قراءة في كتاب.. الهوية: الحاجة للكرامة وسياسات الاستياء

هذا الكتاب للمؤلف فرانسيس فوكوياما المفكر والفيلسوف والأكاديمي الأمريكي من أصل ياباني والذي يعد من أبرز منظري المحافظين الجدد في النظام الدولي المعاصر، ويقدم هذا الكتاب الذي نشر في سبتمبر 2018 رؤية مغايرة لما قدمه من قبل في كتابه “نهاية التاريخ والإنسان الأخير” في عام 1992 عقب نهاية الحرب الباردة وانهيار الاتحاد السوفيتي.. والذي مازال يثير الجدل والنقاش حوله إلى الآن.

وقد أشار فيه إلى أن النموذج الديمقراطي الليبرالي الرأسمالي والأمريكي على وجه الخصوص هو منتهى التطور الأيديولوجي للإنسانية وأن الليبرالية قد انتصرت على ما عداها من أيديولوجيات وأن ذلك يمثل على حسب رؤيته نهاية التاريخ.

فوكوياما في كتابه الجديد عن الهوية يقدم مراجعة عميقة للأنظمة الليبرالية ولبعض آرائه وأفكاره ومواقفه السياسية ويستعرض أهم التحديات التي تواجه الديمقراطيات الليبرالية، خاصة بعد الأزمة المالية العالمية في 2008، وأزمة اليورو في 2009.

ولأن جوهر الليبرالية يكمن في تحرير الأفراد من القيود، فقد ساهم ذلك في تقويض العلاقات الاجتماعية، وارتفاع معدلات عدم المساواة وفقدان الثقة في الحكومة بالإضافة إلى زيادة الانقسامات السياسية والانشقاقات في النسيج المجتمعي.. الأمر الذي تبعه بروز دعوات الاهتمام بالهوية، والكرامة، والشعبوية القومية مما دفع الكاتب لمناقشة التوجهات الجديدة التي يشهدها العالم، وتقديم مقترحات للخروج من هذه الحالة.

وقد أكد فوكوياما في تمهيده للكتاب أنه لم يكن ليؤلف هذا الكتاب لولا صعود “ترامب” إلى السلطة في الولايات المتحدة وذلك لسببين رئيسين:

  • على المستوى الوطني تهاوي مؤسسات الدولة أمام مصالح الجماعات القوية، الأمر الذي أضعف مؤسسات الدولة.
  • على المستوى الدولي بزوغ الاتجاه القومي الشعبوي في عدد من الدول مثل روسيا، تركيا، بريطانيا وغيرها من الدول.

وباستعراض أهم المفاهيم والقضايا التي تناولها الكتاب.

الهوية

والتي تشير إلى علاقة الذات الداخلية بالعالم الخارجي، واعطاء قيمة للذات الداخلية ويرى فوكوياما:

أننا في الواقع لم نولد مع هويات، هوياتنا ليست بالضرورة بيولوجية.. نحن نقوم ببناء الهويات طوال الوقت.

وأن هناك من يؤمن بأن هويته لا تحظى بالاعتراف الكافي من قبل العالم الخارجي، وتشير الهوية عمومًا إلى عدة معان أبسطها الأدوار والتصنيفات الاجتماعية ووفقًا لفوكوياما فإن الهوية تنبع من التمييز أو التفرقة بين الفردي الداخلي والعالم الخارجي المكون من القواعد والعادات الاجتماعية، وأن المفهوم الحديث للهوية ينبع من تقدير الذات وأن الذات الداخلية لها قيمة، وأنها ليست مطالبة بالخضوع لقواعد المجتمع، بل إن المجتمع هو الذي يجب أن يتغير، وعليه تصبح “الهوية” سمة عالمية للشخصية البشرية التي تتوق إلى الاعتراف والإيمان بها.

سياسات الهوية

يرجع فوكوياما الصعود المعاصر لسياسات الهوية إلى رغبة الجماعات المهمشة من قبل مجتمعاتها إلى الاعتراف بها، ويؤكد الكاتب على أن سياسات الهوية باتت تهدد تماسك الدول الديمقراطية الليبرالية بسبب استدعائها عدة قضايا مثيرة للجدل مثل الحاجة للاعتراف، الهجرة، الكرامة، والعلاقة بين دوائر الانتماء القومية والدينية والأثنية، وهو ما يتسبب في تزايد الاحتقان بين مكونات البناء الاجتماعي داخل المجتمعات بسبب مخاوف الجماعات من التماهي في الأخر، وفقدان الخصوصية والخوف من هيمنة الجماعات الأخرى على مقاليد السلطة.

الأمر الذي ترتب عليه تفكك في المجتمعات الديمقراطية وتقسيمها إلى شرائح تستند إلى هويات أضيق وعليه فإن عدم الفهم الصحيح لتلك السياسات سيؤدي حسب رؤية الكاتب إلى زيادة الصراعات المستقبلية حدة وفي النهاية إلى انهيار الدولة.

من ناحية أخرى، لا يرى فوكوياما أي خطأ في سياسة الهوية ما لم تهدد هويات الجماعة الأضيق مع إمكانية التواصل والعمل الجماعي، أو تعريف نفسها بهويات وطنية أكثر تكاملًا والتي هي ضرورة للمجتمعات الديمقراطية. وأن فهم سياسات الهوية المعاصرة يدعو إلى الحاجة إلى فهم أعمق للدوافع الإنسانية والسلوك البشري بجانب نظرية أفضل عن الروح البشرية.

وفي محاولة للخروج من هذا الوضع المتأزم يقدم الكاتب مجموعة من الأفكار منها على سبيل المثال إعادة بناء هوية وطنية أمريكية مفتوحة للجميع، مرتبطة معًا على أساس المبادئ السياسية مثل الدستور، سيادة القانون، مبدأ المساواة ويشير أن هذا النوع من الهوية التي نحتاجها كمضاد لأنواع الاستقطابية التي سقطت الدول الديمقراطية الليبرالية فريسة لها.

الكرامة

يفترض معظم الاقتصاديين أن البشر مدفوعون بالرغبة للحصول على الموارد المادية، ورغم أن هذا المفهوم للسلوك البشري له جذور عميقة في الفكر السياسي الغربي، لكنه يغفل عن حقيقة أخرى أدركها الفلاسفة الكلاسيك في الفكر اليوناني وهي الرغبة في صون الكرامة، التي اعتقد سقراط أنها تشكل “جزءًا ثالثًا” لا يتجزأ من النفس البشرية، وأطلق عليها أفلاطون في الجمهورية ثيموس “thymos” والتي تعني تقدير الذات.

ويميز فوكوياما بين شكلين من الثيموس، ما أسماه “mega lothymia” والتي تعني الرغبة لدي الفرد في الحصول على الاعتراف بانه الأسمى والأكثر تفوقًا، ويدلل على ذلك بمجتمعات ما قبل الديمقراطية التي كانت قائمة على التسلسل الهرمي والإيمان بالتفوق المتأصل لطبقة معينة كالنبلاء والأرستقراطيين وتعد المشكلة الأساسية بها هي نظرتهم لباقي المجتمع على أنهم أقل شأنها بما يولد شعور قوي للناس بالاستياء والرغبة في أن ينظر إليهم على أنهم جيدون مثل الأخرين، ذلك الشعور يطلق عليه الكاتب “isothymia” وهو مطلب أن يحترم الفرد على قدم المساواة مع الأخرين.

ويرى فوكوياما أن صعود الديمقراطية ما هو إلا انتصار “isothymia” على “mega lothymia” حيث تم استبدال المجتمعات التي تعترف بحقوق عدد قليل من النخب بأخرى تعترف بأن الجميع متساوون بطبيعتهم.

فالكرامة تجسد ضمنًا الخصائص البشرية التي وإن عرفت تطور في الأنظمة السياسية عبر التاريخ فإنها لم تعبر عن طموحاتها وعليه فإن الكرامة الإنسانية تتطلب انتماء الفرد إلى جماعة تربطها قواسم مشتركة من جهة واعتراف الأخرين بها من جهة أخرى، فاحترام الذات ينشأ من احترام الأخرين لها.

وحسب رؤية فوكوياما في كتابه فإن الرغبة في الاعتراف بالهوية والكرامة الإنسانية من شأنها أن تسفر أما عن احترام متبادل لمختلف الأفراد وعلى قدم المساواة أو استعلاء ناتج عن شعور بالتميز ويدلل فوكوياما على ذلك بنموذج الولايات المتحدة في الديمقراطية فالمساواة مكفولة بموجب القانون ولكن لم تؤد إلى المساواة الفعلية على الصعيدين الاقتصادي والاجتماعي، فالتفاوتات في الدخل تزايدت بشكل كبير خلال الثلاثين عامًا الماضية، كما أن تدفق مكاسب النمو إلى نخب بعينها دون أخرى.. أدى إلى تزايد حدة التغيرات الاجتماعية المدمرة.

ومن ثم، فإن النظام الليبرالي الذي قام على تشجيع اقتصاد السوق والحرية لم يستطع صون كرامة الأفراد.. ويرى فوكوياما أن توسيع مفهوم الكرامة وإضفاء الطابع العالمي عليها يحول المسعى الخاص نحو الذات إلى مشروع سياسي.

صعود النزعة الشعبوية

يدلل فوكوياما على الشعبوية بوصول “ترامب” إلى سدة الحكم في الولايات المتحدة وكيف ساهم في تداعي المؤسسات الأمريكية وكان نتاجًا لها، على الرغم من وعوده باستخدام شعبويته لإصلاح النظام، وجعله فاعلًا مرة أخرى، وعليه يمثل ترامب اتجاهًا عامًا في السياسة الدولية نحو ما يسمي “بالقومية الشعبوية”.

من ناحية أخرى، إن الفاعليين السياسيين (يسارًا ويمينًا) قد ساهموا في بزوغ الشعبوية بدل سياسة العدالة التوزيعية، لقد أصبح التيار اليساري أكثر تركيزًا على مصالح الجماعات المهمشة مثل (الأقليات، المهاجرين، اللاجئين، الحركة النسوية، المثليين.. وغيرها) أكثر من مطالب المساواة الاقتصادية وحقوق العمال والنقابات وبرنامج الرعاية الاجتماعية وسياسات إعادة التوزيع. بينما أصبح التيار اليميني يعيد تعريف نفسه بنزعة قومية، باحثًا عن حماية الهويات القومية التقليدية، والتي غالبًا ما يتم ربطها صراحة بالعرق أو الجنس أو الدين.

ويرى الكاتب أن الحل لمواجهة هذه النزعة الشعبوية في الولايات المتحدة وخارجها يكمن في تشكيل الهوية بطريقة تدعم الديمقراطية، بدلًا من أن تقوضها، وأن يتم إعادة تعريف الهوية القومية على أساس من المواطنة والاندماج، فالهوية الحقيقية هي “الهوية الإنسانية العالمية” والتي تعتمد على الاعتزاز بها، لا بهوية (قبيلة أو عرق أو دين).

سياسات الامتعاض أو الاستياء

يقدم الكاتب وجهة نظر أخرى حول كيف تكونت سياسات الاستياء، أو الامتعاض، وأن القادة الشعوبيين يرغبون في استخدام واستغلال الشرعية التي تمنحها الانتخابات الديمقراطية لتعظيم قوتهم ويختزلون “الشعب” في قطاعات بعينها دون غيرها ويكرهون المؤسسات ويقوضون الضوابط والتوازنات التي تحد من قوة القائد السياسي في الديمقراطيات الليبرالية الحديثة بما في ذلك السلطتان القضائية والتشريعية، والإعلام المستقل والبيروقراطية غير الحزبية.

ومن خلال استعراض أبرز الأفكار والآراء التي تناولها فوكوياما في كتابه عن الهوية للخروج من الوضع المتأزم في الديمقراطيات الليبرالية، يخلص الكاتب إلى أن استدعاء سياسات الهوية في الديمقراطيات الليبرالية الحديثة يمثل أحد التهديدات الكبرى التي تواجهها هذه الأنظمة والتي أصبحت تمثل جزءًا كبيرًا من الصراعات السياسية في العالم المعاصر من الثورات الديمقراطية إلى حركات اجتماعية جديدة، الأمر الذي يتطلب وفقًا لرؤية الكاتب إلى مزيد فهم كوني لسياسات الهوية والكرامة وإلا سنصبح سجناء نزاعات موصولة لا نقد وصراعات لا تكل.

فيما يتعلق بالعالم العربي

حاول فوكوياما في هذا الكتاب أيضًا تفسير ما حدث في العالم العربي من ثورات والتي عرفت بالربيع العربي منذ أواخر 2010 وقد اسماها فوكوياما بثورات الكرامة لأنه يعتقد جازمًا أن الإحساس بالذل والامتعاض يشكل دافعًا يتقاسمه كل ثوار الربيع العربي، كما أشار إلى طريقة تعامل الحكومات السلطوية مع المواطنين واستغلالهم اقتصاديًا وسياسيًا من قبل رجال السياسة الفاسدون وكيف يتم التعامل معهم كأطفال أو رعايا وليس كبالغين قادرين على القيام بخيارات سياسية.

من ناحية أخرى، يبقى التساؤل عن كيفية الحفاظ على الهوية والثقافة العربية والإسلامية في ظل تحديات العولمة والنظام العالمي الجديد، وهل ستنجح دعوات فوكوياما إلى التعايش وقبول الاختلاف سواء داخل الوطن الواحد أو خارجه وضرورة الاعتراف بكرامة الهويات المحجوبة في المجتمعات الليبرالية المعاصرة.. هذه المراجعة الفكرية والفلسفية والنقد الذاتي التي قدمها فوكوياما للديمقراطيات الليبرالية في التعامل مع الأزمات، فهل ستكون لها أي استجابة وتعيد هذه النظم النظر في سياساتها وقواعدها؟

مايسة مرزوق

ماجستير علوم سياسية علاقات دولية. باحثة وكاتبة مهتمة بشؤون العالم العربي والإسلامي.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى