم تطبيق ما لا يقبله أيًا كان. إلا أن ردود أفعالهم جاءت مخالفة للتوقعات ولقيمة الديموقراطية نفسها.

الصحف العالمية

أما الصحف الأمريكية فقد هاجمت الإعلام البريطاني على توجيهه للشعب لتأييد الانفصال بدلا من توجيهه للتصويت للبقاء، موضحة أن الأفضل للعالم ولبريطانيا نفسها هو البقاء. ومعترفة ضمنيا بأن الديموقراطية لا تحقق حكم الشعب، وإنما حكم القلّة القليلة التي تتحكم بوسائل الإعلام وتملكها وتوجّه الجماهير من خلالها.

أما الصحيفة الفرنسية “ليبيراسيون” فقد هاجمت الشعب البريطاني نفسه واصفة إياه بالشيخوخة، حيث نشرت:

المواطن البريطاني يرفض المشروع الأوروبي بقدر فقره وتقدمه في السن

كما وصفت صحيفة “الموندو” الاسبانية عمل الاستفتاء بأنه “كارثي” ووصفت كاميرون بأنه “السبب وراء هذه المصيبة”.

كذلك انتقدت الصحف الألمانية الاعتماد على الديموقراطية في اتخاذ قرارات ذات تأثير عالمي كهذا؛ لأنها تُسوّي بين العواجيز وبين الشباب في اتخاذ قرارات سيتحمل عبئها الشباب. حيث قالت صحيفة (زود دويتشي):

كبار السن يحددون مستقبل الشبان الذين سيعانون من تبعات الخروج

موضحة من خلال بيانات الاستفتاء، أن كبار السن هم من حسموا النتيجة، إذ صوت ثلاثة أرباع من الشباب لصالح البقاء، بينما صوت العجزة فوق ستين سنةً بأغلبية ضد البقاء. كما أرجعت الصحيفة البولندية (فيبورجا) السبب في هذه النتيجة ل”إتباع الأنانية الوطنية”.

انتشار النزعات القومية والوطنية في أوروبا يثير تخوّفات صنّاع القرار ويُنذر بعودة أوروبا إلى نقطة الصفر

http://gty.im/530547272

الدولة القومية

تناولت مراكز فكر وصحف مختلفة هذا القرار تناولا مختلفًا، حيث تغاضوا عن تحليل سلبيات القرار واتجهوا لتحليل أسبابه القيمية التي أدت إليه وحذّروا منها. حيث اتفقت على أن السبب هو انتشار أفكار اليمين المتطرّف وانتشار النزعة القومية والوطنية بين الشعب البريطاني. فالاتحاد الأوروبي يقوم على إلغاء القوميات بين دول أوروبا ويوحّدهم على كونهم أووربيين في كيان أكبر وأشمل من الدولة القومية أو من الدولة الوطنية. وهذا هو السبب الذي صرّح الكثير من البريطانيين به أنه دافعهم لتأييد الخروج؛ عدم تقبّلهم للمهاجرين إليهم من داخل أوروبا نفسها وعودة بريطانيا العظمى لسابق عهدها. وقد أُشير إلى أن خروج بريطانيا قد يعزز من موقف القوميين والوطنيين في فرنسا وألمانيا وإيطاليا وباقي أوروبا ويدفعهم للمطالبة باستفتاء للخروج من الاتحاد. مما سيترتب عليه – فضلا عن الآثار الاقتصادية- عودة الدولة القومية داخل أوروبا التي كانت سببا في حروب لم تنتهي إلا بعد حربين عالميتين وانتهاء الدولة القومية في أوروبا.

وبالفعل ربما قبل أن تنشر الصحف ومراكز الفكر تقاريرها عن هذه الأسباب، كانت الأحزاب في الدول الأوروبية الأخرى قد طالبت بأن تحزو حزو بريطانيا وتقوم بعمل استفتاء في بلدانها. فقد خطبت الزعيمة الفرنسية “مارين لوبان” زعيمة حزب الجبهة الوطنية في حشد من الأحزاب في فيينا، واصفة ما حدث في بريطانيا بأنه “انتصار للحرية” ومؤكدة أن فرنسا لديها 1000 سبب فوق أسباب بريطانيا تجعلها تخرج من الاتحاد. وكذلك خرجت دعوات من زعماء أحزاب شعبية في إيطاليا والسويد وبولندا وهولندا والنمسا وألمانيا واليونان بعمل استفتاءات شعبية للانفصال.

هدم الديموقراطية

أصبحت الديموقراطية، في ظل انتشار النزعات القومية والوطنية في الغرب، قابلة للنقد والطعن والتصريح بعدم صلاحيتها. بعد أن كانت صنما صوّر للناس أنه هو العدل المُطلق وأنه أفضل طرق الحكم. كذلك، يسعى صناع القرار في العالم إلى تلافي عودة الدولة القومية داخل أوروبا من جديد لما تسببت فيه من حروب مدمرة من قبل. وفي نفس الوقت لا زلنا نرى دعاة التغريب بيننا يدعون إلى الديموقراطية وإلى التمسك بدولة وطنية أو بدولة قومية. وتراهم يسفّهون أي مسلم يتحدث عن دولة أعمّ وأشمل حتى من الاتحاد الأوروبي، الخلافة. ولا أستطيع إلا أن أتعجب من هؤلاء كما تعجب “ديزنر” في تقريره من البريطانيين!


المصادر:

خالد أحمد

كاتب مهتم بقضايا الأمة الإسلامية والسياسة الدولية والشأن الخليجي، أكتب وأسعى من أجل الحرية.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى