مراجعة كتاب: المستقبل لهذا الدين

للوهلة الأولى حذرت أن تلك الرسالة هي جواب على سؤال “هل المستقبل حقا لهذا الدين؟”، لكن ومع إتمام الفصل الأول “الإسلام منهج حياة” وعيت أن مفكرنا إنما يقرر حقيقة مستقبلية، وهي أن “المستقبل لهذا الدين” حقيقة.

بالإضافة إلى توضيح الفرق بين طبيعة الأديان السماوية والتصورات والأنظمة المستجدة، ويركز على توافق طبيعة الأديان السماوية مع فطرة الوجود وكينونته، ويأتي في النهاية بأمثلة لمفكرين غربيين نادوا بأهمية توافق المنهج المسيير للحياة مع فطرة الأفراد وطبيعة الوجود وغايته.

أما عن مؤلفنا “سيد قطب” فيكفي أن يذكر اسمه وحسب، ليسترسل العقل ويستذكر حياة كاملة من التضحية، والفكر المستنير، لم يصل سيد إلى كافة العوام في حياته، لكن إعدامه كان أقدر على أن تطوف رسائله وكتبه ومجلداته، وأخلاقه وصموده إلى العالم أجمع، رحم الله سيدا فيما قدم.

أسس التصورات العقدية

المنهج الرشيد لحياة البشرية يجب أن يشتمل على تصور اعتقادي سليم، الذي بدوره يفسر طبيعة الوجود وغايته ومتطلباته، كما يشمل النظم والتنظيمات الواقعية المنبثقة عن ذات العقيدة.

وبالتالي لا يصح وجود منهج حياة، والعاملون به قابعون في قفص وجداني معزول عن الحياة بأسرها؛ ولذلك توجب أن يشمل المنهج النظام السياسي وأسسه التي تقوم عليها السلطة، والمشاركة أيضا في الأنظمة الاجتماعية والاقتصادية والدولية والتعرف عليها.

ومتى حقق المنهج تلك الخصائص السابقة التي لخصها كاتبنا في ثلاث كلمات وهى (الشمولية والواقعية والهيمنة) صار ذلك المنهج مناسبا لحياة البشر.

نظام حياتك منبثق عن معتقدك فيها

كل منا له معتقده ونظامه الذي يؤمن به ويحيا من أجله، سواء كانت تلك العقيدة سماوية سليمة أو وضعية، لكن تلك الأخيرة ما لبثت أن سقطت سقوطا مدويا، فاضطر واضعوها إلى إعادة تشكيلها بما يتناسب مع سياساتهم ومتطلباتهم ومصالحهم السياسية والحزبية.

ومنها “النظام الشيوعي” الذي عرفه واضعوها بأنه نظام يقوم على مجموعة من المبادئ التي تفسر سلوك الإنسان في الحاضر والتاريخ من منظور اقتصادي بحت، احتل من عقيدة أصحابه شقا واحدا وبالتالي سيجد الباحث أن وتيرة تغيير قوانين النظام سريعة جدا لضمان بقائها حية، وضمان بقائهم في كراسيهم، أيضا الذين تبنوا العقائد الاجتماعية، والعقائد الوطنية، والعقائد القومية.

والمتأمل يرى أن تلك العقائد تعط منظورا بأن ورائها نظام حياة قائمة، وبالتالي فهو دينهم وتلك عملتهم في الحياة.

نظرية الأرباب المتفرقون

http://gty.im/167132808

أولئك الذين ارتضوا بتلك الأنظمة الوضعية حاكما لهم، أو أنهم ارتضوا بأن يكون دينهم في خانة “الأحوال الشخصية” و”التصورات الوجدانية” فحسب.

هم ذاتهم ارتضوا لأنفسهم أن يعيشوا حياة يحكمها أربابا كثر كما وصفت في الكتاب “بعقلية تقسيم الأرباب” لكن البشرية لا تستقيم إلا عندما يحكمها منهج واحد، وإله واحد، يصدر عنه تصور واحد.

وقد أنتج ذلك المفهوم (عقلية تقسيم الأرباب) في أوروبا، ما عرف “بالفصام النكد” حيث قام “بولس”  الذي ادعى كذبا أنه من تلامذة المسيح _عليه السلام_ بمزج التصورات والعقائد النصرانية، مع الوثنية الرومانية، موظفا إياها توظيفا سياسيا لصالح الكنيسة.

والذي زاد حدة الأمر كارثية دخول الإمبراطور الروماني “قسطنطين” في الدين الجديد، وعلى إثر ذلك تم تصعيد الحزب النصراني إلى الحكم عام ٣٥٥م.

شهد شاهد من أهلها

وهنا نستعرض أقوال كتاب ومفكرين عايشوا تلك اللحظات، مثل

“درابر” الذي أوضح أن أولئك المتدينين الجدد وظفوا الدين لصالح مصالحهم السياسية، ونافقوا الرعية واحتدوا عليهم في الأوامر الكنسية الصارمة.

فكانت تبعات تلك الأنظمة ما سماه عند المفكرين الغربيين “الفصام النكد” وهو أن القوة الحربية والنفوذ السياسي بلغا أقصى درجات الحضارة، بينما صار الفساد الأخلاقي والانحطاط الديني في أدنى دركاتها.

حتى أنه قيل في كتاب ” تاريخ أخلاق أوروبا” أن الدنيا كانت تتأرجح بين الرهبانية القصوى، والفجور الأقصى، وإن المدن التي ظهر فيها أكثر الزهاد كانت أسبق المدن إلى الخلاعة والفجور!.

وهنا نشأت مشكلة أخرى فقد تجمع الرهبان والقساوسة في خانة الجمود والاستبداد، فلا مجال لعالم أو متعلم إلا بالتعاليم التي تفرضها الكنيسة، وتم نصب محاكم التفتيش لكل من عارض الأوامر وقام باكتشاف القوانين والنظريات الطبيعية.

وداعا للرجل الأبيض

http://gty.im/600039131

فحضارة الرجل الأبيض قد استنفدت أغراضها المادية المحدودة، ولم يعد لديها ما تعطيه للبشرية من تصورات وقيم تصلح لقيادة البشرية، وتسمح لها بالنمو والترقي.

في تلك اللحظات تخرج صيحات منددة بجرائم ذلك النظام البوليسي، لكن ومع الأسف فهؤلئك الذين ارتضوا بالحضارة التي قامت على أساس فكري شعوري واقعي معاد للأديان السماوية،  إنما هم شقاء إلا أن يرجعوا إلى فطرتهم.

لأن الحضارات المستجدة وجدت لإسعاد وخدمة الإنسان من منظور مادي فقط، ولذلك سيظل الإنسان في صدام دائم مع فطرته وغاية وجوده في الحياة، فالأنظمة المستجدة ما هي إلا مناهج طارئة على الحياة، وغير متناسقة مع طبيعتها.

لكن الغريب أن بعض تلك الصيحات نادى بوضع نظام آخر مثل “الماركسية المتطورة”، وذلك بدون رقابة وبدون حكومة وبدون عقيدة سماوية وبدون أي سبب معقول من الأساس.

أما أصحاب الديانات السماوية السليمة لا تلهيهم الحياة المادية المتقدمة عن الارتقاء بالإنسان ومقوماته، وبالتالي لابد من قاعدة سليمة للتصور الاعتقادي لكافة المذاهب والأنظمة والأوضاع التي تقوم عليها حياة البشر.

ولا بد أيضا من تفسير صحيح للوجود ولمركز الإنسان فيه ولغاية وجوده الإنساني، وهذا التصور يكون مطابقا للحقيقة الفطرية، لا كما يراه الناس من خلف عدساتهم القاصرة على شهواتهم وأهوائهم وانفعالاتهم المتغيرة.

ثم يخلص إلى صيحات الخطر المتصاعدة بأن تلك الحضارات أورثت سكان عصرها القلق والهموم الذي أنتجته نظمهم السياسية والاقتصادية والاجتماعية.

والحقيقة أن العلم الخالص لا تعارض بينه وبين حياة الإنسان، طالما أن هناك منهج بشري يقوم على تصور اعتقادي سليم، لكن عندما يسيطر جمال المادة على عقل الإنسان وتستعبد أفكاره وتصوراته تصبح البشرية في مأزقK ويقول كاتبنا هنا معلقا بأنه “مهما يكن علينا أن نتخذ دواعي الحيطة حتى لا يحدث فشل المادة رد فعل روحي”.

الحل لتلك الأزمة

ومما سبق يكمن العلاج للأمم التي وقعت تحت سيطرة وسطوة المادة، في التقدم بالمعرفة العميقة بالنفس وفهم العمليات الميكانيكية التي تؤثر بها الحياة العصرية على وجداننا وحياتنا العملية.

لزم أيضا وجود الإيمان الصحيح القوي، فنقص الإيمان لا يستطيع أن يعوضه السياسيون مهما بلغت قدرتهم، ولا الدبلوماسيين مهما كانت فطنتهم أو حتى العلماء مهما كثرت اختراعاتهم أو القنابل مهما بلغت قوتها.

“فمتى شعر الناس أنهم في حاجة إلى الاعتماد على الأشياء المادية فإن النتائج السيئة تصبح أمرا حتميا”.

الأنظمة الوضعية والرسالة الخاتمة… مقارنة

الحضارات والأنظمة الحالية على الرغم من نشأتها بجهود بشرية، إلا أن واضعيها أقرروا بأنها غير مناسبة لحياة الإنسان، بل ويتولد عنها القلق والهموم والمشكلات السياسية والاقتصادية والاجتماعية.

وبالتأمل في مقومات المنهج السليم للأنظمة والأديان المتواجدة، فلن نجد غير “الإسلام” الدين السماوي، والرسالة الأخيرة، غير المحرفة، التي أقامت دولة صغيرة، ثم خلافة شملت العالم بأسره، لم يشهد فيها الإنسان، تمزقا ولا تشتتا ولا استعبادا ولا استبدادا.

ومن هنا نجد أن صحة المنهج الإسلامي أورثته قوة لا متناهية أمام هجمات التتار والصليبيين في الشرق، لكن على النقيض لما استخدم ولاة الأمر في الأندلس الإسلام لتحقيق مصالحهم السياسية، انتقل عنصر القوة إلى الصليبيين وبذلك سقطت الاندلس، بسبب تغليب المادة على الروح، وتغليب الأنا على نحن، وتغليب هوى النفس على عقيدة الإسلام.

حقيقة الإسلام

وبالتالي فعنصر القوة يكمن في طبيعة الإسلام وبساطته ووضوحه وشموله وملائمته للفطرة البشرية وتلبيته لحاجاته الحقيقة، ويكمن سره في الاستعلاء عن العبودية للعباد بالعبودية إلى رب العباد، ورفض التلقي إلا منه، والخضوع إلا له، وبالتالي لا تقع الهزيمة الروحية طالما عمّر الإسلام القلب والضمير، وإن وقعت الهزيمة الظاهرية في بعض الأحيان.

وطبيعة هذا الدين تتلخص في حاجة البشرية إلى منهج تستمد منه تقييمها، وتستقي منه مستقبلها، وهذا الدور المرتقب لا تملك عقيدة أخرى أو أي تصور أو أي منهج آخر أن يؤديه، وأن البشرية كذلك لا تملك أن تستغني عنه طويلا.

بشرى جلال

طالبة علم، مهتمة بقضايا الأمة والشأن السياسي. More »

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى