الدولة العربية في مهب الريح

  • متابعة عرض أهم ما جاء في دراسة واقع النظام الدولي: قراءة في الميديا الغربية – د.أكرم حجازي

تآكل الدول العربية

كحالة النظام الدولي تمامًا والذي تحدثنا عن دلائل تآكله خلال التقرير الماضي؛ لم تكن الدولة العربية بأحسن حال لاسيما بعد إعلان «الدولة الإسلامية في العراق والشام» وما تبع هذا الحدث الزلزالي من انهيار للحدود الجغرافية بين سوريا والعراق. ومع أن لِوهن الدولة العربية أسبابًا تاريخية وموضوعية كبرى، ماضيًا وحاضرًا، إلا أن التفكك بات واردًا أكثر من ذي قبل. وفي هذا السياق كتب Robert Skidelsky، يقول:

«إن الإمبراطوريات العثمانية والبريطانية والفرنسية البائدة التي كانت تمارس وظيفة حفظ السلام في العالم الإسلامي لم يظهر لها قط أي ورثة مستقرون. ويتحمل المسؤولية عن هذا إلى حد كبير، وإن لم يكن بالكامل، المستعمرون الأوروبيون».

أما لماذا كل هذه المسؤولية أكثر من غيرهم؟ فلأنهم:

«خلقوا في سكرات موت إمبراطورياتهم دولاً مصطنعة لا تسير إلا إلى انحلال وموات»

المشروعية الاجتماعية

منذ نشأة الدولة العربية لم يسمع العرب إلا بعبارات على شاكلة دولة الأسد والقذافي وبورقيبة وصدام وعبد الناصر والسادات ومبارك حتى السيسي، إلى آخر القائمة. هذا لأن «الدولة – النظام» ارتبطت بالحاكم نفسه، كما لو أنها ملكية خاصة، ليس لأية منظومة حقوقية أو شرعية الحق في منازعته عليها، بل أن الحاكم لم يكن يعنيه مغادرة الحكم حتى لو فقد كل أهلية بيولوجية من الخرف وحتى العجز التام وصولا إلى غرفة الإنعاش. أما المواطنون فباتوا إما عبيدًا بكل ما في الكلمة من معنى، وإما أن سيكولوجيا العبودية قد تملكتهم، سواء علموا أم لم يعلموا. لذا تراهم يدافعون عن الحاكم بحماسة بالغة أو بنفاق بيًّن.

لكن تفجر الثورات الشعبية عرَّض الدولة لأخطر اختبار مشروعية في تاريخها. فقد شكلت الثورات التجلي الأبرز لاستنزاف «الشرعية الاجتماعية» التي استحوذ عليها النظام لعقود مضت. ففي حديثه عن انهيار منظومة «سايكس -بيكو»، لم يتردد كبير الباحثين في معهد كارنيجي، البروفيسور يزيد صايغ، في القول بأن:

«هناك تسع دول عربية تخوض اليوم حروبا داخلية كما هو الحال في سوريا والعراق وليبيا، أو مع جيرانها كما هو الحال في اليمن، وهي مؤشرات ذات دلالات سلبية خطيرة على وضع الدولة العربية القطرية».

ومع أن الأمر غدا «مقلقا ومفجعا» إلى حد التصريح بـ «احتمال زوال الدولة كدولة»، بحسب صايغ، فإننا: «ما زلنا في مراحل أولى من عملية تاريخية كبيرة وطويلة فيها الكثير من الحرب والنزاع المسلح» … بل:

«وفي ظل المشكلات والصراعات التي تشهدها الدول العربية لم يعد هناك إجماع أو حد أدنى من القبول المجتمعي لماهية الدولة، بعد أن انهار أو أوشك العقد الاجتماعي بين الأنظمة الحاكمة والشعوب، خاصة أن تلك الأنظمة فشلت في توفير الحد الأدنى من الخدمات الضرورية لهذه الشعوب مقابل تمسكها بالسلطة»

السؤال الآن: ما الذي تَبَقى من شرعية للنظام أو الدولة قبل التفكك وإعادة التركيب؟

  • بقيت بعض شراذم القوى السياسية، التي كانت لعقود طويلة من ألد الخصام! لكنها بعد الثورات صارت حليفًا استراتيجيًا للنظم السياسية. ولعل أبرز هؤلاء هم اللبراليون ومنتجاتهم من الأيديولوجيات القومية واليسارية والعلمانية.
  • كما بقيت الطوائف الاجتماعية التقليدية كالنصرانية التي تعتقد أنها تجد في «الدولة القومية» العلمانية من الهوامش ما لا يمكن أن تجده في أي دولة إسلامية أو حتى حرة من أية تبعية أو هيمنة. وكذا معها الطوائف الباطنية المنسوبة للإسلام وغير المنسوبة له، والتي لا تخشى على أتباعها من الذوبان فحسب، في ظل دولة إسلامية، مثلما تخشى على عقائدها من الاضمحلال.
  • وبقيت أيضا القوى الرأسمالية الحليفة للنظم السياسية، والمعادية لأية فوضى أو تغيير أو انتقال للسلطة، يفكك مراكز قوتها، ويقطع عليها الطريق في تنمية رأسمالها ومراكمة ثرواتها. فمثل هؤلاء لا يعنيهم حقوق آخرين ولا عدالة ولا مساواة كما لا يعنيهم تقدم علمي ولا نهضة اقتصادية ذلك لأنهم ببساطة رأسمالية شرهة، بنيت على الاستهلاك وليس على الإنتاج.
  • إلى جانب هؤلاء جميعا بقيت الفرق الإسلامية التي جعلت من الطاعة العمياء لولاية الأمر أساس الدين، كـ «المدخلية» و «الجامية»، وكذا التيارات المنحرفة كـ «الصوفية» التي شرَّعت للاستبداد وحرفت في الإسلام ومثلت، ولمّا تزل، حليفا ورصيدا هائلا لقوى النظام الدولي والنظم السياسية وسياساتها.

إلا أن كل هؤلاء لا يشكلون أكثر من 20% من إجمالي عدد السكان في العالم العربي وحتى الإسلامي. وهم في الواقع أكثر المسؤولين، محليًا، عن تآكل حتى شرعية النظم السياسية التي يدافعون عنها ويوالونها، فضلًا عن مشروعية الدولة ذاتها. وكل هؤلاء أيضا تلقوا كالعادة دعمًا من النظام الدولي وقواه ومؤسساته وإعلامه بشكل مباشر أو غير مباشر.

أزمة الدولة العربية في كتابات الغربيين

  • Joshua Fischer

يشير Joshua Fischer: عبر مقالته «الشرق الأوسط وعودة التاريخ» إلى سبب يشكل جوهر مخاوف النظام الدولي الكامن في أن:

«الحرب الأهلية السورية تثبت على نحو متزايد كونها شديدة العدوى».

أي أن الخوف لا يكمن بتغيير الأسد، بل بكون التغيير سيؤدي بالثورة السورية إلى أن تقذف بحممها باتجاه الخارج.

وفيما يتعلق بمستقبل الصراع مع «إسرائيل» في ضوء مخاطر التفكك المحتمل، يتساءل الكاتب:

«هل تتمكن الأردن، التي تؤدي وظيفة أساسية في الحفاظ على التوازن في المنطقة، من الصمود في مواجهة التحولات الجيوسياسية والخروج منها سالمة؟ إذا لم تتمكن من هذا فإن توازن القوى في الصراع التقليدي في الشرق الأوسط بين إسرائيل والفلسطينيين قد ينهار. وسوف تكون العواقب في الأرجح بعيدة المدى، وإنْ كان من الصعب تقييمها مقدما»

  • Shlomo Avineri

ويبدو أن الكُتَّاب اليهود قد أدلوا بدلوهم أيضا في هذه الأزمة. فمن جهته تحدث Shlomo Avineri في مقالته «انهيار الشرق الأوسط» عن النشأة التاريخية الاستعمارية للدولة العربية، والحال الذي وصلت إليه اليوم، على وقْع:

«قصص الرعب التي تطل علينا من شمال العراق، فضلاً عن المذابح المستمرة التي تفرزها الحرب الأهلية في سوريا، (والتي) تشير إلى تحول جذري في الشرق الأوسط. فبعد ما يقرب من مائة عام بعد الحرب العالمية الأولى، يتفكك نظام الدولة الإقليمية الذي تأسس بعد انحلال الإمبراطورية العثمانية»،

ويتهاوى «الاتفاق الذي تجاهل تماماً تاريخ المنطقة وتقاليدها وانتماءاتها العرقية والدينية وإرادة سكانها المحليين»، حيث «نشأت دول حديثة في العراق وسوريا ولبنان ككيانات منفصلة ومستقلة. وكانت حدودها تعسفية ومصطنعة، ولم يسبق لأي منها قط أن وُجِدت في هذه الهيئة… وقد حافظ قادة هذه البلدان على هذا النظام، والحدود التي رسمها، باعتباره أفضل المتاح. ولم يجد أي من هؤلاء الحكام، وخاصة المستبدين الذين ظهروا بعد الاستقلال، في نفسه الرغبة في تعكير صفو الوضع الراهن».

«أما الآن يتفكك هذا النظام الذي فرضه الغرب. فالدول القومية من غير الممكن أن تستمر ما دامت لا تعكس رغبات سكانها»

  • Shlomo Ben-Ami

أما زميله Shlomo Ben-Ami فقد ذهب في مقالته «الدول العربية وآلام المخاض»، أبعد من ذلك فلنتابع ما يقول: «الواقع أن حصة كبيرة من المسؤولية عن الاضطرابات والمحنة التي يعيشها العراق، ناهيك عن سوريا، تقع بلا أدنى شك على عاتق الإرث الاستعماري الغربي الخبيث والسياسات الخاطئة العنيدة في الشرق الأوسط العربي». وأنه:

«مهما بلغت السياسات الغربية من خبث، فإن ظهور القوى الإسلامية نتيجة طبيعية في الأراضي العربية، فهي تشكل استجابة حقيقية لإخفاقات القومية العربية العلمانية والدولة العربية الحديثة»

. هذه «الإخفاقات» تصل عنده حد «ارتكاب جريمة الخيانة في حق شعوبها». هكذا تأتي بعض الحقائق ممن صدق وهو كذوب.

  • مساعد وزير الخارجية الأميركي الأسبق

أما مساعد وزير الخارجية الأميركي الأسبق، christopher-r-hill، في مقالته «نهاية الدولة العربية»، فيقرأ الأحداث على نحو أخطر. إذ:«تشير أحدث جولة من جولات العنف في الشرق الأوسط إلى أن شيئًا أكبر يجري على قدم وساق هناك: بداية تفكك الدولة القومية العربية». فقد:

«أصبحت الدول في الشرق الأوسط أضعف من أي وقت مضى، فالآن تبدو السلطات التقليدية، سواء الأنظمة الملكية الشائخة أو الأنظمة المستبدة العلمانية، عاجزة بشكل متزايد عن رعاية شعوبها. ومع تزايد ضعف سلطة الدولة، تزداد الولاءات القَبَلية والطائفية قوة».

أما لماذا هذا الضعف؟ فلا شك أن: «هناك أسباب عديدة وراء ضعف الدولة القومية العربية»، لكن (وبحسب الكاتب) «فإن أكثر هذه الأسباب وضوحا وقربا هو إرث الربيع العربي»، وليس انطلاقته بحد ذاتها. أو بعبارة أخرى ما آل إليه الربيع العربي من الدخول في حروب طاحنة، نالت من حركة الاحتجاج الشعبي، لكنها في المحصلة أضعفت الدولة العربية إلى حد التهديد بنهايتها.

ثمة حكمة تقول بأنه لا يمكن تعريف العاصفة إلا بما تخلفه من آثار. ولعلها التعبير الأصدق عن حالة الدولة العربية، التي غدت في مهب الريح حيث يشير Kevin Connolly في مقالته «رياح التغيير تعصف بالشرق الأوسط» إلى أن:

«الشرق الأوسط بصدد ختم فصل لا فتح فصل جديد» !!! فما هو الفصل الجديد القادم؟

المصادر

د. أكرم حجازي، واقع  النظام الدولي: قراءة في الميديا الغربية، منتدى المفكرين المسلمين ومركز العصر للدراسات الاستراتيجية والمستقبلية 2016.

آلاء محمود

كن شخصاً إذا أتوا من بعده يقولون مر وهذا الأثر

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى