ما بين الظلم والطغيان ومحاولة تحسين شروط العبودية

بعد انتكاس ثورات الربيع العربي الواحدة تلو الأخرى، وانتصار الثورات المضادة في جميع تلك البلدان تقريبًا، سادت هالة من الإحباط واليأس وجوه أولئك المتأملين في “سيادة الحقّ” و”انتصار الثورة”، لم يعد للكفاح أيّ معنى – بالنسبة لهم – بعد تلك الدماء التي سالت وتسيل، وصارت كلّ أمانيهم هو الإفراج عن المعتقلين أو عودة الكهرباء أو انخفاض سعر الجنيه.

ببساطة تعايش الناس مع الظلم، حتى عرفوه وألفوه وصاروا لا يرون فيه منكرًا. أقصى أمانيهم هو “تحسين شروط العبودية”، من عودة الإنترنت والكهرباء إلى ضبط أمناء الشرطة إلى دعم القطاع التكنولوجي، لم يعد أحد يهتم بأمور “العسكر” و”إسقاط النظام” أو “المعركة” إلّا من رحم الله، وأخذت الحياة بقية الناس.

يومًا وراء يوم ترى منشورات فيسبوكية يشاركها الآلاف عن مدى “الظلم والقهر” في هذه البلاد، هذا قُتل بعد 8 شهور من زواجه وأسبوع من معرفته نبأ حمل زوجته، وهذا مات ابنه في المستشفى لعدم توفر المال الكافي معه لشراء العلاج، وهذا اعتقله ضابط شرطة دون أي سبب فقط لأنه ملتحي كان ذاهبًا ليصلي صلاة الفجر وأهله لا يعرفون عنه شيء منذ شهر، وهذا يعاني في حياته اليومية من انقطاع للكهرباء والماء وارتفاع سعر صرف الجنيه.. وجميعهم لا يجدون طريقة لتفريغ غضبهم سوى اللايك والشير على فيسبوك.

في خضم كل ما يحصل، تخرج علينا فئة لتقول أنها “لا تهتم للسياسة”، وأنّ كل ما تريده هو متابعة الحياة اليومية بسعادة، تتناسى هذه الفئة هي أن السياسة هي العامل الرئيسي المؤثر عليهم وعلى حياتهم، يظنون أن السياسة هي مجرد “هل أنت مع السيسي أم الإخوان”، ولا يعرفون أنّها كل ما يجري في هذا البلد والعالم.

هل التعايش ممكن؟

طالما أنك ما تزال في العبودية، طالما أنك ما تزال في الدولة التي تدور بأكملها حول الفرد، لا حول القيم والأفكار السميّة، فحينها لا تحلم أبدًا بالعيش كريمًا سعيدًا في هذه البلاد. لا يمكنك ببساطة أن تتجاهل موضوع أنّ سعر دمائك في هذه البلاد أرخص من التراب، وأنّ أي ضابط شرطة أو بلطجي يمكن أن يقتلك في أي لحظة، ثم تصطنع ابتسامة سعيدة على وجهك كالأبله لتعاود حياتك اليومية. لا يمكنك أن تعلم أنّ أختك أو ابنتك أو زوجتك يمكن أن يتعرضن للاعتداء كلّ يوم، ومع ذلك تتابع حياتك كالمعتاد وكأن شيئًا لم يحصل، فقط من أجل “أم الدنيا”، ستبقى في بؤس وشقاء.

تجارب الناس توكد هذا في الواقع. من بينها تجربة “أوبر” و”كريم” وهي عبارة عن شركات سيارات أجرة خاصة لنقل الركاب، مشهورة جدًا في مصر، يستخدمها الناس يوميًا كونها أأمن وأفضل وأسرع وأكثر احترامًا وثقة من سيارات الأجرة العادية، حتّى الآن كل شيء عادي، هذه مجرد شركات خدماتية تكنولوجية لا علاقة لها بالسياسة والمفروض وفق منطق “السلطة” في الحكمة ألّا يحصل لها أيّ مكروه دون سبب معين.

f2ea69fa94
تظاهرات التاكسي الأبيض ضد أوبر وكريم

لكن لتنظيم الدولة المصرية رأي آخر في الموضوع، بعد أن اتجه الناس إلى استخدام هذه الشركات والابتعاد عن سيارات الأجرة العمومية (بسبب سوق أخلاق سائقي تلك السيارات العمومية وعدم اتباعهم قوانين العدّاد وغير ذلك)، وبعد قيام سائقي سيارات الأجرة العمومية بالتظاهر ضدّ أوبر وكريم لأنهم “يقطعون العيش” الخاصّ بهم، أعلنت السلطات المصرية أنها ستقبض على أيّ سيارة تابعة لأوبر وكريم وستحيل سائقيها إلى النيابة العامّة.

نشرة تبيان البريدية

اشترك وتصلك رسالة واحدة كل خميس، فيها ملخص لما نشرناه خلال الأسبوع.

الأمر لا يتعلق بالشركات الناشئة التي تحاول توفير خدمة محترمة للزبائن فقط، بل حتّى الشركات الأجنبية بدأت تغادر مصر الواحدة تلو الأخرى، من Intel إلى Yahoo! إلى مرسيدس وبنك ماركليز، حتى الشركات العملاقة الأجنبية ستعاني في خضم هذا الغباء والاستبداد المتفشي والذي يجعل حتّى عملية مزاولة مهامها اليومية مستحيلًا. فبعد المحاولات المصرية البائسة الغير مدروسة لإنعاش الاقتصاد – والتي بطبيعتها زادت الطين بلّة – والديون والمشاريع “الإكسبريس” التي أدت مجتمعةً إلى رفع سعر صرف الدولار إلى حد جنوني، بدأت الشركات الأجنبية مغادرة البلاد الواحدة تلو الأخرى.

خروج الشركات الأجنبية من مصر - إنفوجرافيك

بالنسبة للأفراد، فيمكنك أن تلاحظ مع ارتفاع سعر الدولار مقابل الجنيه أن البنك المركزي أوقف التعاملات التجارية الإلكترونية بالدولار، وسمح بها بالجنيه المصري فقط، مما سيمنع الأفراد من شراء/استخدام آلاف الخدمات الإلكترونية المتوفّرة على الإنترنت.

الأمر لا يتعلق بالاقتصاد فقط، بل حتى بالنسبة لأرواح الناس، كلكم سمعتم تقريبًا بقصة ضابط الشرطة “حاتم” الذي قتل شخصًا آخر فقط بسبب مشادة كلامية بينهما فجاء الناس وقتلوا ضابط الشرطة، مثل هكذا حوادث تبين لك فعلًا أن البلاد تتحول إلى غابة يأكل فيها القوي الضعيف عندما يحكمها الباطل.

غلاء الأسعار، شركات إنترنت سيئة، خدمات تاكسي مهينة، دماء تسيل كل يوم ومعتقلون لا أحد يعرف عنهم شيئًا وكرامة مسلوبة لا أحد ليستردها.

يمكنك أن ترى الآن أنّ أي عمل “نظيف” وأخلاقي لا مكان له في هذه الدولة، رغم أنّك قد تكون بعيدًا عن السياسة وشمّاعة الإخوان، ولكن هذا الاستبداد والطغيان الذي أنت فيه سيمنعك حتى من مزاولة حياتك اليومية بكرامة، ستمضيها على منشورات فيسبوك عن “أم البلد اللي احنا فيها” وفي اليوم التالي ستخرج في الصباح إلى عملك وكأنّ شيئًا لم يكن. لا حياة تحت الاستبداد.

تحويل الغضب إلى أفعال لا إلى كلام:

سيمنعونك حتى من العيش كإنسان، سيجبرونك على تجرّع ظلمهم كل يوم وفي النهاية سيجعلونك واقفًا عاجزًا عن فعل أي شيء سوى الصراخ على فيسبوك

مشكلتنا هي أننا نتعامل مع كل مشكلة وقضية “بالتحفيل” و”التنكيت” عليها لكي ننسى ونكمل حياتنا، لم نفكر أبعد من كتابة منشورات ومقالات نصرخ فيها من ألم وبؤس الواقع لنداوي بها جروحنا، لم نفكر يومًا أن نوجه غضبنا ونركزه على من يتسبب في ألمنا، لم نفكر يومًا أنه هناك شرذمة صغيرة عميلة للغرب تحكمنا كل يوم ونعلم أنهم كذلك ولكننا لا نفعل شيئًا لهم.

إذا كنت تحس بألم الاستبداد والظلم والقهر، إذا كنت تعلم أنك تعيش حياة البؤس كل يوم، فحينها من واجبك – ومن واجبنا جميعًا – أن نسعى للتغيير الحقيقي، تغيير على أرض الواقع نفرغ فيه كل غضبنا على من فكّر أن يطغى علينا يومًا، لا أن نحفّل على السيسي وإحراجه في اليابان لنضحك على أنفسنا ونرفّه عنها قليلًا.

اللهم ثورة!

427

شارك
ضيوف تبيان
ضيوف تبيان

يمكن للكتّاب والمدونين الضيوف إرسال مقالاتهم إلى موقع تبيان ليتم نشرها باسمهم في حال موافقة شروط النشر، راسلنا على البريد:
tahrir@tipyan.com

المقالات: 101

نشرة تبيان البريدية

اشترك وتصلك رسالة واحدة كل خميس، فيها ملخص لما نشرناه خلال الأسبوع.

اترك ردّاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *