في ذكرى ولادة الديموقراطية الأمريكية: الأمريكيون يؤيدون العنصرية ضد الهنود الحمر

الشعب الأمريكي يقترع لاضطهاد السكان الأصليين

مثلت رئاسة الرئيس الأمريكي السابع أندرو جاكسون (1829-1837) مرحلة جديدة في الديمقراطية الأمريكية، ومتقدمة في تمثيل الشعب عن مرحلة الثورة، والتي اتسمت بنخبويتها والأرستقراطية التي سيطرت على الجمهورية أثناءها. فقد تقدمت الديمقراطية الجاكسونية، نسبة إلى جاكسون، على الموجة الثورية التي اجتاحت أوروبا في ثلاثينيات القرن التاسع عشر.

الرئيس السابع للولايات المتحدة الأمريكية أندرو جاكسون
الرئيس السابع للولايات المتحدة الأمريكية أندرو جاكسون

فهُزمت نخبة الأرستقراطية واندحرت “هذه الجماعات أمام الديمقراطية السياسية غير المحدودة التي حملتها إلى السلطة أصوات المرابطين على الحدود وصغار الفلاحين والفقراء في المناطق الحضرية، وكان ذلك ابتداعًا مدهشًا”[18]، وأصبح الرئيس جاكسون رمزًا للتقاليد الشعبية القومية التي مثلت أبناء الغرب والجنوب الأمريكيين في مقابل نخبة الشمال الشرقي. وكان من مبادئ هذه التقاليد:

“الدعوة للوطنية البيضاء، معاداة النخبة، معاداة المفكرين، وكراهية الشمال الشرقي” بالإضافة إلى “العداء الشرس للأعراق الأخرى”[19].

شعبية جاكسون لشراسته ضد السكان الأصليين

اكتسب جاكسون شعبيته من كونه مقاتلاً شرسًا ضد السكان الأصليين، ومع وصوله إلى منصب الرئاسة كانت قضية الهنود المتبقين داخل المناطق الشرقية من الولايات المتحدة تطرح نفسها بقوة على المجتمع الأمريكي الرافض بقاءهم بين السكان البيض رغم التقدم الحضاري الكبير الذي أحرزته القبائل الهندية في الجنوب الأمريكي، إلى درجة جعلت حتى أعداءها يقرون بكونها قبائل “متمدنة”، كما كان سكان التخوم يتطلعون إلى رئاسة جاكسون لتقديم الدعم لهم ضد الهنود في الغرب، ولم تخسر حملته الانتخابية ولاية واحدة من الولايات المواجهة للسكان الأصليين[20].

نقل الهنود غرب المسيسبي لإنقاذهم!

تبنى جاكسون نقل الهنود من الشرق إلى غرب المسيسبي وهو إجراء اقترحه مؤسس الجمهورية جورج واشنطن في البداية ونظّره الرئيس الثالث توماس جيفرسون كاتب إعلان الاستقلال وبدأ تطبيقه الرئيس الخامس جيمس مونرو، ثم اكتسب زخمه زمن جاكسون وخليفته مارتن فان بورين. إلا أن جاكسون حمل عبأه الأكبر[21].

تهجير الهنود الحمر

فهو الذي أقر القانون الخاص بالنقل (1830) وتابع هذه السياسة بلا رحمة ضد القبائل الخمس المتمدنة، فعزف على وتر فساد الزعامات الهندية وآثارها الضارة على الهنود (كورقة الاستبداد والديكتاتورية في زمننا!) رغم أنه لم يكن مهتماً بنشر الديمقراطية بينهم ولا راغبًا بمعاملتهم كأمم مستقلة كما يعترف مؤرخ يميني معاصر[22]؛ لا سيما مع موجات الهجرة إلى أمريكا والتي زادت الحاجة إلى أراض جديدة، وبعد اكتشاف الذهب في أراضي بعض هذه القبائل وقيام الأمريكيين بتخريب مزارع الهنود (المتهمين بعدم ممارسة الزراعة!) وسرقة مواشيهم.

إما الهجرة أو الموت

ولهذا حلا لجاكسون أن يجعل من سياسة النقل الحل الإنساني الوحيد “لإنقاذ” الهنود! حتى وصلت أوج قسوتها بالرحلة التي نُقل فيها ستة عشر ألفاً من قبيلة شيروكي بالقوة المسلحة على يد سبعة آلاف جندي أمريكي بعد حصار الهنود في معسكرات اعتقال، من جورجيا إلى أوكلاهوما في الغرب (800 ميل) وقد مات ربعهم على الأقل في الطريق من البرد والجوع والمرض، ولم يكن يُسمح لهم بدفن الموتى مما جعلهم يطلقون على هذه الرحلة اسم درب الدموع، فمرحى لهذا “الإنقاذ” الذي أصبح وصمة عار في التاريخ الأمريكي.

تأييد الأمريكيين لسياسة النقل

لقد أيد ملايين الأمريكيين سياسة نقل الهنود، واضطر معارضوها من السياسيين إلى التعرض للنبذ والعزل، وكما يعرض الوزير الأمريكي المحافظ وليام بينيت الأمر بتسلسل منطقي فيقول:

المهاجرون والمواطنون (الأمريكيون) يصوّتون، الهنود لا يصوّتون، الديمقراطية الجاكسونية كانت قد أعلنت أن الشعب سيحكم، والشعب الأمريكي، مع استثناءات قليلة، لم يساند سياسة نقل الهنود وحسب بل طالب بها. وإن جاكسون يصوّر دائما كريفي رجعي شبه أمّي، هكذا يراه أعداؤه، ويستدلون بسياسته تجاه الهنود بصفتها مثلًا للجهل والتعصب.

ضفاف متوهجة_الهنود الحمر والقتلة

ولكن جاكسون حصل على دعم ملايين الأمريكيين الذين وافقوا على هذه السياسة، فالهنود لم يكونوا يعدّون سوى إرهابيين.حتى في نظر الرئيس جيفرسون المتنور! ويضيف قائلًا: إنه تحت حكم جاكسون مارس الأمريكيون الاقتراع أكثر من جميع الأمم على الأرض مما جذب رجلًا فرنسيًا كأليكسيس دي توكفيل لتحليل ظاهرة الديمقراطية في أمريكا، وقد حطم جاكسون مصرف الولايات المتحدة ورحّل الهنود غرباً مما منحه تأييداً شعبياً كاسحاً في أيامه ولكنه استحق نقدًا شديدًا من قبل المؤرخين منذ ذلك الحين[23].

سبب السياسة الجاكسونية

ويحلل المؤرخ أناتول ليفن هذه السياسة القومية الجاكسونية معيدًا إياها إلى أصول جاكسون الإيرلندية الإسكتلندية البروتستانتية التي أبادت الإيرلنديين الكاثوليك في ألستر بشمال إيرلندا، وجلبت إلى أمريكا إرثها العدائي وأساليبها الحربية الخالية من الرحمة. ويشير إلى صدور التقاليد الجاكسونية من مناطق التخوم والمواجهة مع السكان الأصليين، حيث استوطن الإيرلنديون الاسكتلنديون. وقد ظل تأثيرها قويًا إلى يومنا هذا إذ جعلت اليمين الأمريكي يتعاطف مع الكيان الصهيوني بعدما تخلى عن معاداة اليهود التقليدية في تراثه وصار يتماهى بشدة مع هذا الكيان[24].

الديمقراطية الغربية تتبنى العنصرية لتتلاءم مع الإمبريالية

لاحظ المؤرخون المفارقة في السياسات القومية آنفة الذكر التي يُفترض تناقضها مع الشعارات الأولية للتنوير الأوروبي، فوجد المؤرخ الأمريكي كرين برينتون أن الشعارات القومية “التي تمتدح فريقًا قوميًا وتسمو به إلى مرتبة السادة، وتهبط بالآخرين إلى مستوى العبيد، أو التي استهدفت تعمير الأرض بفريق واحد تراه الشعب المختار، وتعمد بالتالي إلى استئصال الآخرين، فهذه كلها شعارات تتعارض مع المثل العليا للقرن الثامن عشر”[25].

ويعترف بالمعضلة التي تكونت من واقع تعايش هذه الأفكار مع أفكار التنوير: والحقيقة أن العلاقة بين أفكار النزعة القومية وبين المثل العليا للتنوير هي من الموضوعات الشائكة جداً التي يصعب تحليلها، ذلك أن فكر التنوير أكد أن كل الناس سواسية، وأن كل الفوارق المتعلقة باللون وما شابه ذلك هي فوارق سطحية لا أثر لها على قدرة الإنسان على استيعاب الثقافة والحياة الطيبة، ومن ثم كان هذا الفكر فكرًا عالميًا “كوزموبوليتانيًا” في نظرته، وسقط القرن التاسع عشر في مصيدة العقائد القومية وخان أسلافه مفكري التنوير، وسمح بنمو النزعة القومية الانقسامية والتي لا نزال نعاني منها[26].

خيانة التنوير (إبادة واستعباد واستعمار)

ولكن شيوع ما يصفه برينتون بخيانة التنوير تجعل من وصفه معضلة لا سيما عند الضحايا الذين لم يروا من هذا التنوير سوى خيانته. فما يوصف عادة بالانحراف عن المسار الصحيح لا يكون عامًا وشاملًا ذلك الشمول الذي انطوت عليه “الخيانة” القومية في الغرب ضد التنوير، والتي أدت إلى كوارث كبرى كإبادة سكان ثلاث قارات (الأمريكتين وأستراليا)، واستعباد قارة رابعة (إفريقيا) واستعمار قارة خامسة (آسيا)، وما رافق كل ذلك من حروب كبرى وصغرى جعلت من العالم جحيمًا لا يمكن أن يكون القائمون عليه مجرد منحرفين عن مثل أعلى سام إلا أن يكون هذا “الانحراف” كامنًا في صلب التنوير نفسه.

الغزو الأمريكي للعالم

كما شرح ذلك بتفصيل مفكر كبير هو الدكتور عبد الوهاب المسيري رحمه الله عندما قال: إن الإبادة كامنة في الحضارة الغربية الحديثة التي نظرت إلى الكون نظرة مادية أصبحت هي النموذج التفسيري الحاكم منذ منتصف القرن التاسع عشر، فانتقل الإنسان في هذه الرؤية من مركز الكونK وصاحب المرجعية المستقلة عن الطبيعة المادية، كما قضى الفكر الإنساني في بداية النهضة والتنوير، إلى جزء من هذه الطبيعة يسري عليه ما يسري عليها من قوانين منفصلة عن الغائية الإنسانية؛ فأصبحت مجالات النشاط البشري كالاقتصاد والسياسة والعلم والفلسفة منفصلة عن المعيار الأخلاقي المجاوز للمادة كالعدل والمساواة. وخاضعة لقوانين المادة التي جعلت من هذا الإنسان مرجعية نفسه وقانون ذاته بعد استبعاد المنظومة الأخلاقية المتجاوزة.

وأصبح من حق الغربي صاحب هذه الرؤية استخدام العالم كما يحلو له وتحويله إلى وسيلة لخدمة مصالحه، وفي هذا الإطار ظهرت النفعية الداروينية والداروينية الاجتماعية[27].

منشأ الانحراف تجاه السكان الأصليين

وعلى كل حال فقد أوضح المؤرخ الأمريكي والتر مكدوجال منشأ هذا “الانحراف” في السياسة الأمريكية تجاه السكان الأصليين في عهد جاكسون فقال:

وفي الحق أن التمييز العنصري كان شرطًا ضروريًا للتوفيق بين التوسع والحرية، وكان لا بد أن يُفهم أن ليس للهنود حقوق المواطنة، وإلا كيف يمكن أخذ أراضيهم؟! وأبعد من ذلك، أن معظم الأمريكيين اعتقدوا أن دونية الهنود لم تكن بناء من صنعهم، ولكن حقيقة واقعية واضحة[28]

وبهذا يتضح أن العامل النفعي، هو الذي دفع التنوير الحر والديمقراطي للتلاؤم مع العنصرية ومن ثم التوسع لتمهيد الطريق أمام الاستيلاء على ممتلكات السكان الأصليين ومواردهم، ويصرح المؤرخ نفسه أن العنصرية لا تصلح لتفسير مجمل التاريخ الأمريكي الذي واجه البيض الآخرين الذين عرقلوا التوسع الأمريكي كالأوروبيين والكونفدراليين كما واجه الأعراق الأخرى[29]، ومن ثم كان تبني العنصرية ضد الهنود خاضعًا لحسابات المنفعة المتأتية منها، وهو ما يجعل الجريمة مركبة وينطبق على عذر التوسعي الذي يبرر فعله بالعنصرية مقولة: عذر أقبح من ذنب. فكون المرء يستخدم لصالحه ما لا يعتقده صلاحًا ليس مما يستوجب الإطراء.

المنفعة تبرر الوسيلة

ولكن، أليست المنفعة هي صلب الحضارة الغربية الحديثة؟ ومن ثم يصبح ما يندرج تحت عنوانها مطلوبًا وشرعيًا؟ وبذلك تذوب المعضلة وتصبح كل جرائم النزعة القومية في الغرب أكبر من مجرد “انحرافات” جانبية أو “خيانات” للمسار الحضاري القويم، وهو ما يؤدي للعجب من دعوة بعض المفكرين لعدم تلخيص عصر التنوير في هذه الأخطاء التي يقرون بكونها “أكثر أخطائه سلبية” وأن هذه الأخطاء “غطت بسرعة على جوانبه الأخرى”[30]، وهي جوانب لم ينل منها غير الأوروبيين إلا الفتات، فكيف عليهم الاحتفاء بما كانوا مجرد هامش فيه؟؟

التوسع أساس الديموقراطية الأمريكية

وقد أشار مؤرخ التخوم الأمريكي الشهير فردريك جاكسون تيرنر في بحثه المعروف “أهمية التخوم في التاريخ الأمريكي” (1893) إلى أن التوسع هو أساس الديمقراطية الأمريكية، وأكد في بحث تالٍ هو “مشكلة الغرب” (1896) أن:

تمدد الحدود الأمريكية نحو الغرب كان العامل الرئيس في تطور ونمو الاقتصاد والمجتمع الأمريكيين.

التوسع الأمريكي

وهو ما أكده مؤرخون آخرون شرحوا أهمية الأرض التي تم الاستيلاء عليها من الهنود، بصفتها المورد الاقتصادي الرئيس في الحياة الأمريكية والذي يوفر الأساس المادي لإشاعة الديمقراطية الاقتصادية والفردية والازدهار بل وتحقيق الحرية والمساواة في المجتمع الأمريكي بالإضافة إلى كونها صمام أمان اقتصادي يقي هذا المجتمع من الاضطرابات[31]، وقد تنبأ تيرنر كذلك باستمرار التوسع الأمريكي بعد نهاية الحدود الهندية وأن الولايات المتحدة ستتطلع إلى ما وراء القارة[32]، وهو ما حدث بالفعل.

أين كان التنوع الفكري في المجتمع الديمقراطي الأمريكي؟ وهل كان الجميع فيه متفقين على سحق السكان الأصليين؟

يلاحظ المؤرخون أن المواقف الإنسانية في المجتمع الأمريكي كانت منبوذة في بدايات الاستعمار الاستيطاني منذ القرن السابع عشر وكان أصحابها يواجهون الطرد والعزل والسجن من السلطات الدينية المتشددة، وأن ذلك الأمر تغير ولكن بعد فوات الأوان. فسكان الساحل الشرقي أصبح من السهل عليهم بعد أن تم القضاء على الهنود في تلك المنطقة وزوال خطرهم أن يقوم فيها من يطالب بمعاملة السكان الأصليين معاملة عادلة. ولهذا تعرض هؤلاء الإنسانيون لسخرية سكان الغرب من صحوة الضمير المتأخرة التي تنكر على غيرها ما قبلته لنفسها وهم منهمكون في صراع مع الهنود مشابه للصراع الذي كان قبل ذلك في منطقة الساحل الشرقي.

us-imperialism

ومع ذلك فإنه من المثير ملاحظة أنه حتى هذه الإنسانية كانت مهتمة “بإنقاذ” الهندي ولكن على طريقتها الخاصة سواء بتفضيل تحطيم منجزاته في أرضه والاستيلاء عليها ونفيه بعيدًا إلى الغرب بحجة عزله عن الآثار الضارة لوجوده وسط المجتمع الأبيض، ثم باختراع حجة جديدة للاستيلاء على ما تبقى من أرضه لما لم يعد هناك غرب أبعد لنفيه وذلك بجعله يتبنى مجمل النموذج الحضاري للرجل الأبيض، والذي يتضمن تنازل الهندي عن جميع أراضي قبيلته وقبوله بحصة قيل أنها تكفي أسرته الصغيرة فقط، وهو ما ساعد، بالصدفة طبعا وبنية صافية، على تجريد السكان الأصليين من بقية أراضيهم ورميهم في بحور الفقر والبؤس والحرمان!!

يؤيدون حق الهندي ولكن!

وبالطبع وجِدت دائماً آراء متعددة ومختلفة ومتناقضة، ووجِد دائماً من يؤيد حق الهندي ويناصره، ولكن ما هي قوة حضوره أو أثر آرائه على مسيرة المجتمع العامة؟ وماذا جنى الهندي ممن ناصروه وماذا جنينا في الزمن المعاصر ممن يناصرون قضايانا داخل المجتمعات الغربية والمجتمع الصهيوني؟ وهل عاد حق مهما صغر نتيجة تأييد هذه القوى الضعيفة في مواجهة سيل المصالح الكبرى المضادة؟ وإلى متى على المظلوم أن ينتظر قبل أن يتغير المجتمع الظالم ويعيد إليه حقوقه طوعًا؟ وما هي السوابق التاريخية التي تثبت جدوى هذا الانتظار؟ وهل يمكن تحقيق هذا التغير بغير المقاومة المسلحة؟ ولو كان ذلك ممكناً، فكم قرنًا يلزم لإحداث هذا التغير السلمي حتى نصل إلى زمن المدينة الفاضلة المختلفة حتى عن مُثل الغرب كيوتوبيا توماس مور الاستعمارية التي سبق ذكرها؟

إنهم كلاب! أين هؤلاء الشرفاء؟

وقد جسدت رواية “رامونا” (1884) للكاتبة الأمريكية هيلين هنت جاكسون معضلة المظلوم أمام دعوى وجود من ينصره داخل مجتمع الظالمين فجاء في حوار عن الأمريكيين بين بطلة الرواية وزوجها الهندي ما يصلح للرد على من يتعلق في زمننا بأوهام النصرة من اليسار والليبرالية داخل المجتمعات الغربية:

 أوه يا ماجيللا…إنهم كلاب!

رامونا

وكان أليساندرو قلما يتحدث بمثل هذه الحرارة. ولكن ما حدث لقومه أخيرًا أشعل في عروقه نيران الاحتقار والحقد التي ما كانت لتنطفئ يومًا. ومن ثم كان من المستحيل عليه أن يثق بأمريكي بعد ذلك. وكانت هذه الكلمة بمفردها ترمز إلى الخداع والقسوة، وقالت رامونا:

لا أعتقد أنهم جميعًا بمثل هذا السوء يا أليساندرو. لا بد أن بينهم رجالاً شرفاء. ألا ترى هذا.

فصاح أليساندرو بحدة: أين هم إذن؟ أين هؤلاء الشرفاء، إن بين قومي رجالًا أشرارًا حقًا، ولكن العار يجللهم دائمًا وكان أبي (الزعيم) يعاقبهم. بل أهل القرية جميعًا كانوا يعاقبونهم. فإذا كان بين الأمريكيين رجال شرفاء لا يخدعون ولا يقتلون، فلماذا لم يطاردوا هؤلاء اللصوص ويعاقبونهم. ثم كيف يضعون القوانين التي تمكنهم من الاحتيال على غيرهم؟ إنه القانون الأمريكي الذي اغتصب (قريتنا) تيميكيولا وأعطاها لهؤلاء الناس. إن القانون في جانب هؤلاء اللصوص.

لا يا ماجيللا؟ إنه شعب سارق. هذا هو اسمه الحقيقي..شعب يسرق ويقتل من أجل الذهب (واليوم من أجل النفط!). أليس هذا الاسم جديراً بهذا الشعب الذي يبلغ من الكثرة ما تبلغه الرمال في قاع البحر؟”[33].

الرواية تجلب المزيد من الظلم للهندي

والغريب أن هذه الرواية الشهيرة التي قصدت مؤلفتها لفت الأنظار إلى المظالم التي وقعت على السكان الأصليين والدعوة إلى إنصافهم، كما تحرر العبيد بالدعاية التي نشرتها رواية كوخ العم توم، كانت سببًا في وقوع مزيد من الظلم على الهنود والتسبب في مزيد من الشقاء لهم وذلك بإثارة الطمع في الأراضي الهندية الساحرة في كاليفورنيا وحفظ الاستيطان فيها على حساب أصحابها.

1560775_606773866039153_951818241_n

ثم بإثارة مشاريع التمدين التي سهلت سلب أراضي الهنود تحت عناوين براقة جدا جعلت من هذا القرار (1887) بالنسبة لسكان أمريكا الأصليين معادلاً للميثاق العظيم، أو وثيقة الماجنا كارتا (1215)، وإعلان الاستقلال الأمريكي (1776)، وتحرير العبيد (1863)، كلها معاً[34]. وهو ما سيتكشف زيفه الفاضح بمرور السنين وسيتبين الأثر الواضح للمصالح المادية في إصدار هذا القانون الذي لم يكن ليصدر على هذه الشاكلة لو لم تكن هناك مصالح كبرى مستفيدة منه واتخذت من تمدين الهندي-بغرس مفهوم الملكية الخاصة لديه-شعاراً يسكت وخز الضمير ويزاوج بين المبدأ والمصلحة.

وهذا التفاوت الكبير بين أثر”رامونا” وأثر “كوخ العم توم” يثير تساؤلات جادة عما يقال عن مشاعر أخلاقية كانت وراء السياسات الأمريكية الخاصة بتحرير الرقيق لا سيما في وجود دلائل قوية عن وجود مصالح استفادت من هذا القرار ولم تعبأ بالعبد نفسه كما هو مفصل في دراسة (أمريكا مدينة على تل أم صنم على جبل/ 1).

الإنسانية الأمريكية لكن بعد فوات الأوان!

ومرة أخرى لم تعدل الإنسانية الأمريكية موقفها وتنادي بالمحافظة على الهندي إلا بعد زواله عمليًا من الوجود بحلول القرن العشرين. وحتى بعد هزيمة المقاومة الهندية المسلحة وانعدام الخطر على الرجل الأبيض مما سمح، بعد فوات الأوان، بانبثاق الوعي بهول الجريمة المرتكبة ضد السكان الأصليين في الماضي، حتى بعد ذلك يلاحظ المؤرخ الفرنسي مارك فيرو أن انبثاق هذا الوعي، لم يفض إلى تغير سياسة واشنطن المعاصرة نحو محميات السكان الأصليين[35]، وهي سياسة فصلتها في دراسة (الحوار الحضاري في التاريخ الأمريكي).

يتبع..


الهوامش:

[18] -إريك هوبزباوم، عصر الثورة: أوروبا (1789-1848)، المنظمة العربية للترجمة، بيروت، 2007، ترجمة: د. فايز الصياغ، ص 223.

[19] -أناتول ليفن، ص 242-243.

[20] -William J. Bennett, America: The Last Best Hope, Thomas Nelson, Nashville, 2006, Vol. I, p. 214.

[21] -نفس المرجع، ص 243.

[22] -نفس المرجع، ص 241-242.

[23] -نفس المرجع، ص 243-244.

[24] -أناتول ليفن، ص 241-242.

[25] -كرين برينتون، ص 229.

[26] -نفس المرجع، ص 223-224.

[27] -الدكتور عبد الوهاب المسيري، الفلسفة المادية وتفكيك الإنسان، دار الفكر، دمشق، ودار الفكر المعاصر، بيروت، 2003، ص 196-198.

[28]-والتر أ. مكدوجال، أرض الميعاد والدولة الصليبية: أمريكا في مواجهة العالم منذ 1776، دار الشروق، القاهرة، 2001، ترجمة: رضا هلال، ص 133.

[29] -نفس المرجع، ص 134.

[30]-صوفي بيسيس، الغرب والآخرون: قصة هيمنة، دار العالم الثالث، القاهرة، 2002، ترجمة: نبيل سعد، ص 49.

[31] -Richard Slotkin, The Fatal Environment: The Myth of the Frontier in the Age of Industrialization, 1800-1890, University of Oklahoma Press, Norman, 1998, pp. 116, 183, 211, 252, 299.

-David Reynolds, America, Empire of Liberty: A new History of the United States, Basic Books, New York, 2009, p. 62.

-Eric Foner, Reconstruction: America’s Unfinished Revolution 1863-1877, History Book Club, New York, 2005, p. 463.

-Edmond S. Morgan, American Slavery, American Freedom: The Ordeal of Colonial Virginia, History Book Club, New York, 2005, p. 377.

– دان لاسي، مولد أمة، دار الآفاق الجديدة، بيروت، ص 141.

-Francis Paul Prucha, The Great Father: The United States Government and the American Indians, University of Nebraska Press, Lincoln, 1995, p. 29.

-Colin G Calloway, The American Revolution in Indian Country, Cambridge University Press, 1995, p. 300.

-Robert A. Williams, p. 280.

[32] -Richard Drinnon, Facing West: The Metaphysics of Indian-Hating & Empire-Building, University of Oklahoma Press, Norman, 1997, pp. 460-461.

[33] -هيلين هنت جاكسون، رامونا، دار النهضة العربية، القاهرة، 1964، ترجمة: حسين القباني، ص 442-443.

[34] -Robert M. Utley, The Indian Frontier of the American West 1846-1890, University of New Mexico Press, Albuquerque, 2002, p. 215.

[35] -مارك فرو (تحرير)، الإستعمار: الكتاب الأسود(1600-2000)، شركة قدمس للنشر والتوزيع، بيروت، 2007، ترجمة: محمد صبح، ص20.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى