تشكيل الإدراك الأمريكي: قراءة في كتاب مراكز البحوث الأمريكية ودراسات الشرق الأوسط بعد 11 سبتمبر

ما مدى تأثير مراكز البحوث والدراسات في تشكيل الوعي بشكل عام؟ وما الدور الذي تلعبه تلك المراكز في تنميط سياسات الدول؟ وهل للدول ومؤسساتها دور في توجيه تلك المراكز إلى نوع معيَّن من الدراسات تحت شعار “حماية الأمن القومي”؟!

من الطبيعي جدًا أن تكون هذه الأسئلة من النوع التي ليس لها جوابٌ يَحُدُّها من كافة الاتجاهات والجوانب؛ فهي بلا شك أمرٌ لا يُمكن لمسه إلا من قِبَل المتخصصين والمُنَقِّبين الذين يتحرَّون العديدَ من الدراسات وما يعقبها من تجليات على أرض الواقع كي يصلوا إلى إجابة شبه مرضية لهم ولمن يقرأ لهم.

وتُعد السلسلة التي يُقدمها مركز نماء للبحوث والدراسات تحت اسم دراسات صناعة البحث العلمي من الكتب والسلاسل القليلة التي تُكتب –عربيًا- في هذا الشأن. فهذه السلسلة التي تتكون من خمسة كتب تناقش بأشكال متعددة الأسئلةَ التي ذكرناها آنفًا في خمس مناطق مختلفة وهي: (الوطن العربي، إسرائيل، أمريكا، الهند، تركيا).

نأخذ من هذه السلسلة كتابًا واحدًا كأنموذج متميز تحت عنوان: “مراكز البحوث الأمريكية ودراسات الشرق الأوسط بعد 11 سبتمبر” من تأليف د.هشام القروي، الباحث الأكاديمي والمحلل السياسي الحاصل على دكتوراه في علم الاجتماع من جامعة السوربون بباريس.

ماذا قدَّمت الدراسة؟

حاول الكاتب بإيجاز شديد تقديم رؤية مختصرة تُحاول رسمَ أبعاد وأُطر للإجابة عن أسئلتنا تلك في أمريكا فيما يتعلق خصوصًا بالعلاقات الأمريكية الشرق أوسطية.

تدرَّج الكاتب في كتابه ليبدأ بمقدمة بسيطة يُوضِّح فيها الأفكار المركزية التي يسعى لإيصالها، ثم بدأ بالتحدث عن دراسات الشرق الأوسط في أمريكا، تاريخها  وفائدتها، وأتبع ذلك بعرضِ واحدٍ من أهم مراكز تلك الدراسات وهو “جمعية دراسات الشرق الأوسط MESA”؛ ليبيّن أهم رموز تلك الجمعية وردود فعلهم تجاه قضايا نمط التعامل مع دراسات الشرق الأوسط في أمريكا. بعد ذلك يأخذنا الكاتب إلى قضية الاستشراق ورائدها في الثلاثة عقود الماضية (إدوارد سعيد)، والانتقادات التي وُجِّهت إليه.

ينتقل الكاتب بعد ذلك ليشرح تطور تلك الدراسات بعد أحداث الحادي عشر من سبتمبر والتغيير الذي لحق بها، مسترشدًا بقضية التمويل ورأس المال التي لعبت دورًا في تنميط تلك الدراسات فيما بعد، وعلاقة السلطة والإعلام بمراكز البحوث، مع إلحاق الكتاب بجدول يُبيِّن تلك الارتباطات بين المؤسسات والشركات ووسائل الإعلام ومراكز البحوث.

في البداية يعرض الكاتب فرضية هامة ومحورية في بنية الكتاب، وهي الأبواب الدوارة للسلطة، حيث يُشير من خلالها إلى عدةِ أمورٍ تتجلى خلال الكتاب، منها على سبيل المثال: علاقة التمويل البحثي الأكاديمي بالتوجهات السياسية للبلاد، ومدى ارتباط صناعة المال والإعلام والبحوث ببعضها، ومدى سيطرة العنصر الأول –المال- على العنصرين الآخرين –الإعلام والبحوث- مصلحيًا.

خلفية تاريخية عن دراسات الشرق الأوسط في أمريكا

“إنَّ تاريخ الدراسات المختصة بالشرق الأوسط في الولايات المتحدة هو جزء لا يتجزأ من تاريخ الجامعات الأمريكية نفسها”، هذا ما يذكره الكاتب في بداية حديثه عن الخلفية التاريخية لدراسات الشرق الأوسط في أمريكا، ويبرهن على ذلك بإظهار مدى فخر الجامعات الأمريكية بإظهار أقدميتها وأسبقيتها في مجال هذه الدراسات.

ومن الجامعات التي اهتمت بمثل هذه الدراسات في أمريكا، وكان لها السبق في ذلك، جامعة برنستون التي تعود بدايات دراسات الشرق الأوسط فيها إلى عام 1899م، عندما نظَّم (هوارلد كروسبي باتلر) أول بعثة إلى سوريا والأناضول.

وتُعتبر جامعة نيويورك من أقدم الجامعات التي اهتمت بدراسات الشرق الأوسط، والتي استشهد بها الكاتب، حيث قِسْم الشرق الأوسط والدراسات الإسلامية الذي أُنشأ مع تأسيس الجامعة سنة 1831م، إلى جانب أنه يتم تدريس لغات مثل العربية والفارسية والعبرية والأثيوبية والسريانية كلغات شرقية منذ 1837م.

وبالرغم من وجود عدة جامعات استشهد بها الكاتب ليُدلِّل على أقدمية اهتمام الجامعات الأمريكية بدراسة الشرق الأوسط، إلا أنه أوضحَ أنه من أكثر الجامعات اهتمامًا بدراسات الشرق الأوسط هي جامعة ييل، والتي أعلنت أن هذه الدراسات قد بدأت عندها منذ القرن الثامن عشر.

ما أهمية دراسات الشرق الأوسط؟

بجانب هذا السؤال، يسأل الأكاديميون المعنيون بدراسات الشرق الأوسط سؤالًا آخر: “لماذا أنا معنيٌّ بهذا المجال وليس بمجالٍ آخر؟”. ربما يتشابه السؤالان لدى البعض، لكن الأمر ليس كذلك، فالأول يُعنى بتوجيهه المؤسسات الأمريكية كي تحدد إذا ما كانت ستُغدق أموالها في هذا الاتجاه أم لا. أما الثاني فيطرحه الأكاديمي على نفسه كي يحاول الوصول إلى استقاء أهميته كباحث من أهمية تلك الدراسات.

ربما يُفسِّر السؤال الثاني “لماذا أنا معنيٌ بهذا المجال وليس بمجالٍ آخر؟” اتجاه بعض من الأكاديميين إلى أن يُقدِّموا منتوجهم البحثي عن الشرق الأوسط في قالبِ علمِ الاجتماعِ أو اللغةِ أو السياسةِ أو غيرهِ من العلومِ الإنسانيةِ والاجتماعيةِ، لكن كل ذلك كان قبل 11 من سبتمبر.

في الحقيقة لم يكن صدى أحداث الحادي عشر من سبتمبر على المستوى السياسي والاقتصادي والاجتماعي فقط، وإنما وصل صداها إلى حقول دراسات اللغة العربية والإسلام والشرق الأوسط بأكمله. حيث زاد الاهتمام والوعي بهذه القضايا؛ ويرجع ذلك إلى عدم قدرة الولايات المتحدة على فهم الواقع الشرق أوسطي بشكل جيد لتجنب مثل تلك العملية.

“زادت مبيعاتُ الكتب المتعلِّقة بالإسلام والشرق الأوسط في الدول الغربية بشكل واضح في الفترة التي تلت مباشرةً 11 سبتمبر،د وفقًا لبعض الدراسات. وسُجِّل بالخصوص إقبالٌ على شراء نسخ من القرآن المترجم”، هكذا برهن الكاتب على كلامه حول تأثر الدراسات الشرقية بتلك الأحداث.

جمعية دراسات الشرق الأوسط (MESA)

تنشر هذه الجمعية الأمريكية “مجلة دراسات الشرق الأوسط” وغيرها من الدوريات التي تناقش بشكل أساسي الشرقَ الأوسط وما يتعلق به من أمور، ومن أبرز رموز هذه الجمعية:

  • رشيد الخالدي: الذي بيَّن أن الشرق الأوسط لم يكن يحظى بشعبية كبيرة في الولايات المتحدة، مستشهدًا بالأفلام والأغاني والرسوم الكاريكاتورية وغيرها من منتجات الثقافة الشعبية قبل 11 سبتمبر.
  • جويل بينين: والذي ترأس جمعية دراسات الشرق الأوسط في 2002م، وقال إن الولايات المتحدة “تتمتع نوعًا ما بحصانة فريدة ضد عواقب أفعالها في العالم”. وقصد (بينين) بذلك الشعور السائد قبل 11 سبتمبر، لذلك كانت الأحداث مصدر إزعاج كبير على كافة الأصعدة.

وقد أكد (بينين) عبثية الفرضية القائلة: إن المسلمين أو الشرق أوسطيين يكرهون الولايات المتحدة فقط لأنها الولايات المتحدة، وليس بسبب ما يعانونه من آلام، تُنسب مسؤوليتها خطأً أو صوابًا للأمريكيين.

قال (بينين): “الجهل بشؤون الشرق الأوسط والإسلام هو ترف لم يعد مجتمعنا قادرًا على تحمله”، هو بذلك يشير إلى الفشل الذريع لتلك الدراسات قبل ذلك.

الاستشراق

يدور الكاتب حيال الحديث عن هذا الملف الشائك «الاستشراق» في فلك كتاب (إدوارد سعيد) -العربي الأصل الأمريكي الجنسية-، الذي ألَّف كتابًا من أهم الكتب في باباها تحت عنوان “الاستشراق”. فهو كما يقول د.هشام القروي: “يُمثل كتاب الاستشراق بالتأكيد أحد أكثر النصوص التحليلية النقدية تأثيرًا في المجال الأكاديمي للدراسات الشرقية”، ويستند إدوارد سعيد في طرحه لكتاب الاستشراق على ثلاثة أفكار رئيسية وهي:

  1. أنَّ الاستشراق، مع اجتهاده باتجاه الموضوعية والتنزه عن المصلحة، فإنه في الواقع قد خدم أهدافًا سياسية.
  2. مساعدة الاستشراق لأوروبا في بناء صورتها الخاصة.
  3. إنتاج الاستشراق وصفًا مضللًا للحضارة العربية الإسلامية.

بالتأكيد أثارت هذه الأفكار إزعاجًا في الأوساط الأكاديمية، حيث لاقى الكتاب وصاحبه وكل شخص تبنى أفكاره الكثيرَ من الانتقادات اللاذعة المصحوبة باتهامات التحيز للعرب والمسلمين ضد الإمبراطورية الغربية، وعلى رأسها أمريكا، على الرغم من أن إدوارد سعيد نفسه لم يكن مسلمًا، وهو لم يكتب كتابه عن العرب أيضًا، وإنما كان محل نقاش كتابه هو “دراسة في الأدب الغربي” الذي كان من نتاجه الاستشراق.

بسبب هذا الكتاب الصادم للأوساط الغربية سأل البعض: “لماذا تُستخدم أموال الضرائب التي يدفعها الأمريكيون في تمويل مثل هذه البرامج التي أنتجت منتجًا مثل كتاب الاستشراق؟” وقد اتهم (كرتز) إدوارد سعيد ومن تبنى آراءه بأنهم يُروّجون لعقائد غريبة عنهم، فقام د.هشام القروي بالرد على ذلك بتوجيه سؤال محوري: “كيف أمكن لهذه العقائد أن تجد طريقها لتصبح جزءًا من المناهج الدراسية في العديد من الجامعات عبر العالم؟ هل جميع هؤلاء الأكاديميين في العالم مصابون بالعمى إلا كرتز؟”

تزايد الاهتمام بالشرق الأوسط بعد 11 سبتمبر

أصبحت مراكز البحث تتلقى التمويل بناءً على المواضيع التي تخدم السياسة الخارجية للولايات المتحدة، وأصبح هذا تشريعًا جديدًا في القانون الأمريكي، أيَّده وبشدة المحافظون الأمريكيون الذين اعتبروا الوضع السابق تبديدًا للأموال الممنوحة بموجب القانون السادس من قانون التعليم العالي، والذي تغيّر للوضع المذكور آنفًا.

معركة المصالح

كان من الملحوظ جدًا عقب أحداث 11 سبتمبر ازدياد عدد الخبراء الأمريكيين بشؤون الدفاع والخارجية على شاشات التلفزيون، ومن نفس الطريق دخلت مراكز البحث عالم الأضواء والشهرة وحظيت باهتمام الإعلام. هذا الالتحام الحاد الذي حدث بين الإعلام ومراكز البحث لم يكن التحامًا عاديًا، وإنما كان التحامًا براغماتيًا مصلحيًا من الدرجة الأولى، أسفر عنه خضوع مراكز البحث لتوجهات الإعلام الخاضع لرأس المال الأمريكي.

لذا أصبحت مراكز البحث التي لا تخدم تلك المصالح في منافسة شرسة مقابل تلك التي تحظى بدعم المال والإعلام.

سلطة الإعلام

سلطة الإعلام، أو كما سمَّاها الكاتب مُدراء العقول، هي التي تُوجّه الرأي العام في كل مكان في العالم، وكان من أبرز من قام بتفعيل هذا الدور هو (إدوارد بيرنيز) ابن أخت عالم النفس الشهير (سيجمونت فرويد)، والذي قام بتجارب أثبتت مدى قدرة الإعلام على اللعب بعقول الجماهير وتوجيهه تجاه شيء معين، وهذا هو عين ما تريده الشركات وأرباب المصالح.

سلطة الشركات

لعبت الشركات الأمريكية دورها في التحكم في الوعي الأمريكي بطريقة غير مباشرة، عن طريق الإعلام… وليس أمر استجواب “زوكربرج” مدير فيس بوك في الكونجرس بسبب التلاعب بالانتخابات الأمريكية الأخيرة ببعيدٍ.

أبرز الكاتب مدى الارتباط بين رأس المال الأمريكي وبين الإعلام ومراكز البحث، حيث يوجد الكثير من القنوات التي لا تغطي تكاليفها السنوية، بالرغم من ذلك فهي مستمرة في العمل، ويرجع السبب إلى الإغداق الرأسمالي تجاه الكثير من المحطات بغية خدمة مصالح تلك الشركات وارتباطاتها في الشارع الأمريكي.

يطرح د.هشام القروي سؤالًا هامًا يقول فيه: “ما بالضبط نوع العلاقة التي قد تربط صحيفة مثل نيويورك تايمز أو واشنطن بوست بشركات الطيران، والدفاع، والمالية وما إلى ذلك… وفي نفس الوقت، بالجامعات والمراكز البحثية، وفي النهاية بالإدارة؟”

في الحقيقة لم يجد د.هشام جوابًا على هذا السؤال سوى المال والتمويل، وهي الظاهرة التي ذكرناها في بداية المقال الأبواب الدوارة للسلطة“. ويتابع ويستطرد الكاتب في هذا السياق ليبيّن أن الارتباطات البحثية الأكاديمية أصبحت مرهونة أيضًا بالتمويل، لذلك من الأفضل لتلك المراكز إذا ما أرادت أن تستمر في العمل أن تستهدف تلك المواضيع والأبحاث التي تخدم توجهات الشركات الأمريكية والسياسة الخارجية لأمريكا. وأما عن تلك المراكز البحثية المعنية بالشرق الأوسط فلم تكن أفضل من غيرها، إذ لم يكن ليتم دفع الأموال إليها إلا إذا تبنَّت المواضيع التي تتبناها مراكز صناعة القرار الأمريكي.

“إن السياسة الخارجية، ودراسات الشرق الأوسط، ومختلف البرامج البحثية والأكاديمية تخضع في النهاية لعدد قليل ممن يملكون الثروة والإمكانات المادية الضخمة”، هكذا ختم الكاتب حديثه في هذا الشأن، تاركًا إيَّانا نسبح في التأمل في ملحق في آخر الكتاب وضع فيه أسماء كبرى شركات أمريكا، وأمام كلِّ واحدةٍ منها الارتباطات التي تربطها بمراكز بحثية ومحطات إعلامية كثيرة. كان من المدهش أن تعلم أنّ الكثير من هذه الشركات يُدير مجلسَ إدارتها نفسُ الأشخاص تقريبًا، أي أنَّ الأمر ليس مجرد ارتباط مصالح، بل تخطى ليكون توحيد سياسة عمل.

اقرأ أيضًا: كيف لمراكز البحث الأمريكية أن تُطلعنا على مخططاتها؟!

ختامًا

ومن الجدير بالذكر أن هذه الدراسة رغم غناها بالكثير من التحليلات الهامة، إلا أنها تحتاج أرضية معرفية من القارئ كي يكون في تناغم مع الكاتب أثناء العرض، لذا حاولنا قدر الإمكان تبسيط ما أمكننا تبسيطه، كما أن مثل هذه الدراسات الدسمة -وإن كان قارؤها غير المتخصص يجد بعض الصعوبة فيها- إلا أنها تفتح له آفاقًا جديدة في التفكير قلما نجدها في دراسات أخرى.

هذه الدراسة صادرة عن شخص متخصص مستوعب لقضايا عدة، لذا ليس من المُستغرب أن تجده ينتقل من فكرةٍ إلى أخرى بكل أريحيةٍ ويسر.

في النهاية، لا يسعنا إلا أن نُوجِّه قارئنا الكريم إلى مزيدٍ من البحث والتنقيب حول مثل تلك القضايا والأطروحات كي يستوعب الدور الكبير الذي تلعبه مراكز البحوث، فهذا يجعله في تواصل دائم مع العالم حوله.

عمرو مهدي

مُتعلِّمٌ على سبيل نجاة، يحاول نشر الوعي، ويسعى إلى إعادة توجيه ثقافة مجتمعه إلى ما… More »

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى