أمريكا وقضية السلام في فلسطين

أثار إعلان ترامب مدينة القدس المقدسة، عاصمة لدولة بني صهيون ثائرة الجماهير، وغضب الغيارى المسلمين وهذا رد فعل فطري لكل من يحمل حبا لدينه ومقدساته، لكن المستغرب هو تلك الصدمة التي بدت ملامحها واضحة على وجوه ساسة السلطة الفلسطينية، حين استيقظوا على فجيعة الصفعة الأمريكية!.

وما يدفعني للاستغراب هو أن هؤلاء “السذّج” كانوا ينتظرون بجد دورا أمريكيا فعالا ينصرهم ويرد لهم حقوقهم فيما يسمى بعملية السلام!، وما هي إلا عملية استسلام.

تاريخ من الفشل

فمنذ أكثر من عشرين سنة وأمريكا تلعب دور الحكم والمدير لعملية السلام بين الفلسطينيين واليهود، ولم تحقق هذه السنوات الطوية أي إنجاز يستحق التقدير سوى مزيد اعتراف بالدولة الصهيونية ومزيد تواطأ مع جرائمها المتواصلة ومزيد هيمنة على الحريات الفلسطينية، كل هذا لأجل وأد أي حراك ثوري أو تحرري كانت شرارته تتوقد بين الحين والآخر ، عندما ينتفض الفلسطينيون حنقا على محتل غاصب فتثير غضبتهم الرعب في نفوس الصهاينة ولو كانت بحجر صغير .

وقع الصراحة

وفي الحقيقة إن ترامب لم يفعل أكثر من تبيانه الموقف الأمريكي بصراحة، لم ينافق ولم يجاري السذاجة الفلسطينية بل عمد إلى أسلوب الصفاقة والوقاحة الأمريكية المعتادة، وحين شاهد موقف الامتعاض من جانب السلطة الفلسطينية أمعن في صراحته وبدأ يمن بمساعدات الأمريكان بملايين الدولارات، والتي تعتبر كافية لإخراس أي انتقاد لأمريكا، وكأنها صفقة شراء ذمم، ثم يمعن أكثر بصفاقته ووقاحته حين يعتبر غصب القدس لصالح اليهود هو تقدم إيجابي نحو حل للقضية الفلسطينية، وكأن المعتوه ينتظر أن يكون بعد القدس مساحة لحوار أو مكسب،  وصرح بصفاقته المعتادة قائلا: إن “إسرائيل لها الحق في تقرير ما ستكون عاصمتها، وهذا شرط ضروري لتحقيق السلام”.!، فأي سلام ينشده المسلمون من قائد صليبي محالف للصهاينة مثل ترامب.

نظرة على تاريخ الرعاية الأمريكية لعملية الاستسلام

اقترن اسم أمريكا باتفاقية كامب ديفيد في عامي 1977و ،2000 وبمؤتمر مدريد واتفاقية أوسلو في1993، وطابا 2001، ومبادرة السلام العربية في 2002 ، ثم اتفاق جنيف 2003، وبعدها أنابوليس في 2007، ثم اللقاء السري في الأردن 2012 وباءت جميع هذه المفاوضات بالفشل، لم تستطع أن تحقق أحلام الفلسطينيين باعتراف دولي بدولتهم ولا بضمان عدم تعدي اليهود عليهم وتماديهم في القمع والاستيطان، فإما انقطعت بانتفاضة فلسطينية أبية أو بمقاطعة يهودية خبيثة، ثم خلالها برز أكثر عدم الرغبة الأمريكية في تسوية القضية الفلسطينية رغم المستوى الأعلى من التنازلات من الجانب الفلسطيني الذي وصل إلى حد التنازل عن أراضيه وحق العودة للاجئين ـ

تنازلات لم تسمن ولم تغني من جوع

ثم إبان رئاسة أوباما، وطيلة الثماني سنوات من إدارته البيت الأبيض لم يتوصل لحل ولا لتسوية ولا لتحقيق خطوة متقدمة بين الطرفين، بل انهارت المفاوضات تماما في عصره عندما طالب بتجميد الاستيطان، وبدأ الحديث عن حل الدولتين، فالصهاينة رفضوا أي حل يعترف بدولة فلسطينية بحدود 1967 أي في الضفة الغربية وقطاع غزة والقدس الشرقية. مهما كانت بنوده ومقتضياته.

الأرض مقابل السلام

http://gty.im/683292596

كان أساس التفاوض بين الطرفين على معادلة ظالمة تقضي بأن تكون الأرض مقابل السلام، فأي عدالة هذه التي تقر للمحتل أن يغتصب أرضي مقابل أن يكف عدوانه عني، ويا ليته يفعل!، ويكفي أن نعلم بأن قرارات الأمم المتحدة لم ينفذ منها قرار واحد، بل أمعن اليهود الصهاينة في اغتصاب الأرضي الفلسطينية وهدم بيوت أصحابها والتنكيل والاعتداء وسياسة العقاب الجماعي، دون أدنى رادع، بل كادت غزة أن تمسح من الخريطة ولم تلقى إسرائيل ردا يليق بحجم الجريمة والكارثة.

 حقبة ترامب وصفقة القرن

لم يخفى على متابع دعم ترامب الكامل لليهود منذ أطل برأسه على سباق الانتخابات الرئاسية الأمريكية، ثم كشف الرئيس المثير للجدل عما يسميه صفقة القرن، والتي لا تعد إلا صفعة القرن، وبدأ رده بإغلاق مكتب منظمة التحرير في واشنطن، تلاه إعلان القدس عاصمة دولة الصهاينة ثم قطع المساعدات عن وكالة إغاثة وتشغيل اللاجئين الفلسطينيين “الأونرا” الإنسانية لخدمة اللاجئين، كوسيلة لإذلال الفلسطينيين مع العلم أن حجم الاهانات التي كالها الرئيس الأمريكي المتعجرف كانت ثقيلة جدا أثارت عجب وسخط السلطة الفلسطينية بل والاستغراب، ولابد أن نشير إلى أن أي تحرك في هذه الصفقة لم يكن بدون موافقة أهم لاعبين في عملية الخيانة للأمة الإسلامية، السعودية ومصر، وهما الحليفان الاستراتيجيان اللذان يعول عليهما ترامب بلا شك.

ردود السلطة الفلسطينية

http://gty.im/677797904

نعم لقد تفاجأت، وتأذت أكثر  بسياسة الجفاء المفاجئ وتبديل الأقنعة أو إسقاطها عمدا، لهذا لجأت السلطة الفلسطينية إلى  المحافل الدولية، على رأسها الصين وروسيا، في محاولة لسحب البساط من تحت واشنطن، لا شك أن ردودها تبدو جدية، على الأقل بقرار قطع جميع أشكال التعاون مع إسرائيل بما فيها الأمني الذي دفع ثمنه الفلسطينيون ثمنا باهظا، وأيضا قطع التواصل مع الأمريكان، ومحاولة الضغط من خلال العزلة الدولية للقرار الترامبي الأخير، ولكن المضحك المبكي في ردود السلطة هو تعليق الاعتراف بدولة إسرائيل، وكأن الأمر نسبي يتعلق بمزاج المعترف بالأمس يعترفون بإقرار تام بهذه الدولة، ثم اليوم يعلقونه، لن نعترف فيا لها من صبيانية في التعامل.

لا سلام مع الأمريكان

الحقيقة التي وصل إليها بعض الفلسطينيين اليوم ممن كانوا يعولون على أمريكا في إدارة ملف السلام المزعوم، هو أنه لم تكن الجهود الأمريكية في سبيل سلام لصالح الفلسطينيين أبدا، بل كانت مجرد عملية تطويع للاستسلام، وكل ما هنالك هو أن أمريكا بمكرها روضت العرب فشغلت وقتهم بأوهام وأحلام، ترفرف في مخيلتهم طيلة نصف قرن من الزمان، مرت دون تقديم أي حل لصالح القضية.

واليوم حين بدأت بوادر صفقة القرن تتجلى، بدأت معها التحركات في سيناء لتفريع المساحات الشاسعة كي تكون موطنا جديدا للفلسطينين الذين سيهجرون قصرا من غزة ليستلمها اليهود في طرفة عين.

ولا أشك لحظة واحدة أن هذا التهجير لن يكون الأول، بل سيليه تهجير آخر يعطي سيناء لدولة بني صهيون كما يؤكد ذلك طموح دولة ” إسرائيل الكبرى”، وأما الفلسطينيين فسيذوبون في المجتمع المصري ويقفل ملفهم كأنه لم يكن، ثم بالنظر لأحداث سوريا، وبالتدخلات العسكرية الإسرائيلية المتواصلة في تلك الأرض، فإن المكر اليهودي يتربص بأرض الشام منتهزا فرصة الفوضى والضعف التي تمر  بها المنطقة والأمة على السواء، لينشر حبال مشاريعه التمددية.

واقع مرير

http://gty.im/521482332

وسأختم بقول ريتشارد فوك الذي عمل في وظيفة المقرر الأممي لحقوق الإنسان في الإنسان في الأراضي الفلسطينية المحتلة، حين قال: “هناك إدراك عام كبير على مستوى العالم أن الدبلوماسية كما تمت ممارستها من ناحية حل الصراع (الإسرائيلي- الفلسطيني) لأكثر من عقدين من الزمن، قد فشلت، على الرغم من أن المسألة كانت مشروعاً كبيراً للحكومة الأمريكية على مدى عقدين من الزمن. في الواقع، ما هو أسوأ من الفشل، أن هذه الدبلوماسية القائمة على المماطلة سمحت لإسرائيل، من خلال المواجهة والسرية، أن تسعى من دون هوادة إلى تحقيق رؤيتها في «إسرائيل» الكبرى «تحت غطاء واقٍ وقاس من الدعم الأمريكي. خلال هذه الفترة، أصبح الموقف المحلي الفلسطيني على نحو مستمر يسير نحو الأسوأ. والمحنة الإنسانية للشعب الفلسطيني باتت أسوأ وأكثر حدة من أي وقت مضى”.

إن الأمريكان شريك متواطأ في الإجرام الصهيوني بشكل يومي، فكيف يطمع فيها أن تكون راعية لسلام، بل محرضة بلا شك للاستسلام، وانحيازها لليهود ليس بحاجة لدليل مع استعانتها بحق الفيتو الذي يسمح لمدللتها إسرائيل بالتبجح والعدوان بلا رادع أو حتى انتقاص. ثم يكفي حجم الضرائب الذي تجمعه من شعوبها والمسلمين المقيمين على أرضها لتزود به معاركها ومصالحها الاستعمارية في العالم. لندرك حجم الخطر الذي يتوقد شرره من تلك البلاد الحليفة للصهاينة.

نفاق الإعلام الأمريكي

لقد شاهدت إصرار الأمريكان على دعم الصهاينة لتحقيق حلمهم وكان ذلك يظهر بجلاء من خلال إعلامهم الساقط الذي يكيل بمكيالين حين يبث أخبار فلسطين، من جهة بنشر اسم دولة إسرائيل منفردا دون إشارة لتاريخ الاغتصاب أو الاحتلال اليهودي لفلسطين، ثم بتصوير الجاني مجنيا عليه، وكثيرا ما كنت أتألم لتلك التقارير التي تعرض قصف غزة على أنه رد فعل طبيعي وحق مستحق لليهود بسبب إرهاب حماس التي تهدد الأحياء الإسرائيلية بصواريخها، ولم يكن هناك تعاليق منصفة مجردة من أي سياسة أو انحياز تنقل واقع الفلسطينيين المستضعفين وإن سالت دماهم في أرض يدوسها اليوم أبغض الخلق لله.

لقد كان ولا يزال إعلاما منافقا، يجمل قبح الصهاينة ويرمي المجني عليهم بتهم الإرهاب والعدوان، ما يجعل المشاهد العارف بواقع الحقيقة يسترجع ويتعجب من سحرة اليهود.

عدو لا حليف استراتيجي

إن المتأمل في الدائرة المحيطة بالرئيس الأمريكي ترامب كأمثال الهرمجدوني الشديد التعصب للنصرانية الصهيونية بنس، أو اليهودي الأرثوذكسي مبعوث ترامب الخاص لعملية السلام  الذي شغل منصب مستشاره لشئون إسرائيل خلال حملته الانتخابية. فضلا عن زوج ابنته المدللة  اليهودي الذي دفع ابنة ترامب لاعتناق اليهودية يجعلنا ندرك حقيقة الصهيوصليبية التي نتعامل معها في كل يوم.

وهي صهيوصليبية قامت لأجل تعزيز أمن إسرائيل في المقام الأول. وإضعاف المسلمين ومحاربة إسلامهم في المقام الثاني، وإن كان المقامين مرتبطين ارتباطا طرديا، لا يتم الأول بدون الثاني ولا يتم الثاني بدون الأول، إلا أن إدراك هذا الواقع للأسف لا زال لم يصل للمستوى المطلوب بين جماهير المسلمين.

نحن بحاجة لأن نفهم العقلية الأمريكية في هذا الصراع كي ندرك موقعها كعدو لا كحليف استراتيجي، وإن لم نزرع هذا الفهم في أذهاننا فسنبقى رهن الهيمنة الغربية إلى ما شاء الله أن يكون.

علينا أن نتخلص من قيود فرضها علينا هذا النظام الدولي العفن، لنكون جديرين بنصرة أرض المسرى والأقصى، وإلا فسيطمر ذكرنا التاريخ كأمة استغفلها عدوها فاستغنت فكان مصيرها الاستبدال.

د. ليلى حمدان

كاتبة وباحثة في قضايا الفكر الإسلامي، شغوفة بالإعلام وصناعة الوعي.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى